سعاده معاصرنا: نحو “نظام اجتماعي سياسي جديد”-أحمد أصفهاني
Share
في خضّم الفوضى الفكرية والسياسية والاجتماعية والأمنية التي تعصف بالأمة السورية وعالمها العربي (بل وبالعالم كله حالياً)، قد يبدو لبعض السطحيين أنه من الترف الفكري أن نطل على الإيديولوجيات العالمية المعاصرة من المنظور القومي الاجتماعي كما صاغه أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. لكن الحراك الفكري في العالم اليوم لا يمكن أن ينتظرنا إلى أن ننهي صراعاتنا ومماحكاتنا الداخلية المقيتة، فينطبق علينا المثل الشعبي “رايحين على الحج والناس راجعة”.
امتد العمر بسعاده سنوات قليلة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945 ـ 1949)، لكنها كانت فترة كافية ليستشرف طبيعة النظام الدولي الذي سينشأ بين الدول الكبرى المنتصرة في الحرب. فقد راقب باهتمام شديد قيام الثنائية القطبية المكونة من المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي، مؤكداً بعبارات واضحة أنهما نظامان لن ينجحا في “معالجة المعضلات الاجتماعية المادية ـ الروحية”. وقال: “إن نظام الطبقات الرسمالي (…) لم يكن نظاماً صالحاً للبقاء لأن المشاكل الاقتصادية الاجتماعية التي نتجت عنه أحدثت، ولا تزال تحدث حيثما بقي هذا النظام فاعلاً، تشنجات واضطرابات شديدة…”. وأضاف: “المحاولة الشيوعية، على أساس التعاليم المادية المحض، لم تحل بنظامها المبدأي مشكلة المجتمع الداخلية ولا مشكلة الحق الانترنسيوني”. (شروح في العقيدة، صفحة 158. طبعة 1958)
تحققت توقعات سعاده مطلع تسعينات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتفتت المعسكر الاشتراكي ونكسة الإيديولوجيا الشيوعية في معظم أنحاء العالم. وقد دفع هذا الواقع الجديد منظري القطبية الأحادية إلى اعتبار أن التاريخ قد انتهى، وأن المعسكر الرأسمالي حقق انتصاره النهائي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وكذلك ترافقت نشوة النصر تلك مع الترويج لمبدأ العولمة المتجاوزة للهويات القومية، مع ما يتفرع عنها من التعددية داخل المجتمع الواحد، و”حق” التدخل الخارجي على كل المستويات في أي مكان من العالم.
غير أن هذه العولمة المنفلتة من أي قيود لم تعمر سوى عقدين من الزمن تقريباً. إذ سرعان ما برزت قوى عالمية راحت تنافس القطبية الأحادية، وفي الوقت نفسه تتحدى النموذج الرأسمالي في الاقتصاد والاجتماع (الصين مثال واضح). ولم يقتصر التحدي الذي واجهه العالم الرأسمالي على الخارج، بل سرعان ما لاحظنا بروز النزعات الشعبوية العنصرية داخل الغرب الأميركي ـ الأوروبي الذي هو قمة النموذج الرأسمالي “الناجح” منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهكذا أُجبر المنظرون الرأسماليون مرّة أخرى على إعادة النظر جذرياً في المسلمات التي ركنوا إليها بعد هزيمة المعسكر الشيوعي.
وهذا ما يُفسّر لنا الضجة التي سبّبتها تصريحات أدلى بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أسابيع إلى إحدى الصحف البريطانية، ناعياً فيها موت الليبرالية الغربية التي قال “إنها أخذت تأكل ذاتها”. وعلى الرغم من الردود القاسية ذات الطابع السياسي التي جوبهت بها تصريحات بوتين، إلا أنها مسّت ـ من دون أدنى شك ـ وتراً حساساً لدى الدوائر الفكرية الغربية بحيث باتت مطروحة للنقاش وإن لم يكن على مستوى واسع حتى الآن. ولا بد هنا من توضيح أن الليبرالية الغربية لها مدارس متنوعة: على صعيد الاقتصاد تدعو إلى المنافسة الحرة وتقليص تدخل الدولة إلى الحد الأدنى. على الصعيد الاجتماعي تركز على الحريات الفردية وحقوق الجماعات والتعددية الثقافية. وعلى الصعيد السياسي هي ديمقراطية تمثيلية غالباً ما تحتكرها أحزاب تقليدية تتبادل السلطة على مدى عقود.
إن تصريحات بوتين والنقاشات التي أثارتها تؤكد لنا أن الغرب الأميركي ـ الأوروبي يبحث الآن في مسألتين: إما إصلاح نظامه الرأسمالي بشكل جذري، أو البحث عن نظام جديد في حال فشل التحرك الإصلاحي. وهي ليست عملية سهلة على الإطلاق، خصوصاً مع صعود اليمين الشعبوي العنصري في مختلف أنحاء العالم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النظام الرأسمالي ليس معرّضاً على المدى القريب لنفس مصير النظام الشيوعي، لكن تصاعد التحديات ستدفعه إلى مزيد من التأقلم مع المستجدات الشعبوية التي “تأكل بنية الليبرالية الغربية” على حد تعبير بوتين.
قال سعاده قبل أكثر من سبعين سنة: “إقامة نظام جديد لحياة جديدة، إذن، هو الهدف العملي الأساسي، هو الغاية التي تطلبها حياة أنسانية راقية”. وهذا النظام الجديد يقوم على ركيزتين متلازمتين: أولاً، القومية الاجتماعية التي تؤمن بأن الأمة مجتمع واحد قاعدته المواطنة والمشاركة في وحدة الحياة. وثانياً، الأساس المادي ـ الروحي (المدرحي) هو أساس الرقي الإنساني. وكيفما نظرنا إلى القضايا القومية والعالمية نجد أنه ما من مجتمع حققّ رقياً وتقدماً إلا وكانت هاتان الركيزتان في صميم فكره السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل أو بآخر. أما الأمم التي توغل في شعبويتها وفئويتها وعنصريتها فليس لها سوى مقابر التاريخ مكاناً تحت الشمس!