LOADING

Type to search

القتل اليومي في سوريا بين المنطقي والمبهم

موضوع العدد

القتل اليومي في سوريا بين المنطقي والمبهم

Avatar
Share

انطلق الموت والقتل مع ما اصطلح على تسميته بالثورة السورية، بحالة حرب بين الدولة السورية ضد جماعات متنقلة ومدعومة دولياً بالمال والخبرات والإعلام، ولكنه وبعد 8-12 انطلق كظاهرة منطقية ومبهمة في الوقت نفسه.

بينما تتفاخر جميع ثورات العالم باليوم الذي أعلنت فيه انطلاق عملها العسكري، لأنه شكل نقطة التحول الكبرى في سياق حدث عظيم هو الثورة التي انتقلت بهذا القرار من حالة العصيان المدني إلى حالة العنف المسلح، نرى المشهد في الثورة السورية على النقيض. فما هو تاريخ انطلاق العمل المسلح لهذه الثورة؟ من هو أو هم أصحاب هذا القرار؟ ما هي الدوافع القاهرة التي جعلت هكذا قرار ضرورة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها ستبقى من المجهولات ومن دون إجابة. ستبقى كذلك، ومهما اشتدت همم محطات “الجزيرة” أو “العربي” في صناعة وثائقيات عن الحدث السوري. ببساطة، لا تملك الثورة السورية تاريخاً محدداً يُتفق عليه كبداية للعمل المسلح. فقرار بدء العنف المسلح ظهر بشكل لقيط، وأُريد له أن يحيا ويستمر ليكون قوياً وفاعلاً كأحد تفاصيل الحرب السورية.

إن الصندوق الأسود لمجهولات الثورة السورية التي لا جواب عليها، هو بالضبط ما أريد لشكل العنف أن يكونه ليفعل ويستمر وينتصر. إنها حالة تحمل كل قشور وانفعالات وزخارف ما يمكن تسميته ثورة، ولكن بأقل مجازفات ومخاطر الثورة. إنها شروط الممول الخليجي والغربي لصناعة سوريا كما يريدها.

القتل والاغتيال كظاهرة منطقية بعد 8-12:

إن أشهراً من التحريض الطائفي قام بها الشيخ عدنان العرعور قبل بداية أول مظاهرة في سوريا، وعقد ونيف من الهياج لشعارات طائفية مثيل “سوريا حرة حرة علوية طلعو برا” أو “العلويين عالتابوت والمسيحية عا بيروت” أو “النظام العلوي المجرم” تجعل القتل في سوريا بعد 8-12 مبرراً ومفهوماً. بل إن قضية خطف النساء العلويات قضية منطقية، فهل ينسى الشعار الثوري “نسوانون للكيف ورجالون للسيف” وقد طبق هذا الشعار مع نساء الأزيديين، فلماذا لا يطبق على نساء العلويين!

لا أستطيع وصف دهشتي أمام من تصيبه دهشة لمشهد القتل الطائفي الذي انطلق بعد 8-12. إن هذه الشعارات كانت وستبقى الذخيرة السلوكية والزاد النفسي ومنطلق الولاء للمرحلة قبل وبعد 8-12. وإلا بحق الله من أجل ماذا كان موت مئات آلاف من شهداء جنود الجيش السوري والقوى الرديفة خلال أعوام الحرب!

لقد دافع هؤلاء الشهداء عن المجتمع السوري، عن طوائفهم وعائلاتهم ونسيج وطنهم الموحد الذي لا يراهم إلا بمنظار هوية المجتمع السوري. كانت معركتهم لمنع انتصار تلك الشعارات أعلاه والتي لا نحتاج إلى استشراف معقد أنها ذاهبة إلى التطبيق في حال انتصار هذه الثورة.

منذ 8-12 وإلى الآن ويومياً يتم قتل العلويين في سوريا، ثم جاء دور الموحدين الدروز تحت حجة أن أحدهم شتم الرسول، ثم تحولت القضية إلى انتزاع السلاح منهم وسيادة الدولة! هل يحتاج الأمر أيضاً إلى عبقرية سياسية لنعلم أن مصيرهم سيكون كمصير العلويين!

ما يجب أن ننتبه له في الاشتباكات ووتيرة التصعيد العالية بين فصائل الجولاني في دمشق ودرعا ضد الموحدين الدروز أنها توقفت مع اللحظة التي بدأت فيها الحرب بين إيران وإسرائيل ومازالت متوقفة إلى وقتنا هذا. والتفسير المنطقي لهذا التوقف أن الجولاني لا يريد الظهور بمظهر من يقاتل إسرائيل التي مارست سلوكاً عسكرياً محدوداً للدفاع عن الموحدين الدروز وبالتالي سيجد الشرع أنه مع إيران في نفس المعركة ضد إسرائيل. ليس لأن الشرع يهتم بمشاعر الإيرانيين في هذه النقطة بل لأنه يهتم بمشاعر الإسرائيليين وكيف يفهمون الموضوع. نستطيع أن نستنتج أن الهدف من معركته مع الموحدين الدروز في السويداء ليس سلاح السويداء بل هو رميهم في أحضان إسرائيل ببساطة، أو بقليل من التعقيد استخدام معركته معهم كبوابة للتفاهم مع إسرائيل بما يخص الجنوب السوري، وهذا يفسر تعليق صورة الشرع في تل أبيب مع وجهاء السلام الإبراهيمي بعد توقف الحرب مع إيران.

 ألا تفسر مجريات الأحداث بين الجولاني والسويداء ما جرى مع العلويين في الساحل! فالقتل الطائفي الذي بدأ منذ 8-12 كان هدفه المبطن دفع العلويين إلى أحضان الأتراك أو الفرنسيين، وعلينا أن نتذكر مقطع الفيديو الذي تحدث فيه الشيخ صالح منصور في 15 كانون الأول أن ثمة ممثلين لفرنسا يمرون على وجهاء الطائفة العلوية في الساحل ويريدون منهم أن يطلبو الحماية الفرنسية.

لقد تصور الشيخ صالح منصور أنه في فضحه لهذه العروض يستدعي شرعية ما أمام الجولاني. لم يتخيل الشيخ صالح إن هؤلاء المندوبين لا يمكن أن يتجولوا في الساحل بدون معرفة التركي الذي كان إلى وقتها الراعي الوحيد لسلطة الجولاني، فوقع الشيخ منصور في الفخ. جاءت المجازر التي استمرت مدةَ أيام ثم توقفت بقدرة المقرر لها، وتمت العودة إلى وضعية التصفية بالمفرق أي الوضعية التي بدأت بعد 8-12.

ببساطة، إن الأقليات ليست أكثر من ورقة للمساومة الدولية عند الشرع وفريقه. وإذا كنا نستطيع الاستدلال أن وضع حد لعلاقة العداء مع إسرائيل كان شرطاً لاستلام هيئة تحرير الشام للسلطة، فثمة الكثير من القادم ليتم المساومة عليه باستخدام ورقة الأقليات، وليس تفجير الكنيسة في دمشق إلا تلويح باستخدام ورقة الأقليات بما يلزم لتثبيت سلطة الجولاني وظهوره كلاعب مقتدر، وربما في لبنان. ولمَ لا! الشعارات حاضرة والبيئة الحاضنة يدها على الزناد والسكين، والتلفزيون السوري الرسمي يتحدث بصراحة عن “أقليات متمردة” و”أكثرية” و”مظلومية سنية” والعرعور الذي حرض طائفياً قبل أي مظاهرة في سوريا يتنقل بين القبور ويوبخ الموتى، وترامب يريد ترتيب المنطقة من جديد.  

القتل والاغتيال كظاهرة مبهمة بعد 8-12 (الأجانب ودرعا)

إن الولايات المتحدة التي كانت ترفض تجنيس الأجانب ودمجهم في الجيش، ثم أصبحت تشجع الفكرة هي نفسها منذ 8-12 تغتال كل فترة شخصية قيادية من الفصائل المسلحة في أرياف ادلب. فإذا وضعنا جانباً من تغتال من داعش في الجزيرة السورية، قام التحالف الدولي باغتيال 5 شخصيات تعود لفصيل حراس الدين: سعوديَّين وليبيَّين وسورياً واحداً. المثير هو الصمت الأمريكي والتركي والسوري بل وصمت بقية الفصائل بسورييها وأجانبها وهم الذين يتغنون كل فترة بفكرة أن الأجانب هم الأخوة الذين جاؤوا لنصرة المسلمين في سوريا. ماذا عن فصيل حراس الدين؟ لماذا يصمت الفصيل نفسه؟ هل ثمة فصائل بسمنة وفصائل بزيت؟ وهل العلاقة بين الفصائل على هذا المستوى من الانتهازية والهشاشة ليصمت الجميع؟

يصعب تفسير هذا القتل المبهم إلا تحليلاً، فبعد 8-12-2024 لم تعد أمريكا معنية بإسقاط النظام الجديد، بل بتوظيفه ليمنع انفجار ساحة سوريا على نحو يهدد مصالحها الكثيرة وخاصة ما يتعلق منها بأمن إسرائيل. ويبدو أنها وافقت على بقاء منظومة الفصائل للسيطرة المناطقية موزعة على الجغرافيا السورية للسلطة الجديدة، بشرط إن تكون قادرة على ضبط مقاتليها ضمن حدود هذه المصالح.

إن دمج الإيغور في وزارة دفاع دمشق الجديدة ينظر له أميركياً كتحول من مقاتل متشدد إلى عنصر نظامي يجب توظيفه. نحن أمام تفاهم غير معلن: تغض واشنطن الطرف عن بقاء جماعات “غير صديقة” داخل بنية الجيش السوري الجديد، مقابل عدم استهدافهم لقوات التحالف أو مصالحه في التنف والجزيرة، أو ما يمكن أن تطوله يده هذه الفصائل! ببساطة أمريكا تتعايش مع من يمكن احتواؤه وتغتال من لا يمكن احتواؤه. إنها قاعدة مشهورة في عالم الاستخبارات: “لا يُقتل الخطر؛ يُضمّن أو يُوظّف، وإن فشل الأمر، يُصفّى بهدوء.” الإيغور وغيرهم الآن في مرحلة التوظيف.

يأتي القتل المبهم الآخر في محافظة درعا التي انطلقت منها أولى خرافات الثورة السورية، فبعد سقوط الدولة السورية في 8-12 وبشكل شبه يومي ثمة أعداد من القتلى والجثث المجهولة والاغتيالات والتصفيات.

اضطررت إلى الاعتماد على قنوات أخبارية محلية في درعا، تنشر على التلغرام، لأجد تفسيراً لهذا القتل اليومي في درعا وخاصة أن الإعلام السوري الرسمي بعيد عن تقديم أي حدث في سوريا بصورة واقعية. قمت بمتابعة ثلاث قنوات -درعا لحظة بلحظة- درعا شبكة أخبار الجنوب- تجمع أحرار حوران.

قمت بمتابعة أسماء وأعداد من يجري اغتيالهم أو قتلهم أو الجثث المجهولة، وأدخلتُ حوادث الموت أثناء تنظيف السلاح حيث قتل به مثلا شخصان من عائلة واحدة في نفس الشهر مما يدل على التلاعب بالخبر، وأدخلته في محصلة القتل الحاصل في درعا. طبعا تجنبت أرقام الجرحى الناتجة عن الاغتيال والاشتباكات أو شهداء الاعتداءات الإسرائيلية، وكانت الأرقام على الشكل التالي:

كانون الثاني ومن بعد 8-12: 9 أشخاص – كانون الأول 27 شخصاً – شباط 10 أشخاص آذار 53 شخصاً – نيسان 32 شخصاً – أيار 12 شخصاً – حزيران 34 شخصاً.

الملاحظة الأولى التي تستحق التسجيل لفهم هذه الأعداد من حالات القتل المبهم في درعا هو أن قناة “تجمّع أحرار حوران”، رغم لغتها الإعلامية الرزينة في تقديم الحوادث يوميا، وتقاريرها الشهرية الإحصائية لعدد القتلى والمخطوفين والجثث المجهولة والجرحى، فعند المقارنة بقناة درعا لحظة بلحظة نكتشف أن الأسماء المشتركة بين القناتين قليلة، وبالتالي ثمة قتلى لطرف فيحسبهم ولا يحسبهم الطرف الآخر. بينما تولي قناة درعا شبكة أخبار الجنوب الموضوع أهمية محدودة جداً.

والملاحظة الثانية: تصنع قناة درعا من نفسها قاضياً على حوادث القتل والجثث المجهولة، وتوزع وبخفة شهادات حسن السلوك أو الإدانة على الضحايا، فهذا يستحق وذلك لا يستحق، وقد يبدو مفهوماً في أثناء توصيفها لمجريات الأحداث أن تتهم عملاء النظام وفلوله وعملاء إيران وروسيا. ولكنها أيضا تذكر كتتمة للعملاء، عملاء السعودية والإمارات من الأخوان المسلمين وأنهم من يستحقون الموت في درعا. تفسر لك تعليقات المتابعين على القناة هذا الالتباس لأنهم ينتظرون عودة تنظيم الدولة الذي بيده حل كل هذه المشكلات، فرغم تأييدهم للجولاني إلا أنهم يأخذون عليه تقصيره وقلة فاعليته مثلا في تصفية الأقليات، أو اعتماده على رجال دين يعتمدون المذهب الأشعري فهؤلاء كفرة.

يمكن تفسير هذا القتل المبهم ظاهرياً في ثلاثه أبعاد:

  • ساهمت تسوية 2018 في درعا في حل فصائل الثورة التي كانت كثيرة والموزعة على (الجيش حر – جبهة نصرة – داعش- فصائل محلية مرتبطة بإسرائيل أو الأردن) ضمن تشكيلين مسلحين: اللجنة المركزية والفيلق الثامن، وإلا الذهاب إلى أدلب. ويبدو أن اللجنة المركزية والفيلق الثامن مارستا التعسف في درعا والربح من تجارة المخدرات وربما تجارة الأعضاء، فتشكل ضدهما جيش من الناقمين وغير المنتفعين والمتضررين والسجناء، وكان هؤلاء ينتظرون يوم 8-12 وقد جاء معه الحساب.
  • شكل العائدون إلى درعا بعد سقوط الدولة من الذين اختاروا الذهاب إلى إدلب أو السفر خارج البلاد حالتين واضحتين فمنهم من عاد من دون أي نقمة على رفاق السلاح السابقين ويبدو أنهم صدموا بالوضع القائم في درعا، ومنهم من عاد وهو مثقل بحسابات محلية في درعا وحسابات تتعلق بما جرى في إدلب أو ببساطة بحسابات دمشق. وهو الأمر الذي شكل ضغطاً على دمشق لترسل عناصر الأمن العام ويستلموا إدارة المحافظة بدلا من هذين التشكيلين، وبدأ هذا الأمر يتم في شهر نيسان بعد اغتيال شخصية بلال الدروبي حيث عرف شهر آذار ونيسان أعلى مستوى من القتل والعنف في درعا. وفعلاً حل الفيلق الثامن نفسه ولكن لا حاجة للتأكيد أن حل الفيلق الثامن لا يعني زوال سطوته، وانخفاض عدد القتلى في شهر أيار لا يعود إلى استتباب الأمن بل إلى بداية الاشتباك مع الموحدين الدروز في ريف دمشق والسويداء. طبعاً لم أدخل القتلى من أهل درعا بهذه المعركة في الأرقام أعلاه باعتبارهم قتلى لحالة منطقية تتعلق بشعارات الثورة.
  • البعد الثالث هو دمشق وكيف ترى مشهد التوغلات الإسرائيلية في ريف دمشق والقنيطرة وريف درعا الغربي، وهي تملك اتصالاً مع العدو اليهودي، وأمامها خارطة صراعات محلية لعدد كبير من الفصائل لديهم انتماءات إقليمية في محافظة درعا، وقد فقدت هذه الخارطة عدوها السابق وبالتالي سيتوجه نظرها إلى أي سلطة يمكن أن تستولي عليها. والنقطة المفصلية هنا أن هذه الحالة الفصائلية للتنظيمات التي قاتلت الدولة السورية عبر 13 عاماً من الحرب هي برمتها من أبناء البيئة المحلية في درعا والقنيطرة والوجود الأجنبي القابل للتوظيف معدوم تقريباً. فإذا كانت سلطة دمشق تدعو ظاهرياً إسرائيل للعودة إلى خط فصل القوات، فإن المواقع التي وصلتها إسرائيل في القنيطرة ودرعا، وحالة الفوضى القائمة في محافظة درعا وعلاقتها القابلة للانفجار مع محافظة السويداء، يجعل من رضا إسرائيل بترتيبات أمنية مع دمشق أمراً مستبعداً.

لا نستطيع أن نستنتج بعداً إسرائيلياً للفوضى القائمة في درعا، فالمشهد يبدو برمته محلياً رغم أن هذه الفصائل لها ارتباطات إقليمية وإسرائيل إحداها، فالمشهد أقرب لنتائج تراكمت عبر 13 عاماً وكانت إسرائيل أحد اللاعبين فيها. يناسب مستوى الفوضى إسرائيل لأنه يجعل من انطلاق أي عمل مقاوم في درعا أو القنيطرة أمراً صعباً للغاية ويجعل من دورها في ابتكار أي حالة جديدة من العمل العسكري المحلي تفصيلاً متمماً للمشهد هناك، وهكذا تكون إسرائيل صانعاً للترتيبات الأمنية وليس مفاوضاً عليها.

إن ما يصنع تاريخ سوريا القادم هو الموت والسلب والخطف والاغتصاب والضغائن. والمقدار الذي لا يشعر فيه المجتمع السوري أن الخطر عليه كبير جداً وأنه الخاسر الوحيد هو المقدار الذي ستكون عليه النتائج والأثمان.

إحدى الألعاب الذهبية للأمريكي في العراق في أثناء مواجهته المقاومة العراقية هي الحالة التكفيرية التي كانت تتم بدعم ورعاية خليجية، وهي ليست ورقة بيد الأمريكي في دمشق الآن بل هي سورية برمتها تحت وطأة هذه اللعبة.            

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.