سعاده .. دماء طرية فوق جغرافيا قاسية!-زيد قطريب
Share
كُتب هذا المقال سنة 2018.
في كل مرة كان يُطرح فيها شعار (العودة إلى سعاده)، كنت أتساءل: وأين كنتم من سعاده طيلة الفترات الماضية؟ ألا يُفترض محاكمة المسؤولين الذين يرفعون هذا الشعار لأنه إقرار علني منهم بالخروج على سعاده طيلة سنوات مسؤوليتهم في المراكز المختلفة ضممن المؤسسات الحزبية؟
الآن وبعد مرور تسعة وستين عاماً على استشهاد سعاده، أين أصبحت أفكار صاحب مقولة (العقل هو الشرع الأعلى عند الإنسان)؟ هل يمكن تناول (الفكرة والحركة) التي أسسها عام 1932، بقراءات نقدية صريحة وشفافة لا تتردّد في وضع الإصبع على الجرح دون محاباة أو تردّد؟ وهل يمكن أن ندعم جرأتنا تلك بما كتبه سعاده إثر عودته من المغترب القسري عندما تفاجأ بحالات الانحراف العقائدي والدستوري التي عصفت بالمؤسسات فقام بطرد أعلى المسؤولين الحزبيين وعلى رأسهم نعمة ثابت ومأمون إياس ويوسف الخال؟ ألم يستغرب سعاده حينها سكوت القوميين على هذه الانحرافات بعامل النظام، وكان هذا يعني أن شريعة التعاقد تفترض المجاهرة وإبداء الرأي المدعّم بالعقيدة والأخلاق القومية الاجتماعية حتى لو كان المخطىء مسؤولاً؟
أذكر عندما كتبتُ منذ عدة سنوات في جريدة النهضة، مادة نقدية لاذعة حول أحد النشاطات الثقافية لمنفذية دمشق وأقيم في المركز الثقافي بالعدوي. حينها، احتجّ بعض القوميين بعد صدور العدد وتوزيعه على الوحدات على هذه المادة النقدية بذريعة أنه (لا أحدَ يقول عن زيته عكراً) كما يقول المثل المتخلف، وكان رأي الأمين عصام المحايري وهو رئيس التحرير، أن هذا النقد يؤكد الحالة الصحية التي لابد أن يعيشها الحزب، فهو لا يهادن أو يداهن أو يصنع الماكياجات التي تخبّىء العيوب، بل على العكس لا بد من المكاشفة والجرأة في التشخيص حتى لو اتصل الأمر بتناول إحدى المؤسسات الحزبية في نشاطها الثقافي العلني مع الجمهور. ولا نتحدث هنا عن عمل حزبي بل عن نشاط ثقافي كانت الدعوة فيه عامة.
الاحتفاء بذكرى الثامن من تموز، يتطلب جردة حساب كاملة لإشكالاتٍ لم تغب عن المشهد القومي منذ عام 1949 ليلة الجريمة التي لم يخجل التاريخ منها ولم يستفد منها الجيل الجديد الذي راهن عليه سعاده على أمل أنه سيقلب المعطيات. على العكس، فإن ماهية (سلطة الزعامة) والتقويم الحقيقي لرتبة الأمانة، والخلاص من مصيبة (المانح المستفيد) لهذه الرتبة، إضافة إلى عدم تفعيل لجان المديريات ومجالس المنفذيات وفصل السلطات وتبدّل المسؤولين ومشاركة القوميين في هذه العملية. والكثير من العناوين الأخرى مازالت مثار خلاف منذ أكثر من نصف قرن دون أن يتمكن القوميون من الوصول إلى تعاريف ومواقف محددة من هذه القضايا. بل إن بروز ظاهرة الطامعين بلعب دور (الزعامة) دون حق قانوني أو ميزات فكرية ومؤهلات تخولهم فعل ذلك، ورّطت الحزب تاريخياً في الكثير من المطبات والانقسامات بسبب تورّم الأفراد والدكتاتورية التي مُورست بحق الرفقاء بذريعة الالتزام بالنظام، فنشبت الاغتيالات وتفاقمت التشرذمات التي ادّعى كل منها إنه يمتلك الحق والخير والجمال (بطابو أخضر) يؤكد أنه الوريث الشرعي للزعيم مع أن الواقع كان يقول غير ذلك للأسف!
هل يمكن تقييم فترة الخمسينيات والأحداث التي عصفت بها، وهل يمكن تحديد تفاصيل انقلاب 1961 وهل يمكن اقتفاء أثر الانحرافات العقائدية والدستورية من قبل أخصائيين يعملون بشكل علمي ممنهج دون أي تأثير من أحد.
ألم نسمع عن قادة قوميين تُنسج لهم الأغنيات التي تمجدهم كزعماء يشبهون من يفترض أن يثور عليهم الحزب لأنهم رمز الاستئثار والتمسك بالكرسي؟ ألا يشكل ذلك تشكيكاً بمقدرة القوميين الاجتماعيين على تنكب المسؤوليات ويسلب الحزب أهم ميزاته وهي تغير المسؤولين وتعاقبهم استناداً إلى الامكانات التي يحملونها وصندوق الانتخاب؟
نعيش هذه الأيام زمن الثورة القومية الاجتماعية الأولى التي انتهت باستشهاد سعاده وملاحقة القوميين وزجهم بالسجون. وربما لا يوجد أنسب من هذه الفترة لإثارة الأسئلة النهضوية التي دفع سعاده ثمنها عن طيب خاطر. سعاده الذي كان يستلم مناوبات الحرس وينهمك بالأعمال العادية أو يركب الدراجة كي يوزع الجريدة أسوة بأي رفيق في الحزب، كان يشاء أن يلقن الآخرين الدروس، فنحن منذ أول رئاسة بعد سعاده لم نشهد سوى (طفشان) للمثقفين الذين كان يجمعهم سعاده في حين حدث الشقاق الكبير بين العسكرة والثقافة بعد استشهاده بسبب الخوف من المنافسة على المناصب وعدم القدرة على مجاراة مثقفين مهمين في المؤسسة لذلك كان لابد من ترحيلهم كي تفرغ الساحة تماماً من (المشاغبين) أو المنافسين المحتملين، وسنذكر هنا اللقاء الشهير الذي تم بين سعاده والشاعر سعيد عقل وكيف استطاع سعاده تغيير الكثير من أسلوبية سعيد في كتابة القصيدة عبر النقاش والغنى الثقافي الذي تميز به المعلم، في حين هرب معظم مؤسسي مشروع الحداثة والكتابة الجديدة من الحزب على دفعات بعد رحيل الزعيم لأن وجودهم لم يعد مرغوباً به للأسف!
بعد تسعة وستين عاماً على استشهاد صاحب وقفة العز الأشهر في التاريخ السوري الحديث، والمتنبىء بانتصار الأمة رغم التضحيات الجسام والطرق الشاقة التي على القوميين اجتيازها للوصول إلى تحقيق مجد الأمة السورية وإحياء الحيوية والحياة في روحها وجسدها الذي تتكالب عليه اليوم السهام والرماح من كل حدب وصوب، أحاول أن أقرأ سعاده بمكاشفات جريئة وواضحة قوامها العقل ومصلحة الأمة، ذلك أن جعبة المؤجلات قد امتلأت تماماً سواء تحدثنا عن الناحية الدستورية أم الفكرية أم السياسية والاقتصادية والاجتماعية!
لماذا لم تتمكن المؤسسات منذ استشهاد سعاده من تقديم كشف حساب عن إنجازاتها لنصرة الفكرة والحركة اللتين تتناولان حياة أمة بأسرها؟ وإذا ما اكتفينا بتناول حال الحزب الذي يصفه سعاده بأنه (الأمة مصغرة)، فهل يمكن إجراء المكاشفات المطلوبة استناداً إلى الشرع الأعلى الذي نادى به سعاده قبل أن تنال منه الحراب المنطلقة من كل الجهات؟
لماذا لم تنتصر (الفكرة والحركة) حتى اليوم؟ ولماذا لم تتمكن من تأسيس نموذج ناجح وراسخ في إحدى كيانات الأمة؟ لماذا لم تؤسس روضات ومدارس تعتني بتنشئة الجيل الجديد مثلما كان الأمر في الخمسينيات، مع أن الشكوى من التجهيل وتخلف التعليم وانتشار الطائفية تحتل واجهة الإعلام والأحداث؟ ما الذي أضفناه إلى الفلسفة المدرحية التي لم يتمكن سعاده من إكمال شروحاتها ووضع مؤلفاتها بسبب الاستشهاد المبكر؟ كذلك الأمر بالنسبة لكتاب نشوء الأمة السورية الذي اختفى في دهاليز فرنسا ولم نشهد محاولات جادة تشرح الحقب التاريخية عبر اختصاصيين ترعاهم المؤسسات الحزبية؟ أليس كل هذا من مهامها؟
استشهد سعاده في الخامسة والأربعين من العمر، وهذا وحده كفيل بتصور المهام الجسام التي تنكّبها خلال عمره القصير كأنه كان يعلم بسباقه مع الموت بسبب كثرة الأعداء الداخليين والخارجيين. وإذا ما تخيلنا أنه قد عاد فجأة بمعجزةٍ ما، فماذا سيكون موقفه اليوم من الأحداث وحال المؤسسات التي رحل وهو مطمئن أنها راسخة لا تتزحزح فقال لجلاده يومها (أنا أرحل أما حزبي فباق)؟
كل عام، في الثامن من تموز، تتفتح شقائق النعمان على دماءٍ لاتزال طرية رغم انقضاء عشرات السنين على سفكها فوق رمل بيروت، مثلما تستيقظ غابة كاملة من الأسئلة في العقيدة والمؤسسات ومستقبل الأمة.. “يا خجل تلك الليلة من التاريخ”!