الهروب عبر الفانتازيا ودراما العصر الجاهلي!
Share
أثار الإعلان عن البدء بإنتاج فيلم طويل عن “الزير سالم” الكثير من الأسئلة حول خواء العناوين الملحة في الساحة العربية وسياسة المحطات القوية صاحبة رأس المال في تبني هذا النوع من المشاريع أو التشجيع عليه! قضايا أكل الزمان عليها وشرب يتم إعادتها بعد أن قُدمت سابقاً، بميزانيات كبيرة وكوادر تعمل ليل نهار، كي تُظهر لنا كيف كان حال “المهلهل” عندما وصله نبأ مقتل أخيه “كليب”. فهل صناعة الرأي العام وتربية الأجيال تتطلب هذا النوع من الأعمال؟ وهل هي ضرورية أكثر من مشاكل الإنسان السوري والعربي والاحتلالات التي تتعرض لها الأرض من كل الجهات، مع كل المخاطر التي يمكن أن ترافق كل ذلك؟ أم هي دراما التسالي وتقطيع الوقت حتى لا يتمكن هذا الإنسان من التفرغ للتفكير بحاضره ومستقبله. الحرص على استقدام أفكار العصر الجاهلي والاحتفاء بها، ليس عبثاً كما نعتقد، والجميع يعلم أن الدراما الواقعية السورية التي سبق أن انتعشت في بداية نهضتها، تعرضت لتحكم الشركات المنتجة وأصحاب رؤوس المال حتى تتوقف عن تناول العناوين الإشكالية الهامة مثل الطائفية والفقر وأحوال المجتمع الثقافية والاقتصادية وغيرها..
في فترة سابقة من حياة الدراما السورية، حضرت مسلسلات الفانتازيا التاريخية التي تحاكي عصوراً لا يعرف أحد إلى أين تنتمي. ولو أن تلك الأعمال كانت تنطوي على رموز وإسقاطات، لقلنا إن ذلك يعتبر تحايلاً على الرقابة من أجل تمرير أفكار ترتبط بالواقع، لكن تلك الأعمال بقيت قائمة على الثأر وتمجيد أعمال البطل الفردي رئيس العشيرة وغير ذلك من تفاصيل مرتبطة بالعصور الجاهلية أو بالأحرى بواقع آخر لا يمت إلى الواقع السوري بصلة.
لن نتهم الجميع بالتآمر على الذهنية السورية، لكن إن كانوا يعلمون فتلك مصيبة وإن كانوا لا يعلمون فالمصيبة أعظم. فالمصبات النهائية لتلك الأعمال تعمل على صرف نظر الإنسان عن مهامه وهمومه الحالية، وعن أسئلته الخطيرة والوجودية التي يفترض أن يجيب عليها اليوم وقبل الغد، فكيف نفسر تكريس ذهنية العشيرة في مجتمع لا يعرف كي ينجو من الطائفية اليوم؟ أليس هذا نوعاً من تكريس التشرذم والانقسام؟
في السابق، تعرض مسلسل “باب الحارة” بأجزائه الكثيرة إلى انتقادات واسعة بسبب تصويره الدمشقيين كأناس متخلفين منغلقين مشغولين غالباً بالطعام واضطهاد المرأة وغير ذلك، مع أن الصور والأحداث التي نعرفها جميعاً عن فترة الخمسينيات كانت تقول غير ذلك، فقد كانت دمشق تمتلىء بالصحف والأحزاب والنشاط الثقافي والمنتديات، وكانت جامعة دمشق في مقدمة الجامعات العالمية. فكيف يمكن أن نفسر ذلك الهوس بالعودة إلى العقلية العشائرية المتخلفة في واقع كانت متطوراً جداً أكثر من الحال اليوم؟ المسألة بالطبع تدعو للتساؤل والتفكير، وهذه النقطة لا تختلف عن حال تبني الدراما لعناوين من العصر الجاهلي وإعادتها انتاجها اليوم، فهذه الأعمال تصب في الإطار نفسه ألا وهو صرف نظر الإنسان السوري عن همومه الراهنة وإغراقه بعقلية غريبة عنه أقل ما توصف به هي العشائرية والتخلف والثأر الشخصي!
إلى جانب هذا النوع من الدراما، لابد من الإشارة إلى دراما الإثارة البوليسية وعصابات التهريب التي سوقتها بعض المسلسلات خلال السنوات الماضية. جميع تلك الأعمال يركز على صراع القرى فيما بينها وصراع العشائر والاستئثار بالمكاسب والانتقام من الأخ والصديق الذي يمكن أن يخون في أية لحظة. كيف يمكن أن نفسر كل ذلك وهو هو اتجاه عبثي نشأ بالمصادفة في الدراما أم إنه مخطط له؟
في كل موسم، تستطيع بعض المسلسلات أن تهرب من هذه الكارثة، لكن الدائرة تضيق في ظل تشجيع شركات الإنتاج الكبيرة صاحبة رأس المال على هذا النوع من الأعمال الجاهلية. وهذا الأمر يشبه ما حصل على صعيد الأغنية العربية بشكل عام عندما نشأت محطات ممولة كبيرة مثل روتانا، قامت بالتعاقد مع المطربين وكان من ضرورات العقد أن يغنوا الأغنيات التي تختارها المحطة والألحان التي تحددها لهم، بذريعة أن لديها خبراء يعرفون طبيعة كل صوت وما يناسب الجمهور في هذه المرحلة! كل هذا أدى إلى تراجع الأغنية العربية بشكل عام، كما تورطت بالهشاشة والإسفاف والكلمات السطحية والألحان المقلدة، ولم يكن ذلك إلا جزءاً من تخريب الذوق العام عن قصد أم غير قصد!
الفنون البصرية تأخذ الدور الأهم اليوم في صياغة الذهنية العامة، ولأجل هذا يتم التركيز عليها من قبل شركات الإنتاج، ومن المستغرب أن تغيب شركات الإنتاج الوطنية الملتزمة التي تمارس دورها التنويري في المجتمع، أو تكون ضعيفة الميزانيات بحيث لا تتمكن من مواجهة شركات الإنتاج الكبيرة التي تبتلع كل شيء وتفرض الأفكار على المخرجين! القضية هامة وتحتاج إلى نقاش مسؤول يضع النقاط على الحروف!