ستيف بانون وحُقَن تخدير أوروبا
Share
صوفي نادر
إذا كان فك أواصر الاتحاد الأوروبي، لأسباب باتت معروفة، هو أحد أهداف الإدارة الأميركية منذ تولي ترامب سدة الرئاسة، يبقى المال عنصرا أساسيا تدور حوله كافة التوجهات ، سياسية كانت أم غير سياسية، لما لهذا العنصر من أهمية في مجال الهيمنة الإقليمية والدولية. وما الفضائح المتعددة التي أزيل النقاب عنها تباعا داخل الإدارة الأميركية إلا دليلا على تمرمغ عناصرها في مسائل مالية غير نزيهة.
إنما من الظلم أن يُتهم عنصر واحد دون غيره في أية فضيحة كونها مرتبطة ومتعلقة بخطط مرسومة بحنكة ودراية. وككل خطة محددة ببنود متعددة هناك العديد من اللاعبين المضطلعين بمهام واضحة. فلا يغرننا مثلا أن يختلف ترامب مع أحد مساعديه فيطرده وينهال عليه بالتهم لأننا سنرى نفس المساعد يعمل لصالح ترامب في مجالات أخرى علنية كانت أم مخفية.
ستيف بانون، اليد اليمنى السابقة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمسؤول السابق عن استراتيجية البيت الأبيض، هو أحد العناصر القيمة في التوجه السياسي الأميركي. فبعد أن نزل عليه غضب البيت الأبيض في آب 2017 بقي بانون في الخفاء لفترة عشرة أشهر مكثفا تنقلاته وتحالفاته الأوروبية في خدمة طموحه، ألا وهو لم شمل كافة الحركات الأوروبية اليمينية المتطرفة في حركة واحدة والعمل بجدية على إيصال ثلاثين نائب على الأقل إلى البرلمان الأوروبي وبالتالي التأثير على القرارات الأوروبية المستقبلية. وبالرغم من صمود الاتحاد الأوروبي حاليا أمام هذه التحديات الأميركية، تبقى نسبة نجاحه بالصمود ضئيلة بالمقارنة مع ما سيقدمه بانون وبالتالي ترامب. لم يكتف بانون بتشكيل حركة « الحركة » وفيها الجبهة القومية الفرنسية، الوحدة الإيطالية، الحزب الحاكم الهنغاري، الحزب اليميني النمساوي، بل أطلق إضافة إلى كل هذا عملة مشفرة خاصة به الهدف منها الاستقلالية المالية التامة.
أصبحت هذه الوسيلة المالية هي الوحيدة المتبعة من قبل كافة الحركات اليمينية في أميركا وأوروبا. العمل بها سهل جدا إذ تتم التحويلات المالية عبر وسائل الاتصال المتعارف عليها حاليا دون اللجوء إلى المصارف وتنجو بالتالي من كافة أنواع الرقابة. وسيقوم ستيف بانون بمكافأة الحركات الأوروبية اليمينية عبر منحها من المال ما يكفي لحملاتها الانتخابية أو لدعم اللوبي الخاص بها.
ربما، وبالرغم من معرفتنا بقوة وسيطرة عامل المال على السياسة العالمية بشتى أنوعها، غاب عنا خطر هذه الوسيلة المالية المشفرة. لأنها بنجاتها من الرقابة تسمح للعديد من الشوائب أن تظهر اجتماعيا دون أن يكون للعالم بأسره أي معرفة مسبقة بها ولا القدرة على احتوائها ومنع انتشارها. وهنا أصبح سن القوانين المتعلقة بهذه الممارسة أمرا ضروريا إن كان لمعتنقيها أو لمحاربيها. فلذلك وجب معرفة خباياها والفضاءات المتعددة التي تعمل من خلالها.
وللمال حسنات تخديرية رائعة. أفيون عال الجودة، لا يمكن الحصول عليه إلا بعد التنازل عن كافة القيم الأخلاقية والاجتماعية. وللتخدير مراحل تبدأ بدولة بأكملها ثم بمجموعة معينة من الناس كالأحزاب والجمعيات التي من المفترض أن تراعي مصلحة المجتمع وأخيرا تتأصل في الفرد ليصبح هذا الفرد الكائن الأكثر أهمية. أما مراحل التخدير المتتالية التي سيعمل عليها بانون فهي:
– تخدير الاتحاد الأوروبي فيركز على مسائله الداخلية وينسى التحركات التي يقوم بها الرئيس الأميركي مع الأطراف الدولية الأخرى وأهمها روسيا والصين.
– تخدير الأحزاب والحركات اليمينية والمشككة بالوحدة الأوروبية.
– وأخيرا تخدير المواطن الأوروبي عبر إعطائه حقنات مالية تزيد من تصلبه وتحجره السياسي والعمل بعيدا عن الصالح العام.
كل هذه المراحل ستؤدي دون أدنى شك إلى غرس النزعة الفردية في العالم بأكمله فلا يعود المجتمع هو ركيزة انطلاق النمو والتقدم والرقي، وتنتهي فكرة الانتماء إلى الأرض، وتصبح الأنا المرجع الأوحد. وإن حصل أن تعاظمت روح التضامن بين الأفراد فلن تتعدى المجموعات الإثنية أو الدينية مثلا أو الأحزاب السياسية كأقصى حد.
هذه الظاهرة، وإن كانت موجودة منذ القدم لتهدم كافة الحركات والتوجهات الوطنية التي تعمل للصالح العام، أصبحت اليوم السلاح الوحيد الذي تلجأ إليه الأطراف القوية لتحقيق مبتغاها. وإن كانت في السابق تسمع صرخات الامتعاض منها، أصبح حاضرنا يعمل لترسيخها ويقيم السباقات لاختيار الأفضل في ممارستها.
وبهذا، إذا كان انتماؤنا مثلا إلى أمتنا أمرا يعنينا ويعني وجودنا، فعلى هذا الوجود أن يكون اجتماعيا شاملا. وكي يكون شاملا وجب أن يحتوي على القيم التي يقام عليها المجتمع. وإذا كانت النزعة الفردية وقد زينها المال بشتى أطره تقف سدا في وجه المجتمع فلأنها لا تمت إلى القيم بشيء.
إنما في أمتنا، تجري أفضل السباقات المالية دون الحاجة إلى بانون. والسباق يفترض وجود وحدات وفصائل . فلو كنا وحدة متحدة لما تسابقنا.
شكراً صوفي. تحليلات محقّة و مفيدة