المؤسسة ومؤشرات الأداء- فادي خوري
Share
تولي المؤسسات والتنظيمات التي تسعى إلى زيادة فاعلية أداء مواردها البشرية والتقنية، وإلى رفع مستوى إنتاجها، وإلى ضمان تصاعد الخط البياني لنجاحها وتقدّمها، تولي الكثير من الاهتمام والمتابعة لمفهوم “المؤشرات الرئيسية للأداء” Key Performance Indicators (KPI)، ذلك لأن المؤشرات هذه تشكل أحد أبرز المعايير والمقاييس التي تعتمدها تلك المؤسسات أو المنظمات في تقييم المراحل المنصرمة والتخطيط للمراحل المستقبلية، بغية التقدّم باتجاه تحقيق غاياتها وأهدافها ورؤاها.
في رسائله إلى العديد من الرفقاء، كان الزعيم يسأل من راسلهم عن أرقام وبينات معينة تختص بنواح مختلفة من العمل الإذاعي، كالاستفسار عن عدد نسخ “مبادئ النهضة السورية القومية” التي كانت توزع في مدن أمريكا اللاتينية، (أنطون سعادة: رسائل – دار فكر للصحافة والنشر – الطبعة الأولى (1989) أو عدد المواطنين الذين حضروا مناسبة كان قد ألقى فيها خطاباً أو توجّهاً. تلك الأرقام كانت تشكل عنده “مؤشرات الأداء” التي على أساسها ونتيجة لمقارنتها ومقاربتها مع معايير محددة تُعَيّن نسب النجاح أو الإخفاق
من الضروري أن تتطابق المؤشرات المحددة مع نظرة المؤسسة وتطلعاتها، فإن كان هدف المؤسسة توسيع عدد فروعها في مناطق مختلفة من دائرة عملها الجغرافية، يكون مؤشرُ الأداء عددَ الفروع المزمع افتتاحها خلال فترة زمنية معينة، وليس مساحة المبنى أو عدد طوابقه. يجب أن تتماشى المؤشرات هذه بالكلية مع مبادئ المنظمة هي دون التأثر أو الارتباط بمبادئ أو أهداف منظمة أو مؤسسة أخرى أو بظروف خارجية، فإقفال فروع لمنظمة منافسة أو مناوئة لا يُسَجَّل كمؤشر نجاح للمنظمة الأولى. كما أن حدوث تغيير إيجابي في البيئة الاقتصادية العامة، في حال كانت المؤسسة تُعنى بالاقتصاد، نتيجة تطور طارئ خارج عن تحكّم المؤسسة، لا يعني بالضرورة مؤشر نجاح لأدائها.
كي نكون واضحين في تعيين ما نصبو إليه هنا لا بد من مقاربة الموضوع من خلال أمثلة ومواقف واقعية تحاكي ما تمر به المؤسسات والتنظيمات العاملة تحت مسمّى “الحزب السوري القومي الاجتماعي”.
المحور الأساسي في حزب سعاده هو غايته، ما يجعل، حُكماً، محورَ كافة الأنشطة والأعمال والمشاريع فيه تحقيقَ هذه الغاية.
في مقال له في مجلة “الجمهور” البيروتية – عدد 15 (21 كانون أول عام 1936)، كتب سعاده:
“ليست فكرة التنظيم هي التي تقود الحزب السوري القومي، بل فكرة الحزب هي التي بعثت النظام وهي التي تقود النظام وتفعّل التنظيم.
إن انتصار الحزب السوري القومي وتقدمه، على الرغم من الحملة الشديدة التي وجهتها إليه الرجعية ليس عائدًا إلى نظامه بقدر ما هو عائد إلى غايته. وليس يدل على مجرد تفوق النظام بل على تفوق الوجدان القومي والعقيدة القومية. إن في ثبات الحزب السوري القومي لدليلاً على حاجة الأمة إلى عقيدته ومبادئه التي توّحد مصالح الأمة وتوجد الوجدان القومي وترفع الأمة إلى مستوى ثقافي عالٍ“.
شئنا أن نحدد هذه الحقيقة لنظهر أن الغاية هي الأساس وليس النظام أو “الخطط المرحلية” بحد ذاتها، دون الانتقاص من أهمية الأخيرتين في العمل القومي.
بتحديدنا مقومات وعناصر “المستوى الثقافي العالي”، الذي ترفع مبادئُ الحزب الأمةَ إليه، نحدد المؤشرات الرئيسية للأداء.
من أجل تحقيق غاية الحزب ومبادئه لا بد من توفير شروط مسبقة تؤدي مجتمعة إلى توفير الزخم للأعمال التي ستنقل الحزب من حالة معينة إلى حالة أفضل، وهكذا تبقى الحركة، في دورات حياة الخطط والمشاريع والأهداف، مستمرّة حتى الوصول إلى الغاية المنشودة.
إذا ما نظرنا إلى حالات الحزب، بكل تنظيماته، منذ استشهاد سعاده، نرى أنه عجز كل عجز- عازياً عجزه لأسباب خارجية- عن تحقيق أي نجاح يقرّبه من حالة أفضل باتجاه تحقيق غايته.
لماذا؟ لأن الحزب، وجمهرة المسؤولين الذين تعاقبوا خلال العقود السبعة الماضية من تاريخه، لم يحددوا الأهداف القريبة ولا البعيدة المدى الواجب الوصول إليها بغية تحقيق الغاية الأسمى. كما ولم يضعوا مؤشرات أداء القيادات والمسؤولين، لا في السلطة التشريعية ولا في التنفيذية، وبالتالي، كتحصيل حاصل، لم تتم عملية جدية لتقييم ذاك الأداء. فكان الحزب وقياداته ينفعلون ولا يفعلون في الأحداث والظروف، يُفرض عليهم الأمر الواقع بدل أن تفرض قياداته هي رؤية الحزب ونظرته، واعتمدت تلك القيادات على نجاحات الآخرين فانضوت وانصاعت وتبعت ولحقت وتسكّعت بدل من أن تمارس دوراً طليعياً في قيادة حركة الشعب العامة. إذن، مسألة ضغوطات خارجية وظروف خارجة عن نطاق السيطرة ما هي إلاّ فقاعات هوائية حاول العاجزون التلطي من ورائها
في كتابه “إدارة الاستراتيجية في المنظمة العقائدية“، يُدرج أسامة المهتار في الفصل الثالث – تحت عنوان “خطة الحزب الاستراتيجية” – عدداً من المقاييس والمعايير التي يمكن استخدامها في تقييم أداء الإدارات الحزبية، وتُشكّل نقطة انطلاق لتوسيع أطر النظم والوسائل الواجب اتباعها في الحزب السوري القومي الاجتماعي. من بين تلك المقاييس يذكر مقاييس النمو المادي والمعنوي ومقاييس العلاقات الداخلية ومقاييس العلاقات الخارجية، إلى جانب إدراجه عدداً من المعايير والمعلومات التي يعتمد عليها المسؤول في اتخاذ قراراته أو رسم خططه. ولو أردنا، زيادة في التفصيل، أن ندرج بعض النواحي التي يمكن البناء عليها لتحديد مؤشرات “المستوى العالي” المطلوب لتقريب الحزب، قيادة وقاعدة وأصدقاء مُقَرَّبين، من تحقيق غايته لاعتبرنا التالي:
- درجة الوعي الفكري والعقائدي لدى المسؤولين والأعضاء، تبعاً لمقاييس أكاديمية معينة (مبحث آخر).
- درجة الارتقاء في المسائل والشؤون القضائية والدستورية والقانونية.
- مدى فعالية الخطط العامة والخاصة وتحديد أهدافها القصيرة والطويلة الأمد.
- عدد الأعضاء المنتظمين.
- عدد الوحدات الحزبية.
- حجم القدرات المالية والاقتصادية على كافة مستويات الفروع.
- عدد أنشطة الدعاية والأوساط الإعلامية والإذاعية.
- درجة تجاوب المواطنين.
- مدى فعالية التحالفات والتنسيق مع مؤسسات خارجية.
- حجم الإنتاجات الفكرية والأدبية والفنية والتربوية والثقافية.
- درجات استخدام وتفعيل الإمكانات التقنية واستحداث التطبيقات ذات العلاقة بالحزب.
- حجم الإنجازات في النواحي المهنية: تربية وتعليم، طب، قانون، إعلام، علوم، تكنولوجيا، اقتصاد ومال.
- درجة الإبداع الفكري والفني.
هذه بعض النواحي التي يمكن لمؤسسة تسعى للنهوض والتقدم أن تحدد مؤشرات تقييمية لها، وعلى مختلف الصعد من قيادات ومسؤولين وقاعدة.
لنأخذ بعض المؤشرات كمثال في التالي، وذلك لنرى معاً مدى تقدم الحزب على امتداد السنوات العشر الماضية.
المثال الأول: القدرات المالية والاقتصادية. القدرات والإمكانات المالية والاقتصادية هي العوامل التي تساهم في اعتماد الحزب على ذاته، وبذلك يكون مستقلاً بقراراته ومواقفه، وقادراً على تفعيل تلك القدرات في سبيل تأمين مستلزمات العمل لتحقيق غايته.
الأسئلة التقييمية هي:
- ما هي نسبة ازدياد/انخفاض عدد المؤسسات الاقتصادية التي يملكها الحزب اليوم عمّا كان عليه قبل عشر سنوات؟
- ما هي قيمة العائدات/الخسارات التي لحقت بالحزب خلال العشر سنوات الماضية؟
علينا أن نعي ونتذكر هنا أن المال الذي يعتمد عليه الحزب اليوم لسد حاجاته ومصدره من جهات خارجية بمعظمه، لا يمكن اعتباره جزءاً من مؤشرات النجاح أو الفشل لأنه ليس مرتبطاً، كما ذكرنا آنفاً، برؤية الحزب ومبادئه ونظرته. هنا تبرز أهمية تلك الحقيقة التي لا غنىً عنها. القدرات المالية التي يجب اعتبارها مؤشراً للأداء هي تلك التي تُستخرج من ممارسة النهج الاقتصادي السليم الناتج عن خطط الدوائر المعنية بالمالية والاقتصاد في الحزب.
المثال الثاني: عدد الأعضاء. هذا المؤشر يحمل أهمية متقدمة، لأنه العامل الأقوى في جعل الحزب حركة الشعب العامة، ومن ثمّ في توظيف تلك الطاقات البشرية في خدمة تحقيق غايته.
الأسئلة التقييمية هي:
- ما هي قيمة الزيادة/الانخفاض في أعداد المنتسبين للحزب خلال العشر سنوات الماضية؟
- في حال حدوث زيادة في عدد الأعضاء، ماذا كان مدى قدرة المؤسسات على تفعيل تلك الطاقات؟
يجب أن نلاحظ هنا أن المؤشرات هي أرقام أو مجالات رقمية، وليست أشياء مجرّدة تخضع للأمزجة والآراء والوجدانيات. هي قيم ملموسة ومحددة، ففي تقييمنا لحركة إقبال المواطنين للانتماء للحزب لا يمكن أن نكتفي بإنشائيات القول بل بالأرقام التي سيتم تحليلها ودراستها، وعلى ضوء تلك التحليلات والدراسات يُصار إلى تقييم المسؤولين ومدى نجاحهم أو إخفاقهم. فالمسؤول الذي عجز عن تحقيق نجاح يجب محاسبته أو استبداله. والرئيس الذي شهدت مدة تولّيه رئاسة الحزب انخفاضاً حاداً في عدد الرفقاء العاملين، أو أن في زمن ولايته تفرّق القوميون وتشتتوا بدل من توحّدهم وتفعيلهم، فهو رئيس فاشل لا يستحق التجديد لرئاسته، حتّى وإن عدّل دستور الحزب.
لننظر معاً إلى واقع الحزب، خلال العشرة أعوام الخالية، من منظور مفهوم “المؤشرات الرئيسية للأداء”، فنرى الكثير من الأصفار، إن لم تكن قِيَماً ما دون الصفر، لعدد لا بأس به من المؤشرات، لا سيّما تلك ذات الصلة بالإنتاجات الفكرية والإعلامية وعدد الأعضاء والقدرات المالية ، إلخ..
لعل الارتفاعات الوحيدة الذي يمكننا تسجيلها هي ارتفاع عدد التنظيمات والانشقاقات والتجاوزات وارتفاع حاد بعدد رؤساء الحزب الذين توالوا على “تقلّد” هذا المنصب الرفيع، فبلغ أربعة، أي بمعدل سنتين ونصف لولاية كل رئيس. ساهموا جميعاً في نقل الحزب من حالة انحطاط إلى حالة أحط.
من ناحية الإنتاج الفكري، فقد سُجِّل انخفاض حاد في الإنتاج الفكري والبحثي وصل إلى درجات العقم الشال للعقل وفي كافة المجالات، باستثناء محاولات قام بها أفراد، ومن خارج المؤسسة. وفي المقابل سُجِّل ارتفاع شديد في التنافر الفكري حول أمور كانت بمثابة مسلّمات عند القوميين.
أمام هذ الحالات السلبية إلى أبعد الحدود، يقف القوميون أمام ذواتهم حائرين مشتتين متوارين، مهما حاول البعض تقنيع الواقع، فاستمرارية ما تبقى من مؤسسات ليست إلاّ نتيجة لاستمرارية زخم الفكر والعقيدة والمبادئ، ولا دخل لها بأداء المؤسسات أو المسؤولين.
هل سنبقى في هذه الحالة أم سنتخذ القرار الصعب في الانتقال من حالات الارتجال والانفعال ومجرد الاستمرار الاجتراري إلى حالات التخطيط والتنظيم وتحديد الأولويات ومؤشرات الإداء ومفاهيم التقييم للوصول إلى وضعية يكون فيها القوميون فعلاً أمل الأمة بغد أفضل؟