القومية الديمقراطية – قيس جرجس
Share
ينشر هذا المقال في موقع سيرجيل أيضا.
لقد ترافق نشوء الدولة القومية مع نشوء الدولة الديمقراطية مع نشوء النظام الرأسمالي في القرن التاسع عشر في أوروبا وقد دُعي بعصر القوميات كما يسمى القرن الحالي بعصر العولمة.
تظاهرات هذا النشوء:
على المستوى الثقافي: رافق نشوء ثقافة التمدن الحديث واختراع التجارة والطباعة والآلة ونشوء عصر التنوير ونظريات نشوء الأمم وفلسفات التطور التاريخي كالليبرالية والوجودية الفردية والماركسية.
على المستوى الاقتصادي: رافق تحوّل في طبيعة الاقتصاد والطبقات من نظام اقطاعي إلى نظام صناعي ونشوء طبقة العمال والرأسماليين والطبقة الوسطى.
على المستوى الاجتماعي: تجلّي بظهور شخصية الفرد وظهور شخصية الجماعة بنشوء الإرادة الشعبية العامة الساعية لوضع سيادتها في الدولة.
على المستوى السياسي: رافقه نشوب حروب لها طبيعة قومية بين الأمم واندلاع ثورات كثيرة متتالية أدت لظهور الدولة القومية الديمقراطية أو الدولة القومية الاشتراكية على أنقاض الدولة الأوتوقراطية والثيوقراطية.
بينما نشهد اليوم عصر ارتقاء التمدن العصري وثورة المعرفة والمعلوماتية والدولة القومية الاجتماعية الديمقراطية والاقتصاد الاجتماعي المعرفي مع ظهور طبقات جديدة بأدوار مختلفة وظهور وحدات إقليمية قارية فوق قومية ومنظمات أممية وعولمة اقتصادية وثقافية وتجارية وأمنية.
فيما يخص تفسير الظاهرة القومية في العصر السابق:
لقد ظهرت نظريات عدة لتفسير ذلك، وكان أغلبها نظريات سياسية تربط الظاهرة القومية بنشوء الأمم الموحدة وتنافسها على السيطرة، وتجسّدت كدعوة للوحدة السياسية على أساس التاريخ المشترك أو اللغة أو العرق كرابطة أساسية للأمة، وكانت هذه النظريات أغلبها سياسية تخدم الطبقة الحاكمة الرأسمالية ومشاريعها وأحلامها التوسعية، ولهذا صُبغت بالنزعات العنصرية وسادت الحروب نزاعا على الحدود والسيطرة والهيمنة نتيجة لذلك، وتم تحميلها أوزار ذلك كظاهرة اجتماعية، بينما يعود ذلك السلوك الاستعماري إلى أطماع الحكام والطبقة الرأسمالية المسيطرة على الدولة.
لذلك ربطت الفلسفة الماركسية ظاهرة القومية بنشوء الطبقة الرأسمالية، وراهنت على زوالها وزوال الدولة الديمقراطية بزوال الطبقة الرأسمالية وإسقاطها بوحدة طبقة العمال في الدول الصناعية وإقامة ديكتاتوريتها ونشوء الأممية، لكن هذا لم يحدث بل قامت الدولة القومية الاشتراكية كندٍّ للدولة القومية الديمقراطية ونافستها على حكم العالم.
وكما تشكل نظام طبقي داخل كل أمة ومجتمع تشكل نظام طبقي انترنسيوني في العالم يقسمه إلى أمم غنية صناعية مستعبدَة الأمم الضعيفة الممزقة.
وقد تم استيراد أغلب هذه النظريات لتطبيقها في العالم العربي.
بالنسبة لسعاده ونظرته القومية الاجتماعية كانت خلافا لكل النظرات الأخرى فيما يلي:
ربط نشوء الأمة والمتحدات الاجتماعية الإنسانية، بنشوء الرابطة الاقتصادية الاجتماعية كحاجة حياتية، كان سببها في تأمين مقومات العيش ومن ثم ارتقاء الحياة الاقتصادية الاجتماعية الناشئة بفعلها، والتي تعني نشوء المتحدات البسيطة ثم المركبة والأمم، وذلك نتيجة الاستقرار في بيئة ما ونشوء العمل المشترك والتفاعل والتواصل العمراني وبالتالي نشوء الصفات والمصالح المشتركة والتاريخ المشترك.
لقد رفض كل النظريات السياسية التي تقول بأن التاريخ المشترك، الذي هو نتيجة للاستقرار والتواصل العمراني وليس سببا، وكذلك اللغة، بأنهما أساس وروابط لنشوء الأمم، كما نقض نظرية العرق والصفاء العرقي الموهومة.
واعتبر أن الهوية الأساسية الوطنية تتأسس على الانتماء الأساسي السائد في المجتمع، الذي هو الاشتراك في الحياة في بيئة معينة ودورة اجتماعية اقتصادية معينة تنتج التجانس الاجتماعي التنوعي، والباقي روابط ثانوية لا تصلح معيارا عادلا لحقوق المواطنة في الدولة.
كما أن هذه الهوية الاجتماعية مفتوحة على التفاعل والاشتراك والانفتاح المضطرد على الأمم ومجتمعات العالم وبينها. لهذا قال من يدري قد يصبح العالم أمة واحدة على أساس ذلك.
وبالتالي وضع حدا للمفهوم الاستبدادي للأمة والهوية الجغرافية واللغوية والعرقية والدينية وأسس للهوية الاجتماعية الإنسانية التاريخية ولطريق عملي لصيرورة الإنسانية مجتمعا واحدا في مستقبل العصور.
كذلك ربط نشوء الدولة بنشوء المتحد المركب (دولة المدينة) والتي كانت مجرد قوة فيزيائية مستبدة. وبعدها تطورت شكلا ومؤسسات ووظائف وحقوقا.
وربط فكرة الدولة وتطورها بتطور مفهوم الأنا والأنت وتنظيم موارد ومكونات المجتمع.
وربط قيمة الدولة بتحسين الحياة، واعتبر قيمتها فيما تنطوي على حقوق للناس.
وربط نشوء القومية كوعي وشعور مشترك بنشوء الإرادة العامة بنشوء الطباعة والورق وفتح الأبصار ونشوء الشعور المشترك ونشوء الاقتصاد الصناعي ونشوء الطبقة الوسطى.
“إن استيقاظ الشعور بالوحدة الحيوية والمصلحة الواحدة والرابطة الواحدة بالحياة في أشكالها وأسبابها واتجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهزها بوسائل التعبير عن إرادتها فكان ذلك نشوء القومية.” بحث “الدولة الديمقراطية القومية”، (نشوء الأمم).
“كان للورق والطباعة وفتح الأبصار والأعين دور في إيقاظ الشعور،” كما كان لنشوء التجارة والصناعة والقضاء على النظام الفردي والعائلي الإقطاعي ونشوء الطبقة الوسطى دور في ذلك”. نفس البحث
أما بالنسبة لطريق الإرادة العامة القومي التاريخي ومبدأها السيادي ونظامها السياسي الديمقراطي:
فقد اعتبر الطريق القومي للإرادة العامة الطويل والوعر كان في الصراع المستمر للقضاء على الاقطاع الديني والاقتصادي حتى بلوغ سيادتها في الدولة الديمقراطية التي تأسست أولا على حقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة بإسقاط الدولة الأوتوقراطية والثيوقراطية.
“لم تقف القومية عند حد القضاء على سلطة الاقطاعيين وتوحيد المرجع بالملك، الذي أخذ تفرّده في السلطة يتعاظم حتى أصبح شديد الوطأة، بل سارت نحو الهدف الذي يبرر وجودها وهو إقرار السيادة من الشعب وإن الشعب لم يوجد للدولة بل الدولة للشعب.” “هذا هو المبدأ الديمقراطي الذي تقوم عليه القومية.” نفس البحث
إذا إن مبرر وجود النضال القومي عند سعاده هو في هذا الطريق العملي السياسي في إسقاط كل أشكال الاستبداد في أي دولة وكل منظوماته الثقافية والاجتماعية والسياسية.
وهذا الطريق النضالي الثقافي السياسي لتعزيز الوعي بمصالح الأمة وحقوقها المسلوبة، شديد الاتصال بتحرر شخصية الإرادة العامة وسعيها لامتلاك قوتها في الوحدة، وامتلاك حيويتها بتحرير شخصية الفرد من ثقافة القبيلة بنيله حقوق الإنسان، وبلوغ غايتها في الدولة بإسقاط كل استبداد ديني أو طائفي أو سياسي أو حزبي أو طبقي بها عبر مسار تاريخي ما يزال قائما حتى الآن ولن يقف عند نقطة ما.
“تحت هذا العامل الجديد، عامل القومية الظاهر في تولد روح الجماعة والرأي العام، تَغير معنى الدولة من القوة الحاكمة المستبدة إلى سيادة المتحد وحكمه نفسه.” نفس البحث
هذا هو المشروع القومي النضالي السياسي، الذي أسس حزبه لتنكبه. “أسست الحزب لتمكين أفراد الشعب من نيل حقوقهم المدنية والسياسية.”
وهو طريق عملي سياسي، لبلوغ الأغراض القومية الأخرى في الوحدة السياسية لأمة ممزقة، وبلوغ التحرير لأجزاء محتلة منها، لامتلاكه بذلك الحامل الاجتماعي القوي الموحد الواعي لذلك، عبر بعث نهضة تقود الإرادة الشعبية العامة لتحقيق مصالحها وتأمين حقوقها السياسية والمدنية والحياتية في مواجهة الأنظمة المستبدة الملوّنة ووضع سيادتها في دولة ديمقراطية علمانية عادلة في كل كيان تكون المعبر لبلوغ وحدتها عبر مداها الاجتماعي الحيوي على مستوى الأمة.
فهو المَعْبَر الحقيقي العملي إلى التوحيد والتحرير، لأنه مسار تاريخي عمليُ الحصول والتطور لا يمكن الاستغناء عنه، يتأسس على تأمين كرامة الإنسان في بلوغ حقوقه الإنسانية، وعلى تحقيق مصالح الشعب في بلوغ حقوقه كاملة وعلى بلوغ قوته وارتقائه.
فالشعب المجهض الكرامة والمقهور والمشلول بالاستبداد والمحاصر من دوله وأنظمته غير قادر على إنجاز أي فعل توحيدي أو تحريري.
كما أن هذا المسار لا تحققه الأنظمة المستبدة المتقوقعة ضمن شهوتها التسلطية وأغراضها الخاصة المدمرة. فهي في أحسن أحوالها إن امتلكت مشروعا وحدويا سياسيا، هو مشروع تسلطي لغاية توسيع سيطرتها أو تثبيتها، وهو مشروع مملوكي لها يقيم سيادتها بدلا من سيادة الشعب ويفسد روابط الوحدة ويسبب الانغلاق والعداوة بسبب أدواته الأمنية القمعية أو العسكرية في تحقيق ذلك.
“فالعلة ليست في الكيانات، وإن هذه الكيانات نتيجة وليست سببا، بل العلة في نوع الحكم والإدارة والحياة السياسية اللا قومية الفوضوية فيها.” الآثار الكاملة ج 14- ص16
“فالحزب لا يقول بالضم أو الفصل، بل يعمل للوحدة القومية وجعل الأساس القومي محل الأساس الديني ونزع فكرة الحكم على أساس المذهب، أما الوحدة السياسية فمسألة غير متعلقة بنا رأسا، بل مرجعها الأمة.” الآثار الكاملة ج1- ص53
إن التنظير الذي ساد في الحزب من بعده، بأن القومية مفهوم مرتبط بالأمة فقط، ويقتصر على الدعوة للوحدة السياسية، وتأجيل العمل للدولة الديمقراطية لما بعد الوحدة، مناف تماما لما عناه سعاده بالعمل القومي السياسي، وهذا ما أدى لخروج الحزب من قيادة الصراع وعدم تحوله إلى حركة شعبية ناهيك عن سقوطه في الطوباوية القومية والفساد السياسي.
فجوهر القضية القومية الاجتماعية عند سعاده هو في تفجير صراع الحرية والحداثة والتنمية والعدالة سياسيا وثقافيا واجتماعيا ضد كل الأنظمة المستبدة لصالح الشعوب، وهو المسار الذي يجب أن يقوده الحزب كي يكون حركة شعبية حاضرة في الصراع ورائدة في العمل القومي الوطني وقبلة كل الأحرار.
أما فيما يخص نقد سعاده للديمقراطية وأزماتها:
فهو يعود تاريخيا إلى أن الديمقراطية لم تتكامل كنظام مؤسساتي أثناء حياته، بل تدرجت في تجديد نفسها وتجاوز أزماتها دائما لتحسين وظائف الدولة تجسيدا أكثر لسيادة الشعب. وقد كان محقا في ذلك لا سيما في نقده الدول الديمقراطية الرأسمالية التي عانت وتعاني من أزمات طبقية حادة وظلم واستعباد وسلب لحقوق الشعب العامل المنتج. لقد ذهب للقول في مقاله عن بحث الديمقراطيين وحاجتهم لعقيدة اجتماعية كي لا ينفجر الصراع الطبقي، كما ذهب لنقد الديمقراطية التمثيلية في تمثيل القوى السياسية الجامدة واستبداد الأكثرية بالأقلية واستبداد العدد، خاصة في مجتمعات تعاني من سيطرة النظام الأبوي الديني الطائفي الثقافي والسياسي. لقد قال بضرورة إسقاط هذا النظام وتجديد الديمقراطية واستعادة أساسها التعبيري عن مصلحة الناس في التطوير والتحديث في كل مجالات الحياة من خلال مصطلح سمّاه الديمقراطية التعبيرية، والتي ذهبت معظم دول العالم فيما بعد في إدراك معانيها من خلال تحسين أدواتها وتوسيع وظائفها وتجديد مؤسساتها وتحسين أدائها من خلال تشريع مراكز البحوث ومراكز الدراسات والمستشارين ووضع شروط للمرشحين لوظائف دقيقة ومهمة.
ولهذا ضمّن مشروعه لبناء الدولة الحديثة ثلاثة مبادئ:
المبدأ الديمقراطي.
ومبدأ فصل الدين عن الدولة.
ومبدأ العدالة الاجتماعية والاقتصادية الحقوقية.
وإقامة ثلاث سلطات:
سلطة العقل في الإنسان
سلطة المعرفة في المجتمع
سلطة القانون في الدولة.
خاصة في بلاد تعاني من ضياع الوعي القومي وسيطرة الوعي الطائفي والعرقي والديني وطغيان ثقافة القبيلة وثقافة النظام الأبوي الديني في الثقافة والسياسة والجمود والتخلف والجهل.
أما مقاربة الديمقراطية كنظام سياسي من خلال عمل السلطة وعلاقة السلطات وانبثاق السلطة ففي مقالة تالية.