الحوكمة الشاملة في النهضة – الجزء الأول – د. ميلاد السبعلي
Share
تبدأ الفينيق، اعتبارا من هذا العدد بنشر هذه الدراسة القيّمة للدكتور ميلاد السبعلي في ثلاث حلقات. إنها تسد ثغرة كبيرة في مفهوم الحوكمة في شكل عام، والحوكمة في الحزب السوري القومي الاجتماعي في شكل خاص، مع شرح لدستور الحزب الذي وضعه سعاده والثغرات التي شابت عددا من الممارسات الدستورية بعد استشهاده.
ما هي الحوكمة؟
تعرّف الحوكمة (Governance) بأنها أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة. وهي احد العوامل الرئيسة المؤثرة على تحسين أداء المؤسسات، وعلى الإنتاجية والرضى الوظيفي والولاء التنظيمي.
كما أنها مجموعة من الإجراءات والعمليات التي يتم من خلالها توجيه المؤسسات والتحكم بها، من خلال تحديد وتوزيع الحقوق والمسؤوليات على مختلف السلطات والأطراف في المؤسسة، مما يسهم بإرساء قواعد واجراءات صناعة القرار فيها.
ويعتمد التطبيق الجيد للحوكمة على تحقيق المستوى الأمثل من الفحص والضبط والرقابة المتوازنة وتفعيل خطوط التواصل، وتعزيز ثقافة المسؤولية والمساءلة من خلال وضع وتطوير نظام للقياس والتقييم. ويؤدي الى تقوية المؤسسة على المدى البعيد، وتحديد المسؤول عن التصرفات الادارية والأخلاقية والمالية غير الصحيحة، وتحميل المسؤولية لكل من الحق ضرراً بالمصلحة العامة. ويهدف بالتالي إلى تحقيق الجودة والتميز فى الأداء الاداري من خلال اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف اي عمل منظم، والإشراف على التنفيذ وتحديد المخاطر وتفادي الأخطاء وتصحيحها إذا وقعت.
والحوكمة مفهوم حديث، ظهرت الحاجة إليه في العديد من الاقتصاديات المتقدمة والناشئة خصوصاً في أعقاب الانهيارات الاقتصادية والأزمات المالية التي شهدتها العقود القليلة الماضية، في عدد من دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا في عقد التسعينات من القرن العشرين، وكذلك ما شهده الاقتصاد الأمريكي من انهيارات مالية ومحاسبية خلال عام 2002. أما في القطاع العام، فقد ظهر مفهوم الحوكمة بشكل تطبيقي في نقاشات قادتها وزارة المالية الهولندية في عام 2000. وتطبق الحوكمة في القطاع العام على محاور عدة، أبرزها معالجة حالات تَعارُض المصالح، وانعدام وتقليل المخاطر والخسائر المتوقعة بكافة أوجهها، وقياس المسؤوليات، وتقييم الأداء المشترك بين الدوائر الحكومية، والشفافية وحق الوصول الى المعلومات، وإفساح المجال للرأي العام للمشاركة في تقييم الأداء وصناعة القرار على المستوى المحلي أو المركزي. (إبراهيم العيسوي، التنمية في عالم متغير: دراسة في مفهوم التنمية ومؤشـراتها. القـاهرة: دار الشـروق، 2003، ص: 36-37.)
و تعود اهمية الحوكمة، في مؤسسات القطاع العام، إلى أهمية تأسيس و تفعيل دور هيئات الرقابة والمراجعة، والتأكد من استقلالية هذه الهيئات، وعدم ارتباطها تنظيمياً بالإدارات التنفيذية المباشرة، كما هو معمول به حالياً في أغلب الدول، حتى لا تصير الإدارة عرضة لتضارب المصالح.
فالحوكمة إذاً هي نموذج إداري جديد، يهدف الى توزيع الصلاحيات في الهياكل الادارية، بهدف اعتماد الادارة الرشيدة في اتخاذ القرارات الادارية وتفعيل دور الأعضاء. وهي نظام إداري جديد يساعد على الضبط الداخلي واكتشاف المخاطر قبل وقوعها .
الحوكمة الشاملة
غالباً ما تطبق الحوكمة في الشركات أو المؤسسات الخاصة على رأس الهرم، فتحدد العلاقة بين مجلس الإدارة، والمدير العام وفريقه، ومالكي الشركة. أما في الدول، فتحدد الحوكمة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إضافة الى العلاقة مع السلطة القضائية، بهدف ضمان حقوق الشعب الذي هو مصدر السلطات.
ومع الوقت، انتشر مفهوم ادارة الجودة الشاملة، التي تحدد أداء العمل بأسلوب صحيح ومتقن ليس فقط على مستوى رأس هرم الادارة، بل أيضاً على كافة مستويات الانتاج، وفق مجموعة من المعايير لرفع مستوى جودة العمل بأقل جهد وكلفة، مع تحقيق أهداف الخطط المركزية والمحلية. فترك مسائل فحص الجودة الى المنتج النهائي ترتب على المؤسسة كلفة باهظة، نتيجة التأخر في اكتشاف خلل أو خطأ ما. بينما الأفضل أن يتم التأكد من جودة كل عملية مهما كانت صغيرة قبل المضي قدماً بعمليات أخرى. فإذا كان هناك خطأ تكون كلفة تصحيحه أقل بكثير.
هذا النموذج انتقل الى مفهوم الحوكمة، وطُبّق نظام الإشراف والرقابة والتقييم والتصحيح على كافة المستويات الادارية، من قيادة المؤسسة الى الفروع والأقسام المتفرقة. وهذا ما سمي بنظام الحوكمة الشاملة.
وتسعى المؤسسة التي تطبق نظام الحوكمة الشاملة الى تحقيق أهدافها، بمستوى عال من الجودة، وتحسين أدائها باتباع خطط فاعلة، وأساليب مناسبة للإدارة الرشيدة. وذلك من خلال المشاركة في صناعة القرار وتقييمه من قبل ممثلين عن جميع الأعضاء على مستوى مركزي وفي المتحدات المحلية، عن طريق المساءلة والشفافية في العمليات الإدارية والمالية مع حفظ الحقوق واحترامها لجميع المسؤولين والقيادات والأعضاء وممثليهم المنتخبين.
فالحوكمة الشاملة إذاً تعني أن جميع المستويات الإدارية في المؤسسة تخضع لعمليات الإشراف والمتابعة والتقييم والمساءلة، من قبل الأعضاء الذين يتأثرون بقراراتها، بحيث يكون لهم رأي في هذه القرارات والسياسات وآليات تنفيذها، لترشيد العمل ورفع الفعالية والجودة والمشاركة.
أبعاد وسمات الحوكمة
بناء على ما تقدم، يمكم تحديد عدة أبعاد للحوكمة، مثل:
-
البعد الاستراتيجي: ويتعلق بصياغة الاستراتيجيات العامة والتشجيع على التفكير الاستراتيجي، والتطلـع إلـى المستقبل استنادا على دراسة متأنية ومعلومات كافية عن أداء المؤسسة الماضـي والحاضـر، وكـذلك دراسة عوامل البيئة الخارجية وتقدير تأثيراتها المختلفة استنادا على معلومات كافية عن عوامـل البيئة الداخلية ومدى تبادل التأثير فيما بينها.
-
البعد الإشرافي – الرقابي: ويتعلق بتدعيم وتفعيل الـدور الإشـرافي والرقابي وإدارة المخاطر، على مستوى مركزي، لمجلـس الإدارة علـى أداء الإدارة التنفيذيـة، أو للسلطة التشريعية على أداء السلطة التفيذية، وعلى مستوى الفروع والمستويات الإدارية الدنيا، من قبل ممثلين عن الأعضاء على أداء الهيئات الإدارية المعينة من قبل الإدارة أو السلطة التنفيذية.
-
البعد الأخلاقي: ويتعلق بتحسين بيئة العمل من خلال إيجاد وتطبيق قواعد أخلاقية، تقوم على النزاهة والأمانـة والدقة والإلتزام والإنضباط ونشـر ثقافة الحوكمة على كافة المستويات الإدارية في المؤسسة ومحيطها بشكل عام.
-
بعد المساءلة والإفصاح والشفافية: ويتعلق بالإفصاح عن أنشطة وأداء المؤسسة والعرض أمام الأعضاء و ممثليهم ممـن يحـق لهم قانوناً مساءلة الإدارة. كما يتعلق بالشفافية، ليس فقط عن المعلومات اللازمة لترشيد قرارات كافة الأطراف المعنية على مستوى الشركة، بل يتسع المفهوم ليشمل الإفصاح، ضمن التقارير العامة المتاحة للجمهور، عن المؤشرات الدالة على الالتزام بمبادئ الحوكمة.
ويمكن أيضاً تحديد عدد من السّمات التي تقوم عليها الحوكمة كما يلي (الرسم 1):
-
المساءلة: لأي صاحب قرار والتأكد من قدرته على الإيضاج والتبرير
-
المسؤولية: ضمان الإداء الفعال للمهام وبأفضل القدرات الموجودة وضمن الحدود المرسومة
-
المعاملة المنصفة: معاملة منصفة وعادلة لجميع الأطراف
-
الشفافية: ضمان توفر جميع البيانات والعمليات أمام الجهات المعنية
-
قيمة طويلة الامد: نظرة مستقبلية لتحقيق الاستدامة والنمو
-
الأخلاقيات: التعامل بحسب العقلية الأخلاقية الجديدة للمؤسسة
-
الإشراف: الاشراف على سير الأمور الإدارية والسياسية ومتابعتها
-
الكفاءة: التأكد من كفاءة كل من يتسلم وظيفة، وربط الوظائف بالرتب
-
الريادة: تعزيز ثقافة الريادة والإقدام والابتكار والتجديد
أزمة المؤسسات التي تفتقر إلى الحوكمة
تتمثل أزمة الكثير من المؤسسات في أن هناك إدارات عينتها السلطة التنفيذية فوق الأعضاء لتكون مهمتها اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون هؤلاء، دون أن يكون لهم حق مناقشة هذه القرارات أو الاعتراض عليها، وهو ما يعزز ثقافة العزوف عن المشاركة في الحياة العامة ويضعف تطور المؤسسة المفترض فيها أن تعمل على تحقيق أهداف سامية تعني الأعضاء مباشرة، مثل نهضة المجتمع. وهذا ما يجعل الأعضاء في وضع المتلقي لهذه القرارات والملتزم بتنفيذها دون مناقشة. فضلاً عن غياب الشفافية، مع الوقت، في مراقبة الميزانية وعدم وجود آلية للحصول على المعلومات المتعلقة بالإيرادات وأوجه إنفاقها، وعدم وجود آليات لمحاسبة الإدارة على قراراتها، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تنتج مع الوقت طريقة استبدادية تدار بها بالمؤسسة واستبعاد الإدارة للأعضاء من عملية تقييم القرارات أو المشاركة في اتخاذها، انطلاقا من نظرة خاطئة إلى طبيعة الأعضاء بوصفهم مجموعات غير ناضجة وغير مؤهلة وغير قادرة على تحمل المسؤولية. (حلاوة، جمال وطه، نداء واقع الحوكمة في جامعة القدس. فلسطين، جامعة القدس. 2017.)
إن غياب الحوكمة تصبح أكثر تأثيراً في المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية، التي تطغى عليها ثقافة اللامبالاة من جهة، بسبب غياب التحفيز والرؤية والدينامية والحماس، أو ثقافة الطاعة و”نفذ ثم اعترض”، بحجة الحفاظ على النظام العام والوحدة الروحية وتنفيذ الخطط. فلنأخذ نموذج الحزب السوري القومي الاجتماعي كنموذج للبحث، ولننظر الى هيكليته المثبتة في الدستور الأصلي خلال وجود سعاده، لنستكشف ما إذا كان ينسجم مع المفهوم الحديث للحوكمة الشاملة، وما هي الضوابط التي تضمنها، وهل طبقت هذه الضوابط في ظل التاريخ الحزبي الحافل بالملاحقات والأزمات والسجون. وماذا حصل بعد غياب سعاده، لناحية تغييب الحوكمة على مستوى الفروع، والعبث بها على المستوى المركزي؟ مما أفسح بالمجال لنشوء التحزبات الفئوية والعهود الرئاسية، ولكل منها فريقها وخطابها وأولوياتها، وتحول مع الوقت، من ناحية التقييم الموضوعي البحت، الى مؤسسة شبه استبدادية تفتقر الى معظم أبعاد وسمات الحوكمة الشاملة.