المغامرة المستمرة.. حوار مع المفكر والباحث فراس السواح
Share
حين رأيته لأول مرة يشعل غليونه على إحدى الضفاف مبحراً في عوالم الميثولوجيا والأديان برؤية المفكر وتبصر العالِم، لم أتخيل أن الحظّ سيمنحني دقيقة من الدقائق التي وسم بها الحياة حين قال ذات مرة الحياة ثلاث دقائق فقط، لأتقابل وجهاً لوجه محاورة المبدع الذي ترك المشترك والمألوف والمتعارف عليه ليقول ما يخشى الآخرون قوله.
- أقمتَ على فترات في ثلاث قارات حول العالم كانت آخرها سبع سنوات في الصين، ماذا عن تجربة الكتابة في الغربة، وما هي طقوس الكتابة لدى فراس السواح؟
+ ما من تأثير للغربة على الكتابة، والغربة هي غربة عن الكتابة. وطالما تيسرت لك شروط الكتابة فأنت في وطنك.
الكتابة هي نمط في الحياة وليست أمرًا نقوم به على هامشها. وبالإذن من ديكارت أقول: “أنا أكتب إذاً أنا موجود” . وعندما يختار المرء الكتابة نمطًا لحياته، فإن كل ما عداها يبقى ثانويًا. إنها أشبه بالعاشقة الغيور التي تبعدك عن أهلك وأصدقائك وكل مشتهياتك. وطالما أن لديك ما تكتبه وأفكار تضغط عليك لتعبر عنها، فإنك تكتب تحت أية ظروف وفي أي مكان. عندما تنقلت مع عائلتي للإقامة في مدينة حلب، لم يكن عندي في السنة الأولى مكتبًا أعمل فيه. وكان أولادي صغارًا يصخبون في البيت، فكنتُ ألجأ إلى المقاهي المزدحمة بالرواد الذين يضجون ويلعبون طاولة الزهر، حتى إنني في إحدى الليالي لم أجد مكانًا إلا تحت شاشة التلفاز الذي كان يبث الأغاني البدوية، لكني مع ذلك لم أكن أسمع سوى صوت أفكاري وإيقاعات بقبقة ماء النرجيلة العجمي التي أدخن. لكن أغرب مكان للكتابة كان في خيمتي على الجبهة إبان حرب تشرين 1973.
في أواخر عام 1968 تخرجتُ من كلية ضباط الاحتياط برتبة ملازم اختصاص مدفعية وصواريخ مضادة للدبابات، وبعد سنة ونصف سُرّحت من الخدمة لأستدعى في العام التالي لدورة قائد سرية في مدرسة المشاة بحلب دامت ثلاثة أشهر.
وفي عام 1973 استدعيت للخدمة الاحتياطية في حرب تشرين، خلال ما دعي في ذلك الوقت بحرب الاستنزاف. والتحقتُ بأحد الألوية العسكرية المتمركزة على الجبهة وأسندت إلي مهمة قيادة سرية المدفعية المضادة للدبابات. لم يكن يمر أسبوع علينا دون أن يشتبك لواؤنا مع العدو طيلة النهار، لأجلس في المساء إلى طاولة صغيرة في خيمتي عليها مصباح من الكاز أغذيه بالمازوت لعدم توافر الكاز، وأكتب زُلَفًا من الليل. كنت قبلها قد أنهيت مخطوط كتاب مغامرة العقل الأولى ووضعته عند صديقي المرحوم مصطفى الحلاج ورجوته أن يراجعه وينشره في حال عدم عودتي من الجبهة، وحملت معي الفصل الأخير الذي كان أشبه بملحق للعمل عنونته ” أسطورة عشتار وأزمة الحضارة” لأنهيه خلال حرب الاستنزاف.
- لا أذكر أني قرأتُ في كتابك مثل هذا الفصل!
+ صدر الكتاب بدونه، فبعد تسريحي من الخدمة قدمت المخطوط إلى اتحاد الكتاب العرب لنشره، فاحتفظوا به لأكثر من سنة لأنهم لم يجدوا أحدًا يعطي رأيه في قيمته وصلاحيته للنشر، قم قرروا أخيرًا تحويله إلى العلامة أنطون مقدسي رئيس دائرة الترجمة والنشر في وزارة الثقافة، فقرأه وأوصى بنشره حالاً وطلب الاجتماع بي. حين دخلت عليه وقدمت نفسي مد يده وعلى وجهه علائم الاستغراب. كنت آنذاك في الثلاثينيات من العمر بشعر طويل وسوالف تصل إلى منتصف الذقن، مرتديًا زيًّا شبابيًا غريبًا مما كنا نرتديه في تلك الأيام. لعله كان يتوقع مقابلة رجل في الخمسينيات، أشيب الشعر بزيّ “محترم” يليق بالباحثين!
أثنى على الكتاب وأعلمني أنه أوصى بنشره على الفور. لكنه اشترط علي حذف الفصل الأخير فوافقت دون تردد. في ذلك الفصل كانت بذور كتابي الثاني “لغز عشتار” الذي صدر بعده بتسع سنوات.
- ما هو برنامجك اليومي وكم ساعة تخصصها للكتابة؟
+ أعيش وحيدًا منذ وفاة زوجتي وسفر أولادي الثلاثة. ما يعني أني أملك الوقت كله كي أكتب لا سيّما وأن عاملتين منزليتين تتناوبان على إدارة شؤون بيتي. لكن هذا لا يعني أنني أجلس وراء طاولتي في غرفة المكتب أسوّد الصفحات. فقد أُمضي ثلاثة أيام لا أقوم خلالها إلا بالتفكير، لأجلس في اليوم الرابع لأكتب صفحة واحدة، وفي الخامس ربما وجدت نفسي أكتب عشر صفحات دون تروٍ أو تفكير مسبق، لأن العقل يعمل أحيانًا دون وعي منك وأنت تظنه ساكنًا. ما زلت أكتب على الورق بقلم الرصاص، لأني لا أستطيع التفكير بينما تلعب أصابعي على لوحة مفاتيح الكومبيوتر.
- هل يعني ذلك أنك لم تدخل عالم الكومبيوتر بعد؟
+ حتى صيف عام 2012 لم أكن قد لمستُ الكومبيوتر مستعينًا بأحد أصدقاء ابني ليدير لي صفحتي على الفيس بوك ويطبع لي مقالاتي التي أنشرها في الدوريات والمجلات الالكترونية. لكن عندما جاءني عرض جامعة بكين للدراسات الأجنبية لتدريس الثقافة العربية لطلابهم، عرفت أنه لا مناص لي من صحبة الكومبيوتر. وقبل شهر من سفري اقتنيت جهازًا وتدربت على طريقة استخدامه، ثم حملّت عليه من الكتب والمراجع ما تنوء به قافلة جمال متجهة إلى الصين عبر طريق الحرير، وعرفت أنه من نِعَم العصر الحديث.
- يعتبر كتابك مغامرة العقل الأولى الصادر عام 1976 المرجع الأهم في دراسة ميثولوجيا سوريا وبلاد الرافدين، ومازال هذا الكتاب رائجًا لدى القراء إلى جانب مؤلفاتك التي تتابعت بعده والتي وصلت إلى 25 مؤلفًا في طبعة الأعمال الكاملة الصادرة عن دار التكوين السورية، إلامَ تعزو نجاح هذا الكتاب؟
+ كان الكتاب جديدًا على الثقافة العربية في موضوعه ومقارنته للأفكار الدينية عبر العصور، والأهم من ذلك، التعامل مع تلك الأفكار بتقدير واحترام وعدم الانتقاص من قيمة إيمان عموم الناس، وهذا ما حرصت عليه في بقية مؤلفاتي. لقد أردت له أن يكون فاتحة لأبحاث يقوم بها آخرون تتجاوزه وتضيف على ما خرج به، لكن هذا لم يحصل والذين كتبوا من بعدي في الميثولوجيا كانوا أشبه بأدباء يفتقدون المنهجية الصارمة التي ميزت مؤلفاتي. لذلك فقد اتخذ الكتاب صفة الكلاسيكية، و طبع باستمرار لعدم وجود منافس له. منذ زمن طويل وأنا أنتظر شابًا في أوائل الثلاثينيات من عمره يطرق بابي ويضع أمامي مخطوطًا ويقول: تفضل. لقد تعلمت منك ولكني تفوقت عليك. عندها سأشعر أن مهمتي في الحياة قد أدت غرضها على أكمل وجه.
- صدر كتابك الثاني لغز عشتار عام 1985، أي بعد تسع سنوات من كتابك الأول، لماذا صمتّ طيلة هذه الفترة؟ هل كان ذلك ناتجًا عن صعوبات ومشاكل حالت دون متابعة الكتاب؟
+ لقد أربكني نجاح الكتاب الأول وكان على الكتاب الثاني أن يتجاوزه ويتفوق عليه، وهذا ما دفعني إلى التريث وإطالة التفكير. في عام 1979 كتبت مقالة طويلة احتوت على المخطط العام للكتاب نشرتها بعد ذلك في مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة الثقافة السورية. أما المشكلة التي دعتني للتريث هي ذات المشكلة التي واجهتني في الكتاب الأول وهي صعوبة الحصول على المراجع.
في عام 1970 عندما تكونت لدي الأفكار العامة لكتاب مغامرة العقل الأولى واخترت له عنوان “فجر العقل”. جلستُ للكتابة ثم تبين لي عقم المحاولة لعدم توفر المراجع بين يدي، فالمراجع العربية مفقودة تمامًا، ومن المراجع المترجمة لم أجد سوى كتابًا واحدًا “ما قبل الفلسفة” من ترجمة جبرا ابراهيم جبرا. فلجأت إلى من أعرف من أساتذة التاريخ (محمد محفل وحرب فرزات) ولم أجد لديهم بغيتي. لجأت إلى مكتبة جامعة دمشق فعثرت على مراجع تاريخية ولا شيء من المثيولوجيا، عدا المثيولوجيا اليونانية – الرومانية التي لم تكن تعنيني في ذلك الوقت. كانت النتيجة أنني أقلعت عن الكتابة.
في عام 1971 وكنت أعمل أثناءها لدى مركز تطوير الإدارة الذي أحدثته منظمة العمل الدولية في دمشق. وقد قدمت لي المنظمة منحة دراسية واطلاعية على أساليب الإدارة الحديثة في الدول المتقدمة دامت قرابة السنة، فزرت مقر المنظمة في ميلانو – إيطاليا، ثم انجلترا واسكوتلندا، ثم عددًا من الولايات المتحدة في أمريكا، وخلال ذلك كنت أبتاع الكتب وأرسلها إلى سوريا بالشحن البحري. حين عدت عكفت على الكتابة لأنجز كتاب مغامرة العقل الأولى في نحو سنة من الزمن.
في “لغز عشتار” واجهتني المشكلة ذاتها، لكن الحصول على المراجع كان أكثر صعوبة. فكنت أتواصل مع أصدقائي في الخارج لتزويدي بالكتب المطلوبة، كما كنت أسافر إلى بيروت عدة مرات في السنة للغرض نفسه. مع اكتمال مراجعي عكفت على الكتاب وأنجزت لغز عشتار في ثلاث سنوات. إن عمل الباحث في هذا المنطقة من العالم هو “مهمة مستحيلة” (وأنا هنا أستعير اسم السلسلة السينمائية المعروفة لتوم كروز Mission Impossible) فلا جامعات ولا مراكز بحث ولا مكتبات عامة ولا متقدمين سبقوك يمكنك الاعتماد عليهم. لم يتغير هذا كثيرًا في عصر الانترنت لأنه بدوره لا يزودك بكل ما يلزم، أما الشراء من موقع أمازون الشهير للكتب الورقية فيكلف مئة دولار كحد أدنى. في العالم المتقدم يلجأ الكاتب إلى مكتبة إحدى الجامعات الكبرى أو المكتبة الوطنية لينجز أعماله بهدوء وراحة، وربما قدمت له الجامعة نفسها أو إحدى المؤسسات الثقافية منحة بحثية لإنجاز كتابه. وقد يحقق من كتاب واحد ثروة تعينه على التفرغ مدى الحياة.
في بلادنا، المؤسسات الرسمية مشغولة عن الباحثين والمبدعين. عملتُ وحيدًا وبدون سند من أحد لخمسين سنة، انتشرت خلالها كتبي من المغرب العربي إلى مشرقه، ولم تتصل بي جهة رسمية لتقديم دعم مادي أو حتى معنوي. وأشكر الله أنهم لم يفعلوا وإلا لكنت مطالبًا برد الجميل على طريقتهم. لقد عشت حرًا و بعيدًا عن مراكز السلطة وليس لأحد علي من فضلٍ أو مِنّة.
- ما هو تقييمك الشخصي لكتاب “المغامرة” و “اللغز”؟
+ “المغامرة” كتاب بسيط وسهل وتنتظم أفكاره بشكل خطي، ولا أعتقد أنني أضفت من خلاله الجديد والمهم على ما قدمه الباحثون الغربيون، لكن جدة موضوعه على الثقافة العربية وطريقة معالجته للأفكار والمعلومات. جعلت قراءه يفكرون بطريقة جديدة. كان أشبه بجرس أو بوق جعل العقول تتنبه من سباتها. فأنا لم أقل ما يخشى الآخرون قوله فحسب، بل قلت ما يخشى الآخرون التفكير فيه.
أما “اللغز” فعمل أكثر تركيبًا (Sophistication) وجرى عرض أفكاره على نحو لولبي ومن خلال منهجية علمية صارمة، حيث لا يوجد فكرة أو معلومة لم يحشد لها المؤلف كل ما يلزم من الشواهد. أعتقد أنه واحدٌ من أهم الكتب التي بحثت في ميثولوجيا الأم الكبرى على مستوى العالم.
- يقول ناشر كتبك سامي أحمد إن مؤلفاتك هي الأكثر رواجًا لديه في معارض الكتاب العربي. وأنا أضيف إلى ذلك أن ما يكنه القراء لك هو الإعجاب بما تكتب مضافًا إليه المحبة لشخصك. إلامَ تعزو ذلك؟
+ ربما لأن ما يُهمني بالدرجة الأولى أثناء الكتابة هو القارئ. فالقارئ حاضر في ذهني وأبحث عن أيسر الطرق للتواصل معه، ومبدئي في ذلك أنه لا وجود لفكرة صعبة وأخرى سهلة، بل لطريقة صعبة في التوصيل وأخرى سهلة. إن أكثر الأفكار الفلسفية صعوبة، تلك التي يعبر عنها المتفلسفون بصيغ ومصطلحات لا يفهمها إلا المتخصصون، يمكن التعبير عنها بطريقة يفهمها الجميع. لا أريد أن أوحي للقارئ بأنني أكثر فهمًا منه، فأنا لستُ كذلك، أريده أن يشعر بأننا شريكان معًا في محاولة الفهم. لقد سبقته في الطريق وبمقدوره اللحاق بي.
- في كتابك “دين الإنسان” رفضتَ فكرة خضوع الدين لمبدأ التطور والارتقاء من الأشكال البدائية في العصور الحجرية إلى الأشكال العليا في الحضارات الراقية والتي انتهت بالتوحيد. فقد قلت في الفصل الأول من الباب الرابع: “من يستطيع القول بأن الأديان المتأخرة التي يمتلئ تاريخها بالتعصب والاضطهاد وملاحقة الهراطقة والحروب الدينية، هي أكثر تطورًا من الأديان البدائية التي تتسم بالتسامح؟”
+ في الفصل الذي تشيرين إليه دعوتُ إلى إعادة النظر في مفهوم “الإنسان البدائي” و”البدائية” بشكل عام. فقد ظهر مفهوم البدائية بالترافق مع الأفكار التطورية (Evolutionism) أواسط القرن التاسع عشر. وقد عملتْ التطورية على تفسير الظواهر الاجتماعية والبيولوجية باعتبارها ارتقاء في خط صاعد من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يفضي الشكل الأدنى السابق إلى الشكل الأعلى اللاحق. وقد ترافق ذلك مع معيار قيمي ينظر إلى كل ما هو قديم بأنه الأدنى قيمة، ولكل ما هو حديث بأنه الأفضل والأعلى قيمة. لكنني في تقديمي للباب الرابع من الكتاب قدمت رأيًا مفاده أن التطور لم يمس إلا الجوانب المادية والتكنولوجية للإنسان العاقل الذي تنتمي إليه وأساليبه في تحسين معاشه. لكنه لم يمس حياته العقلية والروحية والعاطفية وقيمه الجمالية. ولذلك ربما كان انسان العصر الحجري أكثر تطورًا في نواح عديدة من الانسان الحديث، كما هو الحال في نظمه السياسية التي تقوم على “الحرية والإخاء والمساواة” إذا ما قورنت بنظم الحضارات الكبرى القائمة على الحكم المطلق وكتم الحريات. وربما لا يستطيع الإنسان الحديث أن يَبّزّ في نواح عديدة إنسان العصر الحجري، كما هو حال رسوم الكهوف التي يقول نقاد الفن اليوم أنها تقف على قدم المساواة مع أفضل آيات الفن التي أنتجتها الحضارات المتقدمة.
- ما هو موضع كتاب “دين الإنسان” بين كتبك؟
+ “دين الإنسان” هو نظرية فراس السواح في ماهية الدين ومنشئه النفسي ودوافعه. وفيه قدمتُ كل ما هو جديد عما قدمه الباحثون الغربيون في مجال “فينومينوجيا الدين”.
- خلاصاتك ونتائجك الأخيرة في خاتمة الكتاب تأتي بعد فصلٍ بعنوان “الفيزياء الحديثة ومنشأ الدافع الديني” عالجت فيه نظرية الكم والنظرية النسبية، على أي أساس ربطت الدين بالعلم؟
+ كلاهما له مقاصد فلسفية تتعلق بطبيعة “الحقيقة” والإجابة على التساؤلات الرئيسية للإنسان.
- طرحتَ في إحدى مقابلاتك المقولة التالية التي أوردها من الذاكرة: “على العالِم إذا دخل المختبر أن يترك الإيمان خارجًا، وعليه إذا دخل الكنيسة أو المسجد أن يترك البرهان خارجًا. كيف يجتمع الإيمان والبرهان على تناقضهما؟
+ ما من تناقض بين الإيمان والبرهان لأن لكل منهما حقل ومجال. فالبرهان الذي يعتمد أدوات التجربة والاختبار يتعامل مع العالم المادي، أو السماء المرئية بما تحتويه وما دونها، وكل نظرية عليمة ينبغي أن تصاغ بطريقة تمكننا من اختبارها بالتجارب التي تثبت صحتها أو تدحضها. كل نظرية علمية غير قابلة للدحض لا يعول عليها. أما الإيمان فيتعامل مع العالم القدسي، أي مع ما وراء الطبيعة المادية، الذي تقع كل شخصياته ومفاهيمه خارج مجال النفي أو الإثبات، الأمر الذي مكّن الدين من الحفاظ على مواقعه حتى بعد عصر الفلسفة
وعصر العلم. وبعد قرون من الصراع بين العلم والدين، حصلت مصالحة غير معلنة بينهما. في ظل هذا الوضع قد لا يجد العالِم غضاضة في ترك إيمانه خارج المختبر وترك برهانه خارج المعبد.
- سؤال أخير: هل تعتقد بوجود أمّة سورية؟ قد يبدو هذا السؤال غريبًا عن الموضوعات التي تناولناها حتى الآن. لكنني أثيره بداعي الجدل الواسع الذي جرى على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن قال أحد المسؤولين في خطابٍ له إنه لا وجود لأمة سورية!
+ هنالك أرض دعيت فيما بعد سوريا، يقسمها نهر الفرات إلى قسمين، قسم غربي يتضمن الآن أجزاء من الجمهورية العربية السورية ودولة لبنان وفلسطين وشرقي الأردن، وقد دعيت Levant من قبل الأوروبيين، وهي كلمة لاتينية تعني المشرق، وقسم شرقي يتضمن منطقة الجزيرة الفراتية التي يشغلها حوض الفرات مع رافديه الخابور والبليخ، مع امتدادات تصل إلى نهر دجلة في المناطق الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة ماري التاريخية ومدينة دير الزور الحالية على الفرات.
لقد سكن هذه المنطقة منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد شعب تكلم لغة ندعوها الآن اصطلاحًا باللغة السامية الغربية، تمييزًا لها عن السامية الشرقية التي سادت في بلاد ما بين النهرين الموطن التاريخي لسومر وأكّاد، وأقدم نماذج وصلتنا من هذه اللغة هي رقم مدينة إيبلا التي ترجع بتاريخها إلى أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، والتي دعاها الاختصاصيون بالكنعانية المبكرة. أطلق الإغريق على هذه المنطقة اسم سوريا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وقد ترسخ هذا الاسم عقب فتوح الاسكندر المقدوني. عندما آلت إلى الحكم اليوناني السلوقي دعي الملوك السلوقيون بالملوك السوريين. استقبلت سوريا عبر تاريخها موجات بشرية ذابت في نسيجها الإثني والثقافي: آموريون وحوريون وآريون وآراميون وعرب. أي أنها كانت حاضنة ثقافية تصهر وتستوعب كل من يأتي إليها وتطبعه بطابعها. كل ذلك يقودنا إلى القول بوجود أمّة سورية ولكنها ليست أمّة تامّة لأنها في الوقت نفسه أمّة عربية، لأن الفترة العربية التي مرت عليها هي أطول فترة في تاريخها الطويل، ولأن العرب دخلوا في نسيجها الإثني منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد، عندما أخذوا يتدفقون إلى الشام وينشئون الممالك القوية التي لعبت دورًا هامًا في تاريخها الحضاري والسياسي، مثل مملكة الحضر قرب الموصل، مملكة ميسان حول رأس الخليج العربي، ومملكة إيطوريا/خالكيس في البقاع الشمالي، ومملكة تدمر ومملكة حمص ومملكة الأنباط ومملكة الحيرة ومملكة غسان، إضافة إلى مشيخات عربية كانت تملأ البادية والجزيرة الفراتية في ظل الامبراطورية البيزنطية. إن البادية السورية التي تشكل نصف مساحة بلاد الشام، ليست إلا لسانًا صحراويًا عربيًا يمتد داخل الوطن السوري، ولا يمكن الفصل بين تاريخ المنطقتين.
لا يستقيم فهمنا للمبدأ السابع دون قراءة مغامرة العقل الاولى
اقدر هذه المقابلة مع المبدع فراس السواح
المفكر العظيم انت قدوتي