زيد قطريب

أبدأ بقصة تعود إلى أواخر الثمانينيات، حيث انشقّ الحزب بين “مجلس أعلى” و”طوارئ”. في ذلك الوقت كانت مدينة “سلمية” منفذية نشطة وقوية، لكن فتك بها الانشقاق بعد أن كان ملاكها سبع مديريات فعالة أو أكثر، مع عدد هائل من المواطنين الإذاعيين، يعملون بأسلوب العمل السري ونظام “المفوضيات” الصغيرة.

انشقّ القادة في المركز، لأسباب كثيرة لا علاقة لها بمصلحة الأمة ولا الحزب، ثم عمّموا انشقاقهم على بقية دوائر الحزب التي تداعت هي الأخرى ثم تشظّت. في ذلك الوقت اجتمعنا أنا والرفقاء علي عزوز “أبو آداد” والرفيق زياد عزوز، فقررنا الاستمرار بالعمل وكأن هذا الانشقاق لا يعنينا أبدًا. المنفذية توقفت عن العمل حتى تتضح الأمور، ودبت الخلافات بين الرفقاء حول من يمتلك المشروعية، لكننا استمرينا بعملنا الإذاعي والإداري باعتبار أن المركز في الأساس لا يقدم لنا شيئًا سوى بيانات ذكرى التأسيس والأول من آذار والثامن من تموز، فقلنا فليشقوا أنفسهم وليتشقشقوا، فنحن مستمرون بالعمل كأن شيئًا لم يكن!

النتيجة كانت تخريج عدد هائل من المواطنين الإذاعيين الذين أقسموا اليمين لاحقًا بعد الانتظام في الحزب “الموحد” الذي عاد وانشق مرارًا وتكرارًا للأسباب نفسها وهي الصراع على السلطة والارتباط بجهات لا يهمها مصلحة الحزب ولا الأمة.

أيضًا، قصة ثانية ليست قديمة حصلت في متحد مدينة السويداء عندما حصل الانشقاق الأخير، وهو انشقاق لا يختلف عن سابقه في الدوافع الأساسية والمصبات النهائية. في السويداء قرأت بيانًا عمّمه القوميون الاجتماعيون هناك، ويعلنون فيه عدم علاقتهم بأي طرف منشقّ، ويقررون الاستمرار بالعمل كأن شيئًا لم يكن. فالعمل الإذاعي والثقافي والإداري، هو العمل الحقيقي على الأرض، أما في المركز، فسيبقى من سمّاهم هنري حاماتي وفايز خضور يومًا بالكرادلة، يتصارعون على الغنائم والتبعيات، ولا همّ لهم سوى بناء القصور ونقل ملكيات شقق شارع الحمرا التي اشتراها القوميون بدمائهم وأموالهم، إلى أسمائهم في السجلات العقارية.

ماذا يفعل المركز لنا؟ يقول القوميون الاجتماعيون. سوى إرسال نسخ البيانات الرديئة من حيث الصياغة وتكرار الشعارات في المناسبات القومية كل سنة في ذكرى التأسيس والأول من آذار والثامن من تموز؟ أعطونا مشروعًا واحدًا يجعلنا نتمسك بالكرادلة الذين نال معظمهم رتبة “الأمانة” عبر صفقات الانتخابات والتبعيات للقياديين على قاعدة “المانح المستفيد”. حتى في الوقت الذي ظهر فيه بعض الشخصيات التي يمكن المراهنة عليها في انتاج قيادات أخلاقية جديدة للحزب، قاموا باغتيالها بدءًا من الشهيد وسيم زين الدين أبو وجب وصولاً إلى الشهيد الأمين حبيب كيروز؟

الحزب اليوم لا يدور حول محوره الطبيعي. هذا إذا سلمنا أنه يمتلك محورًا بالأساس. منذ استشهاد سعاده حتى اليوم، الحزب “مهرهر” مثل سيارة الخردة، ومسلوب الإرادة ومنهوب بالصفقات، والدليل الثروات الهائلة التي يمتلكها القائمون عليه، وهم في الأساس أصحاب إمكانات متواضعة ولم ينتجوا شيئًا للأمة أو للحزب.

إذا كان سعاده قد استغرب صمت القوميين الاجتماعيين على انحرافات نعمة ثابت ومأمون إياس وغسان تويني ويوسف الخال، إثر عودته من المغترب القسري، فما عساه اليوم يقول، إذا حصلت معجزةٌ ما وعاد؟ هل يطرد القوميين الاجتماعيين جميعًا من الحزب؟ ثم يعود ليؤسسه من عدة أشخاص خارج هذه التركيبة كلها؟

لفتني ما كتبته الدكتورة صفية سعاده عن احتمال وقوع تزويرٍ ما في كتاب “المحاضرات العشر” ارتكبه جورج عبد المسيح، أو لنقل إنه لم يكن أمينًا في نقل كلام سعاده بحذافيره، على اعتبار أنه كان المدوّن في الندوة الثقافية آنذاك، وهذا النقل غير المأمون يتعلق بالحديث عن السلالات الراقية والسلالات المنحطة كما تقول الدكتورة صفية. من وحي هذه النقطة “التشكيكية” القابلة للبحث العلمي بطبيعة الحال، ومن وحي ثقافة الطاعة العمياء التي سادت لعقود تحت شعار، “نفذ ثم اعترض”، والذي ترجمته الفعلية هي “نفذ، أما اعتراضك فيمكنك بلّه وشرب مائه”، يصبح بإمكاننا ان نتخيل هذا السيناريو: “يكتشف” بعض “الكرادلة” من أصحاب الرتب “المبهبطة”، ملحقًا سريًّا لكتاب “المحاضرات العشر”، يتنبأ فيه سعاده بقدوم القياديين الحاليين وبالأسماء، ويطلب من القوميين الالتزام معهم حتى لو أخذوهم إلى البحر ورموهم فيه. وفي هذا الملحق المتخيل، يقول سعاده وبالحرف: “سيأتي رجالٌ لا يحللون ولا يحرمون، وليس لهم عهدة ولا التزام ولا عقيدة، فاتبعوهم، هم وحدهم من يعرف مصلحة الأمة العليا!”

 ليس مستغربًا أن يخترع “الكرادلة” ذلك “الملحق السري”، زورًا وبهتانًا. كيف لا؟ وهم من بصموا للمانحين عندما حولوا الحزب إلى “دكانة”. المانحون الذين نقلوا ملكية الحزب إلى أسمائهم الشخصية في سجل العقارات.. يا حيف!

0

0