الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ : نهضة أم مقاومة؟- الدكتور عادل بشارة
Share
هل الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ هو حزبُ نهضة، أم حزبُ مقاومة؟ إذا كان هو أحدهما وليس الآخر، أو كان كليهما، فيتحتَّم علينا، عند ذلك، تحديدُ كيف وأين تلتقي “النهضة” و”المقاومة”، أو متى تفترق إحداهما عن الأخرى. وهذا ليس مجرَّد تمرين فكريّ، وليس فضولًا ذهنيًّا؛ فبالإضافة لغاية الوصول الى رؤية ذات قيمة تفيدنا في فهم التاريخ المتقلِّب للحزب منذ عام 1949، فإن تحديد هويَّته بوضوح هو أمرٌ ضروري وحاسم لتحديد مسار عمله الملائم لطبيعته وأهدافه.
لا يوجد نقطة انطلاق، في هذا السياق، لتحديد ما هو الحزب، أفضل من غايته نفسها:
“غاية الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ بعثُ نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه، وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوّتها؛ وتنظيمُ حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالًا تامًّا، وتثبيت سيادتها؛ وإقامة نظام جديد يؤمّن مصالحها ويرفع مستوى حياتها؛ والسعي لإنشاء جبهة عربية”.
إن استعمال كلمة “نهضة” في نص غاية الحزب، كمصطلح مرجعيّ، الى جانب مصطلح “الحركة”، والغياب الواضح لذكر مصطلح “مقاومة” (نكرر: في نص غاية الحزب)، يدلّان على أن الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ هو حزب “نهضة” بالدرجة الأولى. بالمقابل، فإنه لم يتم تعريف الحزب كحزب مقاومة إلا نادراً في خطابات سعاده، وفي كتاباته الفكرية أو الصحافية، على الرغم من شعبيته وانتشاره. فمصطلح “المقاومة” لم يتمّ ذكره لا في برنامج الحزب، ولا في مبادئه أو في الشروحات التي تليها؛ بل كان مصطلح “النهضة”، في أيام سعاده، هو اللفظ الأساسيّ المتداوَل في خطاب الحزب السياسيّ والعقيدي.
إن ما تقدم قوله لحد الآن لا يعني أن الحزب ليس حزب مقاومة. وبمعنى آخر، لا يعني أن مقاومة أهداف وخطط العدو ليست من مهمات الحزب. بل يعني أن سعاده كان يستخدم دائمًا عبارة “النهضة القومية الاجتماعية” عندما يشير إلى الحزب، ليؤكد من خلالها الرسالةَ النهضوية التي أتى بها، ولم يكن يستعمل كلمة المقاومة ليشير الى ذلك. وإليكم بعض النماذج:
- “لا يوصل الشعبَ إلى خيرها والأمةَ إلى مجدها إلاّ حركةُ الشعب ونهضة الأمة– النهضة القومية الاجتماعية –
- إنّ هذه الحركة هي حركة الشعب لأنها حركة العمال والفلاحين الكادحين الذين حرَّرتهم القومية الاجتماعية من الخمول والذل” (“الجيل الجديد”، بيروت، العدد10، 17/4/1949).
- “إنّ النهضة القومية الاجتماعية نشأت نهضةَ عنف قوميّ اجتماعيّ في وجه عنف أجنبيّ استعباديّ” (“الجيل الجديد”، بيروت، العدد 11، 20/4/1949).
- “ظهرت النايورجعية بأحزابها الجديدة وقضاياها التقدُّمية الرجعية وأخذت تقتبس من تعاليم النهضة القومية الاجتماعية الأشكالَ والتعابير الإصلاحية وقواعد التنظيم وتفرّغ ما تقتبسه على غاياتها التقليدية التي هي علّة الأمة الداخلية” (“كل شيء”، بيروت، العدد 106، 8/4/1949).
- إنّ النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو: خروجنا من التخبُّط والبلبلة والتفسُّخ الروحيّ بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة، نشعر بأنها تعبّر عن جوهر نفسيّتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية- إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم” (محاضرة الزعيم الأولى في الندوة الثقافية، 1948).
نهضة وليس مجرّد مقاومة
نحن نميل إلى الاعتقاد بأن سعاده لم يكن يستعمل مصطلح “المقاومة” لأسباب متعدِّدة مرتبطة بمدلولات مصطلحَي النهضة والمقاومة. وتحتاج هذه المدلولات إلى توضيح لفهم لماذا قام سعاده بذلك.
المقاومة هي مصطلح يشمل عددًا من المبادئ والتوجُّهات السياسية المختلفة والمتباينة تبعاً للمسالة التي تجري مقاومتها. فأيُّة مجموعة في المجتمع يمكن أن تندرج تحت عباءة المقاومة: الرجعيون والتقدميون، الدينيون والعلمانيون، التقليديون والثوريون، اليساريون واليمينيون… إلخ. الرجعيون يقاومون الإصلاح والطائفيون يقاومون فصل الدين عن الدولة.(“القوات اللبنانية” تعتبر نفسها مقاومة، وهي بنفس الوقت تقاوم مقاومة “حزب الله” الذي يقدِّم نفسه أنه المقاومة). ولسعادة نصوص عديدة في كيف أن الرجعيين يقاومون حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي.
أما “النهضة”، من ناحية أخرى، فهي ليست مجرَّد صوت معارض، أو احتجاج عامّ، أو ضجَّة شعبية، أو حتى مجرد مقاومة مسلحة، بل هي أكثر من ذلك بكثير. إنها عملية مركبة وشاملة للمجتمع ككل، وبالتالي لا يمكن التلاعب بها، أو استخدامها من قبل أي مجموعة ضد أخرى.
- إن مقولة المقاومة، بغضّ النظر عن جاذبيتها الواسعة،هي مفتوحة على جميع التيارات التي ربما تتعارض تمامًا في بعض الأحيان، كما أشرنا آنفاً، أو تلتقي حول أهداف مرحلية ثم تعود بعد ذلك الى الاختلاف، بل حتى إلى التناحر. لذا، فإن مصطلح المقاومة القائم بذاته هو مصطلحٌ مشوِّش ومربك، إلى حدٍّ ما. فكثير من الغموض في المبادئ والمواقف قد يتحوَّل إلى عقبة في طريق التحليل الواضح والأفعال المؤثّرة. وعلى النقيض من ذلك، فإن “النهضة” مصطلح واضح وصريح، وأبعاده واضحة ومحدَّدة، الأمر الذي يعني أن ليس من السهل التلاعب بتعريفها (أي النهضة) أو تشويهها بسهولة، أو على الأقلّ بالسهولة والانتظام نفسيهما، كما يتم في مصطلح المقاومة.
- المقاومة يمكنها أن تقوّض الوضع السيء القائم، خاصةً عندما تكون شاملة ومتكاملة، لكن لا يمكنها أن تُنتج نهضة. والنهضة، بحكم طبيعتها، لا تقتصر فقط على زوال شيء ما، ولكن تشتمل أيضًا على خطوات ثابتة من التطوير والبناء استنادًا إلى رؤية واضحة ومسبَّقة. المقاومة لا تؤدي بالضرورة لنهضة، لا تفعل نهضة، بينما النهضة تفعل مقاومة. المقاومة هي ردة فعل على ما هو مرفوض، في حين أن النهضة هي فعل لبناء ما هو مطلوب.
- إن الأساس العمليّ لفكرة المقاومة، وخصوصًا جانبها العسكريّ، يمكن أن يصلح جزئيًّا فقط لعملية النهوض.أمّا النهضة، في حدِّ ذاتها، فهي وجهة نظر متكاملة للعالم، ومشروعُ حياة طويل الأمد. لذا، فإن الهدف من النهضة أعمّ وأشمل من المقاومة التي تُستخدم عادة، وليس دائمًا، لتحقيق انتصار سياسي أو عسكري على عدو أو خصم ما. ويمتدّ عمل النهضة مضمونًا وروحًا، في المفهوم القومي الاجتماعي، ليشمل كلّ مجالات الحياة، العسكرية وغير العسكرية. فهي تشمل الحياة القومية برمتها، بما في ذلك تحوُّل جذريّ في المواقف والأنماط السلوكية، وتحقيق نظرة جديدة، والسعي وراء المُثل العليا.
- بينما تُفهَم المقاومة، في أغلب الأحيان، على أنها تهدف إلى تحقيق نوع من التغيير، غير أنها تؤدّي، في بعض الحالات، إلى الحدّ من التغيير. لذلك،قد تكون المقاومة متفقة مع المجتمع أو مناهضة له، وقد تكون منطوية على مشاركة شعبية، وقد لا تكون. لا تمثّل كلُّ مقاومة، بالضرورة، المجتمعَ أو مصالحه حقَّ التمثيل.
- أصبح مصطلح”مقاومة” مصطلحًا عامًّا، يتم استخدامه وإطلاقه على حركات – ونشاطات- مَن هبَّ ودبَّ: القوات المسلَّحة غير النظامية التي تنشأ ضد سلطة أو حكومة أو إدارة؛ المنظَّمات السرية التي تشارك في نضال وكفاح من أجل تحرير بلد من احتلال عسكريّ أو سيادة استبدادية؛ الأحزاب التي تشارك في العصيان المدني والتخريب الصناعي وحرب العصابات، وحتى الحروب التقليدية، إذا كانت حركة المقاومة قوية بما فيه الكفاية. ويمكن أيضًا توزيع المقاومة على الخريطة السياسية على عدة أصعدة، تتراوح من المحلية إلى الوطنية إلى الإقليمية، وحتى إلى النطاق العالمي. أما عبارة “نهضة”، في المقابل، فهي مصطلح حصريّ يعبِّر عن حالة أكبر كثيرًا من مجرَّد معارضة أو عصيان أو أعمال قمع أو حرب عصابات، وغيرها من الأعمال التي تنضوي إجمالًا تحت إطار مصطلح “مقاومة”. إنها تميل، إضافةً إلى الأعمال الثورية، إلى حالة من الحسّ الثقافيّ والرؤية الجمالية والتقدُّم والابتكار والإبداع.
- المقاومة شيء مؤقَّت، أي إنّ لها دورة حياة محدَّدة.يمكن أن تستمرَّ أسابيعَ أو شهورًا أو حتى سنوات، ولكن في الأخير ستنتهي. وقد يكون انتهاؤها بهزيمة أو بنصر، ولكن بمجرَّد أن تحقِّق أهدافها المعلنة أو تفشل في ذلك، فإنها تفقد مبرِّر وجودها وتزول. أما النهضة، خلافًا لذلك، فهي عمليةٌ مستمرّة ودائمة، لا تُحدَّد بظروف معينة أو بإطار زمني. فحيويتها، التي تنشأ وتستمرّ ذاتيًّا، لا يمكن أن تخضع لمعايير عسكرية أو سياسية خاصّة، ولا يمكن أن تنشأ عشوائيًّا، استجابةً لتطورات عرَضية أو تلقائية. إنّ لامحدودية النهضة تعني أن أيَّ شيء آخر، بما فيه المقاومة، يخضع لها.
إن عدم قيام سعاده بوصف الحزب بـ”مقاومة”، كان برأينا نتيجة لكلّ هذه الأسباب، وربما لأسباب أخرى أيضاً. فالرغبة في تمييز الحزب عن سائر الأحزاب والمنظَّمات السياسية الأخرى، للحفاظ على هويته الخاصّة وحمايتها، كانت شيئًا بالغ الأهمية بالنسبة إليه. لذلك، تجنّب عمدًا مصطلح “مقاومة”، لأنه اعتبر أن اللجوء إليه، في الوقت الذي كان، ولا يزال، يُستخدم مظلَّةً عامّة لمجموعة من الأفراد والجماعات المتنافرة، قد يؤدّي إلى تحريف هويّة الحزب أو دمجها بهويات لا ترقى الى رسالته النهضوية، ولا تتلاءم معها.
مقاومة عكسيَّة.
المسألة هي أعمق من ذلك. فبعد إجراء مسح شامل لكتابات سعاده، تبيّن أن مصطلح “مقاومة”، الذي استخدمه في بعض المناسبات القليلة، سواء في مقالاته أو خطاباته، كان يدلّ دائمًا على المعنى العكسيّ للكلمة تقريبًا، أي أن الحزب كان يتعرّض لمقاومة من أعدائه وخصومه بدل أن يكون هو يقاوم اعداءه وخصومه. وفيما يلي بعض الأمثلة:
- “هذه حقيقة تنبَّهت لها بعض الأوساط القومية وشاءت أن تعالجها قبل التثبت من اتخاذ «السمير» خطة التحامل على الحزب السوريّ القوميّ والمقاومة لحركته، مقاومة مدسوسة أحيانًا في معرض التأييد له أو الدفاع عنه” (“الزوبعة”، بوينس آيرس، العددان 22 و23، 15/6/1941 و1/7/1941).
- “مثل هذا ما يحدث اليوم في سوريا، فإنها بعد أن قضت سنين عديدة، إن لم نقل أجيالًا، في جهاد خائب لبلوغ حريتها المنشودة، تجد اليوم ما يبرّر أملها باجتناء ثمار التضحيات الغالية المتكرِّرة في النفوس والماديات التي قدّمتها على مذبح الحرية. نقول إنّ لهذه الآمال اليوم ما يبرّرها أكثر من أي وقت سابق بفضل الحركة التي خلقها الحزب السوريّ القوميّ. لنا على ذلك دليل واضح في التعليقات العديدة التي علّقتها عليه الصحافة الوطنية والأجنبية، ودليل ذلك أوضح في المقاومة الشديدة التي يلاقيها من السلطتين الانتدابية والمحلية اللتين لم تهملا أية وسيلة من وسائل التضييق والاضطهاد” (“الزوبعة”، بوينس آيرس، العدد 53، 1/10/1942 ــــ العدد 56، 16/11/1942).
- “إنّ “النايورجعية المتلبننة” لم تكن أقل عجزًا عن مقاومة الحقيقة بالباطل من النايورجعية المتعرّبة. ولإدراكها عجزها هي تلجأ في حكمتها الكلية إلى طلب محاربة الفكر وحرية الرأي والاعتقاد بالإرهاب!” (“كل شيء”، بيروت، العدد 99، 18/2/1949).
- “وبهذا يفقدون كلَّ اتجاه قومي وكلَّ رابطة قومية في الحياة القومية، وتصبح مصالحهم متضامنة مع مصالح الجماعات الأخرى بصرف النظر عمّا إذا كانت تلك الجماعات مقاومة لمتحدهم وتقدمهم القومي أو لا” (محاضرة الزعيم السابعة في الندوة الثقافية، 1948).
- “إظهار أضرار الأنظمة المذهبية والحزبيات الدينية المشتملة عليها، وكونها ذات فاعلية شديدة في مقاومة وحدة الشعب القومية (…) فنفسياتنا الشخصية هي دائمًا في تضارب مع نفسيتنا العامة في كل ما له علاقة بقضايانا العامة وكيفية التصرف فيها. أضف إلى ذلك التقاليد المتنافرة المستمَدَّة من أنظمتنا المذهبية وتأثيرها في مقاومة وحدة الشعب القومية” (محاضرة الزعيم الثانية في الندوة الثقافية، 1948)
- “من هذه الناحية كان دعاة العروبة في سوريا حلفاء للإرادات الأجنبية في مقاومة النهضة السورية القومية، كما كان دعاة الانفصال المسيحيّ اللبنانيّ حلفاء هذه الإرادات المعادية لنهضة الشعب السوري ووحدته التي يقدِر بها أن ينال سيادته، ويسيطر على كل شأن يهمّه من شؤون الشرق الأدنى والبحر المتوسط، نظرًا لمواهبه الممتازة وخطورة موقع بلاده الاستراتيجي” (“الزوبعة”، بوينس آيرس، العدد 41، 1/4/1942).
- “وأول مقاومة ظهرت من تلك الأوساط كانت من الوسط الجزويتي، فوضع الخور أسقف لويس خليل بموافقة البطريرك الماروني كرّاسًا خَصَّص قسمًا كبيرًا منه لدرس العقيدة السورية القومية الاجتماعية ومراميها في فقرات خطاب الزعيم” (“الزوبعة”، بوينس آيرس، العدد 45، 1/6/1942).
- “إنّ السبب الأول الواضح هو يقين تلك الفئة بعجزها عن محاربة الفكر الحرّ بالفكر المستعبَد، وعن مقاومة الرأي الصحيح بالرأي الأخرق” (“الجيل الجديد”، بيروت، العدد 7،14/4/1949).
- “ها هي”الزوبعة” تعود إلى الصدور. وكنا سابقًا نقول إنها تصدر وتظلّ تصدر على الرغم من مقاومة الأعداء الرجعيّين والنفعيّين والجاهلين” (“الآثار الكاملة”، بيروت، ج 13، ص 11).
ويقول في خطابه في صافيتا عام 1936:
“إنّ الرجعية تقاوم الحزب السوريّ القوميّ، لأن الحزب السوريّ القوميّ يريد أن يحرِّر الفلاح من الرِّقّ والعبودية.
إنّ الرجعية تقاوم تقدُّم الحزب السوريّ القوميّ، لأن الحزب السوريّ القوميّ يطلب إنصاف العامل وإعطاءه حقَّه في الحياة.
إنّ الرجعية تحمل على الحزب السوريّ القوميّ، لأنه يحرِّر أفراد الأمة من عبودية الانقياد الأعمى وسلطة المؤسسات العتيقة الفاسدة.
إنّ الرجعية تقاوم الحزب السوريّ القوميّ، لأن الحزب السوريّ القوميّ يحرِّر العامَّة من سيطرة المستثمرين والنفعيّين.
إنّ الرجعية تقاوم الحزب السوريّ القوميّ، لأن الحزب السوريّ القوميّ يؤمِّن مصلحة المنتِج من أي صنف كان.
إنّ الرجعية تحارب الحزب السوريّ القوميّ، لأن الرجعية تريد أن تحارب حربها الأخيرة.
أما نحن فإننا نحارب في سبيل مصالح الشعب الحيوية وحياة الأمة”.
هذا يعني أن مصطلح “مقاومة”، في نظر سعاده، ليس سِمةً من سمات الحزب، بل من سِمات أعدائه، أي الذين يميلون إلى “مقاومة” رؤيته وإنجازاته. فالحزب، باعتباره تجسيدًا لفكرة “نهضة”، لا “يقاوم”، بل يهاجم:
“نحن حركة هجومية لا حركة دفاعية. نهاجم بالفكر والروح، ونهاجم بالأعمال والأفعال أيضًا. نحن نهاجم الأوضاع الفاسدة القائمة التي تمنع أمَّتنا من النموِّ ومن استعمال نشاطها وقوّتها. نهاجم المَفاسد الاجتماعية والروحية والسياسية.
نهاجم الحزبيات الدينية،
نهاجم الإقطاع المتحكِّم في الفلاّحين.
نهاجم الرأسمالية الفردية الطاغية،
نهاجم العقليات المتحجِّرة المتجمِّدة،
نهاجم النظرة الفردية. ونستعدُّ لمهاجمة الأعداء الذين يأتون ليجتاحوا بلادنا بغية القضاء علينا، لنقضي عليهم.
هذه هي وِجهة سيرنا. هذا موقفنا في المشاكل السياسية الكبرى المحيطة بنا”.
بناء عليه، فإن تحجيم الحزب الى مجرّد مقاومة يحوِّله من حركة هجومية إلى حركة دفاعية أو سلبية. فهو يجرده من صفات الفكرة والحركة التي تتناولان حياة الأمة باسرها ويجعله شيئًا أقرب إلى حركة تدافع عن نفسها، الى حركة حرب عصابات دفاعية، وكفاح مسلَّح دفاعي، ومقاومة عنيفة عليها أن تثبت أنها ليست جماعة إرهابية… إلخ. لكن الحزب ليس هذه ولا تلك: إنه “نهضة”. وبقدر ما هو “نهضة”، لا يمكن أن يقلِّص نفسه إلى أيّ نموذج أو شكل آخر من دون المساس بشخصيته. وعلاوة على ذلك، فإن قولبته وفقًا لمنظور مصطلح “مقاومة” ومقتضياته، يؤثّر حتمًا في التصوُّر الذاتي للحزب ونظرة المجتمع إليه، ويؤدّي بالتالي إلى رؤية غايته وتحليلها من زاوية المقاومة، وليس النهضة. وهنا تكمن الخطورة، إذ إن الضرر الذي قد يلحق بسمعته من خلال ذلك، قد يصبح غير قابل للإصلاح أو تداركه مع مرور الوقت. وبالفعل، فإن سمعة الحزب في الأدبيات والصحافة العالمية اليوم مشوَّهة إلى أبعد الحدود، نتيجة تقديم نفسه مجرد “مقاومةً”، أو جزءًا من “المقاومة”، إلى درجة أن الأمر قد يستغرق سنوات عدّة والكثيرَ من العمل الشاقّ والمركَّز قبل تصويبه.
تفسير التحوُّل
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في تاريخ الحزب هو التحوُّل الجذريُّ الذي حدث بعد استشهاد سعاده وبالأخص بعد عام 7019. فلقد كان المشهد السياسيّ المحليّ والإقليميّ والعالميّ، في زمنه، حافلًا بـ”تكتلات اعتراضية” تحمل أجندات تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وكان بعضها صادقًا، ويجمعها مع الحزب قواسمُ مشتركة من شأنها تعزيزُ الصمود في وجه الانتداب الفرنسي- البريطاني، أو الاستعمار اليهودي في فلسطين، أو تُفضي إلى تشكيل جبهة مناهضة للإمبريالية والرأسمالية الغربيتين. وكانت هناك جماعاتٌ محلية تتقاسم مع الحزب مناهضة الأنظمة القائمة في البلاد. ولكن، على الرغم من كل هذه القواسم، فإن سعاده لم يزجّ الحزب في أي تحالف رسمي مع أيٍّ من هذه الجماعات أو التكتلات. وأبقاه في مسار مستقلّ، حتى عندما ازداد الضغط عليه وتوالت الحملات ضدّه بعد عودته الشهيرة عام 1947، ولم ينجرّ وراء الفئات المعارضة للعهد، كما حدث مباشرة بعد استشهاده إثر دخول الحزب في الجبهة الاشتراكية الوطنية إلى جانب كمال جنبلاط وكميل شمعون وحزب الكتائب:
“مع أننا كنا في حرب مع الحكومة في الصيف الماضي وبعد الانتخابات في إبان المصادمات بين فئات الشعب والحكومة، لم أقبل قطّ أن نندمج فيما سميَّ معارضات للحكومة، لأننا وجدنا تلك المعارضات جزئية لا تختلف في طبيعتها وجوهرها عن الفئة الحاكمة مثلًا. أي أننا لم نكن ننتظر أنه إذا نزل رياض الصلح وقام مكانه عبد الحميد كرامة تتغير أحوال البلاد والأمة والسياسة.
لم يكن قصدنا تغيير الأشخاص لخدمة مصالح جزئية. وفضّلنا أن نبقى محاربين للحكومة من أجل مطلب عام مشروع هو مطلب حق المواطن في التعبير عن رأيه بحريّة، وفضّلنا أن نبقى وحيدين في الساحة على أن نغيِّر من مواقفنا ونستبدلها بمواقف فئات تنظر غير ما ننظر نحن، فتضيع وتختلط مقاصدنا بمقاصد غيرنا فتضيع غايتنا في غاياتهم.
لذلك فضّلنا أن نبقى في المعركة وحيدين، واستغرب الكثيرون جدًّا لماذا لم ننتهز الفرصة للتخلُّص من هذه الحكومة.
قصدنا ليس التخلُّص من الحكومة أو رجال الحكم، بل الاتجاه نحو إقامة نظام جديد للحياة القومية بأسرها. وفي هذا الاتجاه الواضح لم نكن نجد في الفئات التي تعمل لمعارضة جزئية أيَّ استعداد لفهم هذه الناحية وللسير معنا في هذا السبيل” (محاضرة الزعيم العاشرة في الندوة الثقافية، 1948).
رفض سعاده أيضًا فكرة الدخول في تحالفات محلية مع الفئات المعارِضة للحكم الفرنسي، حتى عندما كان الوضع متأزِّمًا تحت حكم الفرنسيين. كان الحفاظ على استقلالية الحزب وهويته المميّزة له، ومنعُه من الانزلاق إلى أعماق السياسة الضيِّقة، يعنيان العالم بالنسبة إليه. كان يدرك أن الحزب سيفقد حقَّه في الادّعاء أنه حزب نهضة يحمل رسالة إنقاذية، لا حزب مهاترات سياسية كسائر الأحزاب الأخرى، بمجرد تورُّطه في لعبة الصراع على السلطة من أجل جني مكاسب آنية، كما كانت الحال مع الفئات الأخرى.
تراجعت هذه الهوية على نحو تدريجيّ تقريبا بعد حرب 1967، وحلَّت محلَّها هويةٌ “مقاوِمة” ـ وهو ما تجنّبه سعاده طوال حياته – لتصبح مع الوقت البوصلةَ الرئيسية لعمل الحزب. إن اتجاه الأحداث التاريخية يدلُّ على أن تفضيل مصطلح “مقاوَمة” على مصطلح “نهضة” تزايَدَ بالتناسب مع ضلوع الحزب في نشاطات “المقاومة”، في أشكالها وأسمائها المتنوِّعة، حتى بلغت ذروتها اليوم في تمجيد فكرة “المقاوَمة” – عوضا عن النهضة – كمثال أعلى.
ويعود هذا التحوُّل إلى قلَّة الخبرة، وإلى الارتباك لدى القيادات التي توالت على الحزب بعد 1970، لا إلى سُوء النية وانعدام التبصُّر. وأدّى الصراع دورًا رئيسيًّا، في هذا الإطار، من أجل البقاء والاستمرارية في بيئة سريعة التغيير، كما كان للرغبة في استخدام أساليب أكثر بساطة وشعبية صدى قويّاً لدى تلك القيادات. فمصطلح المقاومة أكثرُ شعبية واستساغة من مصطلح النهضة. فالأُولى لا تتطلَّب المثابرة والتخطيط الطويل الأمد كالنهضة. ومن الممكن أن تحقِّق مكاسب سياسية أسرع من التقيد بالتزامات النهضة. كما أن لمصطلح “مقاوَمة”، علاوة على ذلك، على عكس مصطلح “نهضة”، صدًى قويًّا لدى الجماهير، ويتمتَّع بجاذبية جمالية في الوعي الشعبي، نتيجة أسباب تتعلَّق بطبيعة العمل المقاوم.
يشير ارتداد الحزب نحو “المقاومة”، دون نهضة، إلى أحد أمرين: إمّا أن قادة الحزب، بعد عام 1970، لم يفهموا طبيعة الرسالة النهضوية التي وضعها سعاده وأفقَها، بشكل واضح، وإمّا أنهم فهموها ولكنهم انجرفوا نحو المقاومة لأنهم لم يستطيعوا احتمال الالتزام الصارم والدقيق، والذي غالبًا ما تتطلَّبه أيُّ عملية نهوض. وارتكب “قادة الحزب”، بفعل هذا الارتداد، ثلاثةَ أخطاء فاحشة:
- جرَّدوا الحزب من سِمته الأصلية،”نهضة”، واستعاضوا عنها بسِمة مخصَّصة، في كثير من الأحيان، لفئات أخرى ولخصوم الحزب السياسيين وغير السياسيين وأصدقائه على السواء.
- دفعوا بالحزب يمينا ويسارًا من أجل التأقلم، الأمر الذي أدّى إلى تهميش الحزب وعزله عن بعض قطاعات الأمّة. فلم يعد القوَّةَ الموحِّدةالتي تحتاج إليها الأمّة السورية لأنّ المقاومة سلاح ذو حدَّين: المقاومة اليسارية تؤدّي إلى عزل هؤلاء في اليمين، والمقاومة اليمينية تؤدّي إلى عزل أولئك في اليسار. والخاسر الأكبر هو دائمًا المجتمع.
- تجاهلوا تحذير سعاده المشهور بأن معسكرَي اليسار واليمين في العالم لا يختلف أحدهما عن الآخر، من حيث السيطرة على العالم، وأنه ليس من مصلحة الحزب الانضمامُ إلى أيٍّ منهما. وهنا، لا بدَّ من العودة إلى كلماته الشهيرة:
“تتشابه الإقطاعية الشيوعية السياسية والانترنسيونية، والاستعمارية الرأسمالية الاقتصادية الانترنسيونية في الأهداف والنتائج: الاثنتان ترميان إلى الاحتفاظ بتفوقهما وسيطرتهما الانترنسيونيين تجاه الأمم الأقل عددًا وقوة ومواردَ. والاثنتان تقتطعان أو تستعمران الأمم التي ليس لها من القوة ما يمكّنها من حفظ استقلالها في شؤونها وأهدافها. الإقطاعية الشيوعية تنادي بالانترنسيونية وتهديم القومية والوطنية، والاستعمارية الرأسمالية تنادي أيضًا بالانترنسيونية والسلام العالمي الدائم والدولة العالمية، وهدف الاثنتين هو السيطرة المطلقة النهائية على شؤون العالم، ومنعُ الأمم المؤهَّلة للنهوض والارتقاء وبلوغ القوة الفاعلة من إدراك غايتها ومنازعتها السيطرة على موارد تلك الأمم وعلى موارد العالم الأولية” (“الجيل الجديد”، بيروت، العدد 20، 1-05-1949).
ثم هناك الخطيئة التي لا تُغتفر، من خلال ادخال الحزب في “مقاومات”، لا يوجد بينه وبينها سوى اتفاقات تكتيكية بشأن قضايا جزئية ومساعٍ آنية، كانت في كثير من الأحيان رهينةً لأجندات خارجية (أزلت كلمة مشبوهة). وهذا الاندماج، الذي كان (ولا يزال) يبرَّر، في كثير من الأحيان، بالتشديد على بعض القواسم المشتركة (كالعِداء للكيان الصهيوني) وتجاهل التناقضات، قوَّض رؤية الحزب وأخرجها عن مسارها الأصلي أكثر مما يمكن للمنطق السليم أن يسمح به. والأسوأ من ذلك، أن الحزب لم يحقِّق من انخراطه في هذه الأعمال سوى القليل من التقدُّم والمكاسب بالمقارنة مع مساهماته وجهوده الكبيرة، وذلك لأنه كان “يقاوم” غالبًا من أجل أجندات الآخرين وخططهم، فضلًا عن أجندته وخطته هو.
الخاتمة
لقد تأسَّس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ على رؤية واضحة ومحدَّدة جدًّا. فهي ليست رؤية لمقاومة، لمجرد مقاومة، بل رؤية لنهضة شاملة تتناول حياة الأمة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وبقدر ما هي كذلك، فإنها رؤية هجومية استباقية تشمل الحياة القومية بأسرها. لم يتمّ إنشاء الحزب للمقاومة بل للهجوم، ليس للدفاع بل للتحدّي والمواجهة. هذا هو الجوهر والأساس لسبب وجوده.
إذا كان لا بدَّ لنا من أن نشارك في مقاومة معينة، لم نؤسسها نحن، فيجب أن يكون ذلك دائمًا، ووفقًا لشروطنا نحن، لا وفقًا لشروط الآخرين. يجب أن يكون الحزب قائدًا، لا تابعًا، وأن يكون قادرًا على الاشتراك في تعيين المعايير والأهداف ليتَّبعها الجميع، وليس مجرَّد لاعب يواكب الاتجاهات الراهنة التي يكون غيره قد حددها وحده. وينبغي لنا أيضًا أن نأخذ في اعتبارنا أن “المقاومة” لمجرد “المقاومة” هي مثل السياسة من أجل السياسة، لا تشكل عملًا قوميًّا. المقاومة هي فنّ. إنها وسيلة لتحقيق غاية، وليست غاية في حد ذاتها. وكلام سعاده على فلسطين في محاضرته العاشرة في الندوة الثقافية، عام 1948، خير دليل على هذه الخلاصة:
“نحن مثلًا في كلّ قضية، تلازمنا هذه القضية. لا نريد مثلًا حرية لفلسطين من اليهود لمجرّد تحريرها من اليهود مثلًا. فقد تتحرَّر من اليهود مثلًا وتبقى للإنكليز أو تبقى لجماعة أخرى.
نحن نريد تحرير فلسطين لأنها جزء منا ولأن حياتنا تنقص كثيرًا إذا فقدنا فلسطين. وعندما نهتمّ بمصير فلسطين مثلًا لا نهتم بنقطة واحدة وهي مجرّد اليهود و”يأخذها القرود بعد اليهود.
ليس بهذه الطريقة نحن نقول. نحن نقول إنه يجب أن يخرج المعتدون من أرضنا لتبقى أرضنا لنا. ونقدر على إتمام أهدافنا ومقاصدنا فيها، فلنا في هذه الأمور دائمًا قصدٌ واضح، غاية أخيرة واضحة في جميع المسائل.
فغاية الحزب بعيدة المدى عالية الأهمية لأنها لا تقتصر على معالجة شكل من الأشكال السياسية، بل تتناول القومية من أساسها واتجاه الحياة القومية.
يعني هذا أننا لسنا مجرّد حزب سياسي. والحزب السياسي هو الذي يجمع فئة من الناس على مصالح تتَّحد بنطاق تلك الفئة، لتناوئ فئة أخرى ضمن البلاد وتتغلب عليها وتصل إلى الحكم من أجل تحقيق تلك المصالح المختصة بتلك الفئة.
نحن حزب يتناول ما هو أبعد كثيرًا من مصالح فئة جزئية محدودة في الوطن والأمة. نحن حزب يتناول حياة الأمة كلها بمجموعها، يتناول الحياة القومية من أساسها والمقاصد العظمى للحياة القومية كلها وليس لجزء واحد منها”.
لا يوجد أيُّ مكسب في أيِّ مقاومة إذا كان الغرض منها تغيير هيمنة بهيمنة أخرى، أو نظام سيّئ بنظام سيّئ آخر. ماذا سنكتسب من المقاومة إذا كان الهدف -على سبيل المثال- هو استبدال الأتراك بالإيرانيين؟ أو استبدال هيمنة دينية بهيمنة دينية أخرى؟ ماذا سنكتسب من المقاومة إذا كان الغرض منها هو إسقاط نظام ديكتاتوريّ لمصلحة نظام ديكتاتوريّ آخر؟ وماذا نجني من المقاومة إن كانت تهدف إلى تدمير مشروع طائفيّ لتمهِّد الطريق لمشروع طائفيّ آخر؟ وكما قال سعاده: “ليس بهذه الطريقة نحن نقول”. هذا لا يعني أن على الحزب أن يعادي “المقاوَمات” التي لديها قواسمُ مشتركة معه، ولكن ينبغي له ألاّ ينسى، أو يتناسى، الغرضَ الأساسيَّ الذي أُنشئ من أجله: أي “النهضة”.
دراسة الرفيق الدكتور عادل بشارة قيمة جدا ومفيدة وتتسم بالتسلسل المنطقي والحبك العقائدي. ملاحظتي الوحيدة هي حول قوله اذا اردنا ان نشترك في مقاومة تجمعنا بها حالة تكتيكية، فيجب ان تكون بشروطنا نحن. الاشتراك في مقاومة تحدد شروطه قوة المشارك القتالية وعطاءاته وتضحياته. هذا الأمر يوزن بميزان الفعالية القتالية وليس بالأفضلية العقائدية النظرية. الأفضلية القتالية تبرز الأفضلية العقائدية بقانون الاختيار الطبيعي. نضع شروطا بمقدار ما نكتنز من اعمال وتضحيات ودماء خلف تلك الشروط، اذ لا ” يتفاوض من معه شيء مع من ليس معه شيء”. خلافا لذلك اهنئ الرفيق عادل على دراسته ونعول عليه بالمزيد.
شكرا للرفيق الدكتور عادل بشارة…انها دراسة رائعة ومفيدة جدا خصوصا في هذه الأيام علّنا ننتبه لجميع المصطلحات الغريبة عن فكرنا…ونتجنّبها. أما بالنسبة لاشتراكنا بأية (مقاومة) فإذا كانت بغير(شروطنا)فإنها لن تصل بنا إلى ما نحن نبغيه.. نحن لا نحارب الي هود في فلسطين لنحرر الأقصى بل لتحرير جنوب الأمة لنعيده إلى الأمة .وشكرا لكم