المدرحية علم و فلسفة
Share
هذا ما أعلنه سعاده في رسالته الثانية الى غسان تويني تاريخ 7-4-1946. ولفهم ما كان يريد سعاده إيصاله لغسان، وبالتالي لنا، يجب فهم الموضوع الذي كان يتكلم عليه وأيضاً فهم الظروف الحزبية وقتذاك، كما المناخ الثقافي السائد في العالم بعيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية.
سعاده في رسالته تلك الى غسان كان في الحقيقة يناقش كلاً من فخري معلوف وفايز صايغ. كان يدلي لغسان زبدة الافكار التي وجهها الى فخري وفايز، والاثنان كانا لتوهما قد تخرجا في الفلسفة على يد استاذهما شارل مالك صاحب المذهب اللاهوتي – الوجودي الفردي في الفلسفة. ونحن نعرف أنه بعيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية انتعشت الافكار الفلسفية الوجودية الفردية كردة فعل على الفلسفات الشمولية، النازية والشيوعية والرأسمالية على السواء، التي اعتُبِرت مسؤولة عن هلاك ملايين البشر وعن الدمار والخراب والكوارث التي أدت اليها الحرب. سعاده كان يُشرِك غسان في ذلك النقاش لأن غسان كان متأثراً بالفلسفة الوجودية الفردية ومتضامناً في ذلك مع فايز. والإثنان كانا يظنان أن العقيدة القومية الاجتماعية الممثلة في المبادئ الاساسية الثمانية لا علاقة لها بالفلسفة. وما ساعدهما على هذا الاعتقاد والظن هو أن أدبيات الحزب وكتابات وخطب واحاديث سعاده قبل الحرب كانت تستعمل مصطلح “العقيدة” وقلما كانت كلمة الفلسفة تُسمع او تُقرأ. وكان ظنهما أن سعاده بعد الحرب وما أثارته من قضايا وفلسفات، إنتبه الى ضرورة إيجاد فلسفة للعقيدة وللحزب. فايز وغسان ويوسف الخال وفخري وغيرهم، خاصةً فايز، كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم هم المؤهلون لإيجاد فلسفة للعقيدة القومية، هم خريجو الفلسفة المتخصصون بها، فهُم لها أما سعاده فللعقيدة. لقد وجدوا في الفلسفة الوجودية الفردية ضالتهم وأرادوا بواسطتها التخفيف من “شمولية القومية” وهيمنتها، كما كانوا يعتقدون آنذاك، على الفرد والشخصية الفردية والحرية الفردية…الخ. (راجع كتاب الدكتور عادل بشارة – فايز صايغ القومي- صفحة 87 وما بعدها).
سعاده في مناقشته لكل من فخري وفايز وغسان كان يقول لهم إن العقيدة القومية الاجتماعية الممثلة في المبادئ الاساسية هي وليدة نظرة فلسفية الى الحياة، وأن المبادئ والعقيدة والفلسفة والنظرة الى الحياة والكون والفن هي أشياء مترابطة، لذلك فإننا لا نحتاج الى استيراد وإستعارة فلسفة من غيرنا لنطعّم عقيدتنا بها. وإذا كان سعاده قد “انتبه” لشيء فإلى ضرورة توضيح هذه الامور وشرحها للرفقاء وخاصة للرفقاء المتعلمين المثقفين في العلم والفلسفة.
سعاده قال لغسان صراحةً إن فخري برهن عن إستعداده للشذوذ منذ أن ادعى أنه هو من سيصنع “التأويل اللاهيولي للعقيدة”، أي التأويل اللامادي، أي التأويل الفلسفي، في وقت ان العقيدة القومية الاجتماعية هي ذات أساس علمي وفلسفي موجود وكامن فيها منذ البداية وليس بحاجة إلا الى إيضاح. النص الحرفي هو: “ومن أدلة استعداد فخري معلوف للشذوذ أنه كان مولعاً بفكرة كانت دائماً تدغدغ نفسه. فهو في مواقف ورسائل عديدة كرر القول أنه سيضع التأويل اللاهيولي للعقيدة السورية القومية الاجتماعية أو ما شاكل. والحقيقة أنه كانت ولا تزال هناك حاجة ماسة الى أبحاث فلسفية وعلمية عديدة لأيضاح عمق أساس العقيدة القومية الاجتماعية ومتانة البناء الذي تشيده وسعته وجماله وتناسق تركيبه وسمو مطلبها.” ( الاعمال الكاملة ج 11 ص 59). وقد إستفاض سعاده في الشرح لغسان سبب التشديد على المبادئ – العقيدة في السنين الاولى لتاسيس الحزب، عندما لم تكن عبارات الفلسفة والنظرة الى الحياة والكون والفن متداولة ومستعملة، ومن هذا الشرح يتبين سبب عدم الاستغراق في ذلك الحين في الخوض في الاساس الفلسفي والعلمي للعقيدة والتوسع فيه. (رسالة الزعيم الثالثة الى غسان تويني تاريخ 26-5-46 الاعمال الكاملة ص97 و 98).
والحقيقة الواضحة المثبتة أنه كانت لسعاده إشارات موثقة ومكتوبة يتكلم فيها عن الفلسفة السورية القومية الاجتماعية قبل حكاية نيّة فخري معلوف وضع التأويل اللاهيولي – الفلسفي للعقيدة بسنين عديدة. فها هو سعاده مثلاً يكتب مقالة في جريدة الزوبعة بتاريخ 15-6-1942، أي سنتين قبل قصّة فخري، يقول فيها: “…ومن هذه النقطة تبتدئ الفلسفة السورية القومية الاجتماعية التي تقدم نظرات جديدة في الاجتماع باشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها، وهو بحث واسع نود أن يفسح لنا المجال لنعود إليه ونكشف عن أهمية التفكير القومي الاجتماعي الذي يقدم النظرة الجامعة للمذاهب الانسانية الجديدة المتنافرة. وعسى أن تكون عودتنا الى هذا الموضوع قريبة، فهو كان ولا يزال في مركز الدائرة من الاغراض التي رمينا إليها من إنشاء هذه الصحيفة القومية الاجتماعية.” (مقالة بحث الديمقراطيين عن عقيدة، الاعمال الكاملة ج 6 ص 98).
ولسعاده إشارة الى نيته كتابة مؤلف عن الفلسفة القومية الاجتماعية سنة 1942، وذلك في رسالته الى إبراهيم طنوس تاريخ 17-3-42 يقول فيها: “…كنت جهزت عنوانات الفصول لمؤلف فلسفي إجتماعي في طبقات الامم أبحث فيه النظام السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي الانترنسيوني ةأستخرج منه نظرة الى العالم تعين إتجاهاً جديداً، ثم أني كنت أخذت في التخطيط لموضوع فلسفي في الدولة وإنشاء نظام جديد لها…”.
وقبل ذلك أيضاً وفي مقالته :بين الجمود والارتقاء تاريخ 1-9-1941 ، أي ثلاث سنوات قبل قصة فخري، يقول سعادة: “إن المبدأ الذي جاء به سعاده هو نظرية فلسفية شاملة تتناول العالم وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية، وشرحها يقتضي كتاباً على حدة يبحث في المبادئ الماركسية المادية لتنظيم المجتمع والمبادئ الفاشستية المازينية الروحية لتنظيم المجتمع، والصراع بين هتين الفئتين من المبادئ، ثم في مبدأ سعاده الذي يخرج من القاعدتين المتصادمتين بقاعدة عامة واحدة يمكن أن تجمع عليها الانسانية. وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ”. وفي نفس هذه المقالة يقول سعاده أيضاً: ” ومن إستعارات رشيد الخوري قوله في الدين الاسلامي أنه مدرحي، أي مادي روحي معاً، فقد يظن القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتاب نشوء الامم لسعاده ومن شرحه لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية إجتماعية للزعيم أبداها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنه من أمر نظرته الفلسفية كان في خطابه في أول آذار سنة 1940…”.
وبعد كل ذلك، ورغم كل ذلك، فإن فايز صايغ أخذ قول سعاده لغسان تويني عن قصة فخري سنة 1944 ليدّعي أن سعاده لم يكن عنده فلسفة قبل ذلك الى أن إقتبس عن فخري ضرورة وضع تأويل لاهوتي (يقصد فلسفي) للعقيدة، وقال أن سعاده إلتقط الفكرة من فخري وتبناها وشرع في صياغة الإطار اللاهوتي الذي كان فخري قد تبصّره. (من كتاب صايغ- الى أين- أورده عادل بشارة ص 91). والمستغرب كثيراً هو إدعاء فايز بأن سعاده إقتبس عن فخري ما كان يعتبره سعاده شذوذاً وليس إنجازاً يصحّ اقتباسه! والملاحظ هنا أيضاً أن فايز حوّر كلام سعاده واستبدل كلمة “لاهيولي” بكلمة “لاهوتي”، ففايز تتلمذ في الجامعة على يد شارل مالك الذي كما قلنا آنفاً كان يمزج الفلسفة باللاهوت، أي الفلسفة الدينية.
منذ ذلك الوقت، أي منذ سنة 1946، أخذ سعاده يكثر من إستعمال مقولات وتعابير “الفلسفة القومية الاجتماعية، المذهب القومي الاجتماعي والنظرة القومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن والفلسفة القومية الاجتماعية المدرحية …الخ بعد أن كان يتطرق إليها لماماً وعلى فترات زمنية متباعدة قبل ذلك. فهذه العبارات نجدها بكثافة في المحاضرات العشر التي القاها مطلع سنة 1948 (من7-1-48 الى 4-4-48)، كما نجدها في خطبه ومقالاته حتى السياسية منها بعد ذلك. في كلمته في مؤتمر المدرسين صيف 1948 نجد عبارة “رسالة الحياة القومية الاجتماعية وفلسفتها المدرحية الى الامة السورية والى الامم جميعاً” ثلاث مرات، وفي مقالته “لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً” نجد عبارة “النظرة المدرحية الى الحياة والكون والفن”، وفي مقالة “الامة تريد نهضة لا حلّة” نجد نفس العبارة.
إذاً بعد رسالة سعاده الشهيرة الى السوريين القوميين الاجتماعيين مطلع سنة 1947 التي يختمها بالقول “أن العالم يحتاج اليوم الى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها، وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج اليها العالم – فلسفة التفاعل الموحِّد الجامع القوى الإنسانية – هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم”، توالت مقالاته وخطبه ومحاضراته التي يستحضر فيها الفكرة الفلسفية القومية الاجتماعية المدرحية التي كانت موجودة من الاساس، منذ البداية بشكل كامن. فمنذ مقالته “بين الجمود والارتقاء تاريخ 1-9-1941” عندما إستعمل كلمة المدرحية لأول مرة صارت الصفة المدرحية بارزة بوضوح تصريحاً بشكل مباشر بعد أن كانت إشارة غير مباشرة بصيغة “مادي – وحي” (دون استعمال كلمة مدرحي) كما في تعريف الأمة الذي كتبه سنة 1936 “…موحدة العوامل المادية الروحية…” وكما في خطاب أول آذار سنة 1940 الذي يقول فيه: “إن الحركة السورية القومية لم تأت سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها إستمرار العمران وإرتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية ترفض الإقرار بإتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي اساساً للحياة الانسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية عند هذا الحد بل هي تعلن للعالم بمبدأ الاساس المادي – الروحي للحياة الانسانية ووجوب تحويل الصراع المميت الى تفاعل متجانس يحيي ويعمّر ويرفع الثقافة ويسيِّر الحياة نحو أرفع مستوى”.
فالنظرة المدرحية الى الحياة، علمياً وفلسفياً معاً، كانت هي الاساس الذي بنيت عليه المبادئ – العقيدة – التعاليم والقضية السورية القومية الاجتماعية كلها، قبل أن ينحت سعاده كلمة مدرحية ويستعملها أو بعده على السواء.
كانت هذه مقدمة لا بد منها ذكرنا فيها فخري معلوف وغسان تويني وفايز صايغ ليس للوقوف عند هذه الاسماء، بل للوقوف عند إعلان سعاده بأن “هناك حاجة ماسّة الى أبحاث فلسفية وعلمية لإيضاح عمق أساس العقيدة القومية الاجتماعية”. هذا الموضوع بالضبط هو ما سنتناوله في جريدة الفينيق على حلقات شهرية متتالية، طامحين الى تقديم دراسة كاملة عنه لإيضاح الفكرة المدرحية التي جاء بها سعادة، والتي نعتقد بقوة أنها نظرة علمية وفلسفية معاً.