الخطابُ الفجُّ – رئيس التحرير
Share
رسالة جوابية إلى قارئة قررت التوقف عن قراءة الفينيق
عزيزتي القارئة المحترمة
لتحي سوريا كما حييتِها في مستهل رسالتك.
كان البرلماني الكندي الراحل مارسيل برودوم، الذي انتخب لثمانية دورات متتالية يقول: “إذا جاءتني خمس رسائل تتعلق بأمر واحد، يصبح هذا أمرًا يستحق الاهتمام.” نحن في الفينيق لا ننتظر وصول خمس رسائل من القراء، بل نعطي كل رسالة حقها ونستفيد منها حيث يجب، ونُخضع مضمونها للنقاش حيث ينفع.
في رسالتك، تنتقدين “الخطاب الفج” لزميلنا زيد قطريب، والذي “يتضمن مفردات صادمة لا تليق بالخطاب العام”. وأن عناوين بعض مقالاته مثل “أخو الشليتي والسرسري” غير مستساغ. وحضرتك، إذ تنتقدين هذا الأسلوب تحترمين حق الكاتب في استخدامه، ولكنك تتساءلين ما إذا كانت هيئة التحرير تراجع مقالاته قبل نشرها.
كذلك تشيرين حضرتك إلى أنك إذ لا تحبّذين استخدام العامية في الكتابة الصحفية، فاعتراضك ليس عليها بل على بعض المفردات، فتتساءلين، “هل عقمت اللغة العربية إلى هذا الحد؟ ما الجدوى من هذا المستوى من الخطاب؟ ما الفكرة من استخدام مفردات كهذه؟”
وحضرتك تطرحين فكرة مهمة هي: “دائماً يكون الكاتب أمام خيارين: إما أن يرتقي بالجمهور إلى مستوى خطابه، أو أن ينزل بمستوى خطابه إلى مستوى الجمهور، ربما الخيار الثاني أسهل.” وتختمين بالقول، ” وبكل الأحوال، سواء أخذت بملاحظتي أم لم تأخذ لن أقرأ المجلة مرةًّ أخرى.”
فاتني ذكر استهلال رسالتك بما يلي: “ت.س. إليوت عندما رفض نشر رواية مزرعة الحيوان لـ جورج أورويل، كان رده كالتالي: ” (ليس لدينا قناعة، بأن هذه هي وجهة النظر الصحيحة لانتقاد الوضع السياسي.) هذا الرد ينطبق تماماً على موقفي من مقالات الأستاذ زيد قطريب.”
لا شك ان الرسالة تتضمن أفكارًا مهمة جديرة بالإقرار والنقاش.
النقطة الأولى هي إقرارنا بحق القارئ رفض القراءة لكاتب ما بسبب أسلوبه، ولكننا لا نرى ضرورة سحب هذا الموقف على مجلة تتضمن العديد من المقالات والآراء والمواقف، وإن كنا نحترم قرارك ونتمنى لحضرتك الخير في كل ما تقرئين.
ولكن لعلك ترغبين في إعادة النظر بالمثل الذي استخدمته لكي تدعمي موقفك، أي رأي الكاتب ت. س. إليوت بمخطوطة “مزرعة الحيوان” التي رفض نشرها. فكما هو معروف، أصبحت قصة مزرعة الحيوان، Animal Farm من روائع الأدب النقدي الساخر، وتُرجمت إلى عشرات اللغات، وتُدرّس في المدارس للصفوف الثانوية. ولكن هذا لا يمنع كونها رواية إشكالية بامتياز في الشرق والغرب. ففي الدول التوتاليتارية يُمنع الكتاب منعًا باتًا. أما وكالة الاستخبارات المركزية فترجمته للغات دول أوروبا الشرقية وحاولت توزيعه هناك كبروبغندا. ولكن، وفي الوقت نفسه، يلاقي الكتاب معارضة شديدة من بعض المحافظين في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا حيث ينظر إلى الكاتب كاشتراكي يحرض على الثورة!
ترى، أليس هذا هو دور الكاتب الرائي بغض النظر عن “أسلوبه الفج”.
ولكن لماذا نبعد إلى جورج أورويل. لنبقى في سوريانا. هناك اسمان يلمعان كعلمين من أعلام اللغة والأدب والنقد السياسي الساخر، سعيد تقي الدين ومحمد الماغوط. والاثنان يستعملان من “المفردات الفجة” والعامية الكثير. إنه أدب الحياة عزيزتي وليس أدب الصالونات.
والموضوع لا يقتصر على الأدب بل يتعداه إلى الموسيقا. لنأخذ واحدة من أشهر الأوبرا في العالم، “الفلوت السحري” The Magic Flute لموزارت. لم يكتب موزارت هذه الأوبرا لدار الأوبرا الملكية في فيينا ولروادها من الطبقة الارستقراطية، بل للعامة. ولُعبت أول ما لعبت في مسرح خاص شعبي في أحد ضواحي فيينا. وما شجع موزارت على ذلك حضوره أحد حفلات “الفودفيل” في ذلك المسرح ومعاينته لردة فعل الناس عليها، بما في ذلك مشهد استعراضي قد يقزز الكاتبة إذ نرى المقانق تخرج من مؤخرة حصان على المسرح.
هل تُراجع هيئة تحرير الفينيق مقالات الكتّاب؟ طبعا. هل تختار الطريق السهل فتنزل بخطابها إلى مستوى الجمهور؟ الفينيق عزيزتي هي مجلة الناس حيثما كانوا. إنها لا تكتفي بوضع رجل على رجل في صالون أدبي أنيق يعيد فيه “مثقفون” ما يقوله “مثقفون”. إنها تنزل إلى الشارع وتخاطب الناس في البسطات ومواقف الباص، وكذلك في حفل توقيع الكتب والأمسيات الشعرية. الفينيق تنقل هموم الناس وطموحاتهم من جهة، ولكنها تقدّم لهم رؤية جديدة للكون والفن والحياة والسياسة وتترك لهم أن يختاروا. إنها تحاول، في جو سياسي ضاغط، أن تقول ما يُخشى قوله، فإن جاء أسلوب بعض كتابها “فجا”، فالعتب ليس على الكاتب، بل على من تسبب بالوجع الذي يؤدي إلى ما قد يراه البعض فجًا.
هذا، بالمختصر الشديد، هو دور الفينيق ومسؤوليتها.
وتفضلي بقبول كل المودة والاحترام.
أصبت