المعارضة السورية… أزمة مشروع-مازن بلال
Share
الفينيق / حزيران (يونيو) 2017 / في السياسة / سورية
يمكن اعتبار مصطلح “المعارضة السورية” حالة مستجدة، فهو شكل لم يغب فقط عن الخطاب السياسي لعقود بل لم يكتسب أيضاً أي تصور في أذهان النخب السياسية المتعاقبة. فحتى في المراحل الأولى لظهور الحياة السياسية خلال خمسينات القرن الماضي، كان التعبير الأكثر شيوعاً هو الأقلية البرلمانية. بينما كانت الأحزاب “العقائدية” لا تأخذ بعين الاعتبار مسألة المعارضة، لأنها كانت تريد تحولاً حاداً في المجتمع. وفي بداية الألفية الجديدة، ومع صعود ما يسمى “ربيع دمشق”، كان مصطلح “النشطاء السياسيين” ينتشر بشكل قوي داخل الحدث السوري. فالمعارضة كانت تعني “انقسام” المجتمع السياسي، وهو أمر لم يكن مسموحاً به على الأقل ضمن المؤسسات السياسية الحاكمة.
الأمر الآخر الذي يؤشر عليه غياب المصطلح يرتبط بالبنية السياسية التي نشأت ضمن نخب من “بورجوازية المدن”، بينما كانت الحركات السياسية الأخرى “إنقلابية” لا تحوي جدلية مفهوم المعارضة بمعناه العميق. وهو ما أدى لاحقاً إلى تشويه كامل لهذا المفهوم في المرحلة التي شهدتها سوريا مع بداية 2011. فالأجيال التي خلقت هذا الحدث لم تعش تجارب سياسية متعلقة بمفهوم المعارضة، بل صراعات مسلحة وعلى الأخص في ثمانينات القرن الماضي مع تصاعد العمل المسلح لجماعة “الإخوان المسلمين”. فالمعارضة كانت بالنسبة إلى “النشطاء الجدد” الذين شكلوا ما يسمى التنسيقيات كانت أيضاً حركة انقلابية لا تستند إلى رؤية المعارضة كمشروع سياسي، بل إلى شعارات يصعب ترجمتها ضمن مشروع سياسي واضح.
إلى جانب الجيل الجديد، كانت هناك بنية سياسية يصعب عبرها إنتاج مشروع معارض، فهي تضم سجناء سابقين أغلبهم من التيارات الماركسية، وأحزاب التحول الاجتماعي التي انخرطت في مراحل متقدمة ضمن مشروع النظام السياسي. ومن هذه الزاوية يمكن فهم الفشل في إنتاج بنية سياسية من خلال مشروعين ظهرا في بداية الأزمة: الأول بمبادرة الدولة وكان مشروع حوار قاطعه طيف واسع من المعارضين. والثاني بتوافق بين النشطاء السياسيين انعقد في فندق سميراميس في دمشق، وهو الذي أنتج عملياً البنية السياسية لما يسمى معارضة الخارج. فمعظم الحاضرين فيه انخرط في المبادرات الإقليمية بعد أن غادر دمشق تاركاً الحياة السياسية و”المشروع المعارض” للحركات الانقلابية التي تجلت بالمجموعات المسلحة المتطرفة.
وإذا كان النشطاء السياسيون لعبوا دوراً أساسياً في إخراج مفهوم المعارضة عن سياقه، فإن الدولة قامت في المقابل بدور آخر في هذا الموضوع من خلال قانون الأحزاب الذي جاء في ذروة احتدام الصراع. فهي شجعت بعض الشخصيات على تأسيس أحزاب وتجمعات ضمن بيئة سياسة هشة، ما أدى عملياً إلى ظهور أحزاب صغيرة وتيارات غير قادرة على خلق فعل اجتماعي قوي، وضمن ظرف سياسي يتسم بالعنف ومحاولات إسقاط النظام والسيطرة على المدن. وفي عام 2012 كانت سورية تحوي ثلاثة نماذج سياسية أساسية:
- الأول، أحزاب تقليدية منضوية بمعظمها في إطار تحالف مع السلطة السياسية مثل الشيوعي السوري والقومي الاجتماعي والأحزاب الناصرية.
- الثاني، أحزاب جديدة ذات بنية هشة ومعظمها كان في مرحلة ما ضمن منظومة السلطة، فهي أحزاب أزمة تم تأسيسها على عجل وتمارس مهام أقرب إلى العمل المدني منه إلى السياسي.
- الثالث، التجمعات التي حاولت بناء قوة سياسية من خلال التحالفات مثل “هيئة التنسيق السورية” بقيادة حسن عبد العظيم، و”ائتلاف قوى التغيير السلمي” الذي ضم شخصيات مثل قدري جميل وعلي حيدر وعادل نعيسة وفاتح جاموس. وضمن هذين التشكيلين تبلورت صورة المعارضة الداخلية، لأنهما حاولا استقطاب حتى الأحزاب الجديدة والتنافس في طرح المبادرات. وكانا في المقابل رداً على “المجلس الوطني السوري” و”الائتلاف السوري المعارض” اللذين حاولا احتكار المعارضة
المشكلة الأساسية أن معارضة الداخل كانت مختلفة في العمق مع المشروع الإقليمي الذي تبنته المعارضة في الخارج. فهي مع تقوية الدولة ومكافحة الإرهاب ومع تغيير بنية النظام وليس أشخاصه. بينما تتشارك المعارضة في الداخل والخارج بأنها “جهاز سياسي” أكثر من كونها مشروعاً لديه حوامل اجتماعية على مستوى الداخل السوري. فالجهازان ليسا قادرين على التأثير في المجموعات المسلحة التي انفصلت نهائياً عن كافة أشكال المعارضة ابتداء من عام 2013 بعد سيطرة النصرة على بقايا ما يسمى “الجيش السوري الحر”، وانتشار “داعش” في شرقي سورية
في المقابل كانت المبادرات الدولية هي أساس عمل معارضة الداخل التي كانت تريد إثبات شرعيتها في مواجهة رفض الغرب عموماً لها. فمن استضافة موسكو لمؤتمرين للمعارضة ظهر ما يسمى “منصة موسكو” التي تعتبر تمثيلاً لما بقي من “ائتلاف قوى التغيير السلمي”، وأصبح قدري جميل المقيم في موسكو الأقوى داخل هذه المنصة. وينطبق هذا الأمر على منصتي القاهرة وأستانة اللتين حملتا تمثيلاً لمن بقي من النشطاء في الخارج مثل جمال سليمان وجهاد مقدسي. فالعملية السياسية كانت صراعاً في التأثير الإقليمي انخرطت فيه المعارضة السياسية بقوة لأنها “جهاز سياسي” أكثر من كونها مشروعاً سياسياً – اجتماعياً. وعندما
أدخلت روسيا إلى المفاوضات “وفد حميميم” كمحاولة للتأثير في كافة الأطراف المشاركة، وكان يضم نشطاء وقوى من الداخل، فإن المعارضة دخلت في صراع من أجل التمثيل أفقدها مصداقيتها بشكل عام.
من خلال التجربة السورية، يمكننا تلمس غياب المشروع القوي على المستوى السياسي، وعدم القدرة على خلق بنية سياسية واضحة المعالم. فوسط هشاشة الأحزاب، بغض النظر عن أسباب هذه الهشاشة التي يردّها الكثيرون إلى طبيعة النظام السياسي، فمن الصعب التعويل على معارضة قادرة على تقديم رؤية استراتيجية. إنها “جهاز” تقوم مشروعيته على الاعتراف الدولي به، بينما يهمل تمسك المجتمع بالمشاريع السياسية التي يتم طرحها داخلياً إن وجدت. وعلى رغم أن الصراع الإقليمي والدولي عنيف باتجاه سورية، لكن الفعل السياسي خارج إطار الدولة، في المقابل، يبدو شبه معدوم… بل على العكس هو منخرط بالمشاريع الدولية التي يستمد منها قوته. حتى لو نجح جنيف، فإن أزمة البنية السياسية السورية وما ينتج عنها ستبقى معلقة وقابلة للتأثير السلبي على أي اتفاق دولي.