جماليات لا ينالها الاغتيال
Share
شام قطريب
المنحوتات السورية القديمة التي وصلتنا بفضل التنقيبات الأثرية، تؤكد أن السوريين قبل الميلاد، اشتغلوا بالفنون انطلاقًا من أهداف جمالية ودينية وأدبية منذ آلاف السنين، وأنتجوا أعمالاً بديعة الجمال بمعدات يُفترض أنها بسيطة مقارنة بما يستخدمه فنان هذا العصر. هذه الأعمال التي نقل معظمها إلى الغرب خاصة بعد الغزو الأميركي للعراق، تعتبر النسخة الأساسية للكثير من فناني العالم الذين ما زالوا يتقاطرون إلى المتاحف كي يتعرفوا إلى الأعمال الخالدة مثل بوابة عشتار والملك سرجون وحمورابي وجلجامش، والكثير من المنحوتات التي تصور الحياة الاجتماعية والعادات والمفاهيم في تلك المرحلة من تاريخ أمتنا..
على سبيل المثال لا الحصر، يصلنا رأس كبش من تمثال مصنوع من الحجر الجيري يعود إلى الحضارة السورية السومرية وعمره 3000 عامًا قبل الميلاد، وفيه تظهر البراعة في العمل، حيث كان يطلق على هذا الحيوان Ganam بالسومرية وتعني “غنم” التي أخذتها اللغة العربية لاحقًا. الجماليات في هذا العمل لافتة، وقد اعتمدت الكثير من الحضارات أسلوب تصوير الحيوانات وإعطائها بعدًا أسطوريًا من أجل الحديث عن قصة معينة، أو بهدف تصوير المشهد جماليًا فقط. “المنحوتة موجودة في مشروع قاموس بنسلفانيا السومري.”
تأكيدًا على الجمالية والمهارة في النحت، نورد هذا التمثال لكلب وعمره أكثر من 4000 عام، أهداه طبيب من مدينة “لكش” للآلهة نينيسينا، ويتضمن تفاصيل دقيقة تدل على مهارة نادرة ومدهشة لا يبدعها سوى فنان من درجة عالية وهو موجود في متحف اللوفر بباريس.
لابد أن نذكر أيضًا، بوابة عشتار الشهيرة مع أزهار البابونج والأسود والعديد من الحيوانات الأخرى، التي يطغى على أرضيتها اللون الأزرق. وقد حاولت العديد من الثقافات تقليد هذا العمل الرائع لكن لم تضاهي البوابة التي شيدها الملك البابلي نبوخذ نصر حيث يعدها العلماء أعجوبة العالم. وما يمكن أن يدل على البراعة في العمل، هو الحلي الذهبية التي عثر عليها العلماء في المدافن السورية القديمة، فالحرفيون السوريون كانوا فنانين بكل معنى الكلمة، وللأسف هناك الكثير من تلك المكتشفات موجودة في متاحف الخارج ونضطر للعودة إلى معاجم المتاحف الخارجية من أجل الحصول على صورها ونجمع المعلومات عنها.
الفنون السورية اليوم
سنأخذ تجربتين هامتين في المشهد التشكيلي السوري، الأولى متصلة بالرسم وهي للفنان نبيل السمان، والثانية مختصة بالنحت وهي للفنان محمد بعجانو، وكلاهما ينتميان لمدرسة النهضة، وقد عملا على ربط الفن الحديث بالتراث الجمالي السوري القديم، وهي مهمة شاقة وصعبة لم تكن لتتوفر في هاتين التجربتين لولا الوعي القومي الاجتماعي الذي كشف أهمية تراث الأمة وضرورة الإضافة إليه وليس تقليده أو استنساخه بشكل أعمى، بل بشكل يواكب فيه الحداثة ويحتفي به ويضيف إليه كل فنان من خصوصيته وخبرته العملية ما يراه مناسبًا..
عمل الفنان نبيل السمان “1957” على موضوع الأسطورة منذ بداية تجربته، فعاد إلى آثار تدمر ورسم معالمها القديمة وجمعها مع الأساطير السورية، كما صور الملكة زنوبيا، وزرع صفات الأنثى القوية في نساء اليوم اللواتي يرسمهم في لوحاته، هذا النهج أعطى السمان خصوصية فريدة جعلته صاحب قضية في العمل الفني، فلم تكن لوحاته مقطوعة الجذور أو تذهب باتجاه تقليد الغرب، بل كان يركز دائمًا على الخصوصية المحلية السورية في العمل، الأمر الذي جعله يتميز عن التجارب التجريدية التي أوغلت في الغموض اللوني وخلت إطاراته
ا من الخطوط التي تدل على براعة الفنان، فكانت بذلك لا تختلف عما نشاهده في أعمال فناني الغرب.
رسم السمان القيثارة السومرية مع رموز الشخصيات التاريخية مثل جلجامش وعشتار، وتتبع مفهوم الانبعاث في الأسطورة والخصب ومفهوم الفناء والبقاء عبر الإنجاز والعمل على الأرض وليس في الماورائيات التي حفلت فيها الحضارات الأخرى، وبالتالي كنا أمام تجربة امتلكت الحداثة والتراث في آن معًا، إنها تجربة لا تنقطع عن الجذور ولا تتخلى عن خصوصيتها فتقلد الآخرين.
التجربة الثانية التي نودّ الإشارة إليها هنا، هي تجربة النحات محمد بعجانو “1956”، الذي يتصل مباشرة بالإرث النحت السوري القديم منذ عصور ما قبل الميلاد وصولاً إلى شيخ النحاتين السوريين سعيد مخلوف الذي اشتهر بأعمال كثيرة منها نصب المقاومة الوطنية اللبنانية المنصوب في ساحة ضهور الشوير. الفنان بعجانو كان من القلائل الذين جمعوا طرفي المعادلة الفنية بين الماضي والحاضر، فهو لم يقع في مشكلة تكرار الأسلاف إنما اعتمد على الذائقة السورية القديمة في استلهام موضوعاته وكانت الأسطورة والشخصيات البابلية والآشورية تترك بصمتها في أعماله المختلفة التي استخدم فيها الخشب والحجر، وقد امتاز الآلهة عشتار وأضاف إليها الكثير من ملامح العصر، وظل يحتفي بها في الكثير من الأعمال التي نلاحظ النهج السوري في تنفيذها.
تجربة محمد بعجانو تركت بصمة مدهشة على المستوى المحلي والعالمي، وقد أثبت مهارته في التعامل مع مختلف أنواع المواد والكتل الحجرية أو الخشبية، في هذه التجربة تظهر الذائقة الجمالية السورية في أبهى صورها، وذلك بالتأكيد يرتبط بميزتين يمتلكها الفنان الأصيل، الأولى هي العمق الفكري والثاني الموهبة والمهارات الفردية التي أحسنت سبر المخيلة ووصلت إلى خبايا الجماليات السورية وأحسنت التعامل معها.
لا تقطعوا الجذور!
أحد الفنانين السوريين المتواجدين في الغرب، لا تخلو تجربته من البراعة والمهارة في التصوير، لكن الوسط الفني الألماني كان يقول له دائمًا بعد كل معرض، إننا نريد أن نراكم في لوحاتكم الفنية! لا نريد أن نرى الفن الغربي، لأنكم بذلك لا تضيفون لنا شيئًا!
هذا الرأي الوارد على لسان فنانين غربيين، يؤكد مدى فعالية الاشتغال على تطوير المحلية السورية في أعمال الرسم والنحت، فالغرب يعرف حجم الينابيع التي يمكن أن يشرب منها الفنانون في منطقتنا، لكن للأسف، فإن التقليد والانسياق أحيانًا وراء العامل المادي وهاجس بيع اللوحات، يحرف التجارب عن مسارها الحقيقي ويلبسها غير لبوسها الصحيحة، وبالتالي فهي دعوة إلى العودة للجذور وكشف جمالياتها والاشتغال عليها بشكل معاصر والإضافة إلى كنوزها الكثيرة التي يعود إليها الفضل فيما نحن عليه الآن.