الحربُ على الأمة وعلى مشروعِ سعاده لم تنتهِ بقتله!
Share
الأمين جورج يونان
” ينابيعُ العرب وأنهارُهُم / تجاعيدُ في وجه الماءِ”. (أدونيس)
الحرب على مشروع أنطون سعاده لم تكن خارجية فقط، بل كانت داخلية أيضًا قادها إثنان: النفوذ الدولي، وشبق السلطة عند ممتهني السياسة. والأخير في خدمة الأول. أمَّا ما يتعلق بالنفوذ الأجنبي فلا بد من مقدمة.
مقدمة:
ما عدا الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والغزوة الأميركية ـ البريطانية للعراق، الأولُ يترنَّحُ والثاني إلى الفشل، فإنَّ الحربَ الاستعمارية العسكرية التي مارسها الغرب عن طريق الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، وإلى حدٍّ أقل بعض الأمم الأوروبية، أفلَ مسارُها العسكري بسبب الإنهاك الذي أصابها بعد الحربين العالميتين اللتين، في حدّ ذاتهما، كانتا نتيجة تصارُع القوى الغربية، فيما بينها، على مراكز النفوذ. هذه الحرب لم تنته ضد بعضها الآخر بعد الحرب العالمية الثانية، لا بل استمرَّت ولكن بشكلٍ خفيٍّ (Covert Action = CA) عن طريق العملاء والجواسيس. وفي منطقتنا أدَّتْ هذه الحرب إلى زمن الهيمنة الإنكليزيّة، وتبعها زمنُ الهيمنة الأنكلو – أميركيّة أو الأنكلوساكسونيّة، ومن ورائهما المطامع الصهيونيَّة. واليوم نرى استمراريتها في منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا ومجموعة الأنكلوساكسون من خلال فضيحة الغواصات لأستراليا وصفقة السلاح الفرنسية للخليج، وتوابعها في المملكة العربية السعودية، التي يتطلع وليُّ عهدها إلى مكانٍ بين الدول، كما فعل مؤسسها سابقاً مع الإنكليز ضد الهاشميين، ومع الأميركيين على متن الباخرة “كوينسي” عام 1945.
تحقيق “الميادين” لم يُغطِ كلَّ أوجه الصراع
عرضت قناة ” الميادين” مؤخراً ثلاث حلقات بعنوان “سعاده الغائب الحاضر”، تصفُ سيرتَهُ بلسان بعض رفقائه. ولكن هذه السيرة كانت مجتزأة، هدف مخرج البرنامج منها تصويرها كمسألة شخصية سياسية غايتها السلطة بين رياض الصلح وسعاده، انتهت بخيانة من حسني الزعيم، والتخلص من سعاده. والأمر أكبرُ من ذلك، ولو تسنّى للرفقاء والأمناء المشاركين في الحلقات وقتٌ أطول، لكانوا أحاطوا بكل جوانب مشروع سعاده المتكامل والحرب عليه، وهم الضليعون فيه عمقاً حتى النخاع وبكفاءة. ولهذا أستأذن منهم بقراءة إضافية للحلقات، اعتمادًا على الدعائم التاريخية، وعلى ما كان سائدًا في المنطقة، خصوصًا ما ذكرته في مقدمتي ولتبيان حقيقة الإعلام الكاذب وارتباطه بالحرب على مشروع سعاده.
أولاً، كان هناك سؤالٌ عن دور مصر بعد الحلقة الأولى. مصرُ فاروق لم تكن بعيدةً عن المؤامرة كما سيأتي. ومصر عبد الناصر، بعد تصفيته، تفهَّمت مشروع سعاده في بداية أمرها، ورَحَّب الحزب بثورة 23 تموز 1952 في مبادئها المعلنة مع بداية الثورة وهي: محاربة الهيمنة الأجنبية، والتعاضد في العالم العربي، والتركيز على الإنتاج لبناء اقتصادٍ وطني، ومحاربة الإقطاع ودعم حقوق المنتج في الثروة الوطنية وغيرها. وكانت هناك محاولاتٌ لعمل استراتيجي في المنطقة بين القيادة المصرية والحزب السوري القومي الاجتماعي ممثَّلة بالرفيق أحمد شومان والأمين عصام المحايري، من أجل دعم حركةٍ مصرية قومية اجتماعية. ولكن القيادة المصرية خاصمت مشروع سعاده نتيجة مؤامرات الطغمة الفاسدة حول عبد الناصر، إضافة إلى تشكيك بعض الأحزاب الوطنية في الشام، والشعارات التي كان هدفها الوصول إلى السلطة، والسلطة فقط.
ثانيًا، يجب الاعتراف بأن خطوة “الميادين”، وإن لم تلمّ بكلِّ الجوانب، لكنها بعرضها وبعنوانها كَسَرَتْ الحظر الإعلامي على فكر سعاده الذي دام عقودًا طويلة. هذا الحظر كان، وما يزال، امتداداً لمؤامرة تصفيته جسديًا. فـ”الميادين” خطت خطوة إيجابية، وكانت منصفة لمشروع سعاده في أنَّ اختيارها للعنوان هو اعترافٌ مباشر أو غير مباشر براهنيّته أمام المشاريع الاستعمارية التي يعاني منها الناس اليوم في كيانات الهلال الخصيب، كالصراع الطائفي، وانغماس رجال الدين في سياسة الدولة، والأزمة الاقتصادية التي خلقتها الدول الاستعمارية لمحاربة وحدة الحياة عند شعب الهلال الخصيب، ودعم الميليشيات الطائفية التي تهدمُ كيان الدولة، والفشل في إنشاء جيشٍ قويّ يَصُدُّ هذه الميليشيات. لقد نجح المتحدثون في الحلقات في إبراز شخصية سعاده بأبعادها الوطنية والفكرية والإدارية، وبوحشية قتله. ولكن هناك الكثير الذي يجب الإضاءة عليه عن عمق فهمه للتجربة الروحية في الهلال الخصيب بربطه بين الأرض التي أحبَّ ودورة الفصول التي أخصبت الرؤية الفكرية والروحية للإنسان. كذلك لا بد من التركيز على أنَّ المؤامرة، وبأبعادها الثلاثة: الأفقية والعمودية والحركية، هي أوسع بكثير من مجرد عملية قتل وتصفية شخص في نزاعٍ سياسيٍّ.
المؤامرة التي لم تتوقف
المؤامرة التي أدت إلى استشهاد سعاده لم تكن فقط ضد شخصه، وهي لم تكن نتيجة حقدٍ سياسي حمله مسؤولٌ ما في ذلك الوقت. وإنما كانت، ولا تزال، خطةً جهنمية في سلسلة أعمالٍ شيطانية ضد الأمة ككل. بدأها الغرب بالحروب والمذابح الطائفية عام 1915، مستغلّاً إحباط الناس من حكمٍ مستبدٍّ جائر تمثَّلَ بالسيطرة العثمانية على مدى أكثر من 400 عام، وبمعاهدة سايكس – بيكو (أيار 1916) ووعد بلفور (2 تشرين الثاني 1917) الذي نسيه أو تناساه سياسيو المنطقة الفاسدون. ثم مرورًا بالانتداب الفرنسي الذي لاحق سعاده وسجنه ثلاث مرات خلال سنتين فقط، وسحب جواز سفره وهو في المغترب. ولم يكن للإنكليز أي فضلٍ في إعادة جواز سفره حين عاد إلى الوطن. والحقيقة هي أنَّ السفير اللبناني يوسف السودا (1)، وبناءً على طلب مُلِحٍّ من حكومته، رفض إعادة جواز سفر سعاده ، الذي كان الانتداب قد سحبه منه، فتدبَّرَ الأمر قوميو البرازيل مع القنصل اللبناني هيكتور خْلاط بمنحه جواز سفر باسم أنطون مجاعص. وكان العميلان الإنكليزيان بشارة الخوري ورياض الصلح، “بطلا الاستقلال”، وبفضل الجاسوسية الإنكليزيَّة، قد نجحا في الاستيلاء على الحكم وإزاحة إميل إده وأعوانه الممثِّلين للنفوذ الفرنسي. وفضلاً عن ذلك، كان لرياض الصلح دورٌ آخر في المؤامرة يتعدى الحقد الشخصي وهو الوساطة بين الوكالة اليهودية و”حزب الكتائب” المُمَثَّل بإلياس ربابي. وتاريخ حزب الكتائب في محاربة فكر سعاده معروف، ولم يتوقف حتى الآن. كان بشارة الخوري ورياض الصلح جزءًا من المؤامرة الإنكليزية والغربية على فكر سعاده وحركته التي كانت قد لاقت انتشارًا واسعًا، خصوصًا بين النخبة الفكرية والرأي العام الوطني. والصلح لم يكن يومًا، عضواً في أيٍّ من الحركات الوطنية ضد السلطنة العثمانية لأنها لم تثق به. وكان والده ضالعًا في مساندة السلطنة العثمانية، وناشطًا في “مجلس المبعوثان” العثماني، ومعاديًا للاتحاديين الأتراك. ورياض الصلح مع خالد العظم كانا فيما بعد “بطلي” الانفصال الاقتصادي بين لبنان والشام عام 1950.
عام 1945 كانت التقارير تصل إلى الجنرال ديغول من أَعْيُنِه في المنطقة عن عمل الجاسوسية الإنكليزية بقيادة الجنرال إدوارد سبيرز (Edward Spears) (2) في محاربة النفوذ الفرنسي في المنطقة. وحدثت مواجهة عنيفة حول هذا الأمر بينه وبين وينستون تشرشل. كان هدف الجاسوسية البريطانية ترسيخ هيمنة لندن على المنطقة، ليس بالاحتلال العسكري هذه المرة والإمبراطوريةُ في أفولها، وإنما بالعمل الجاسوسي السري بقيادة سبيرز. وقد كلَّفتْ بالمهمّة عملاءَها الهاشميين في العراق، الذين أغروا بعض أصدقائهم السياسيين للقيام بهذه المهمة، ومن بينهم شكري القوتلي وجميل مردم بك ورياض الصلح، وغيرهم من الزعماء العرب الناشئين ممن يهرولون إلى السلطة “نحاول مُلْكاً أو نموتَ فَنُعذرا”. وكانت غاية الإنكليز الهيمنة وإيجاد جبهة إسلامية لمواجهة الاتحاد السوفياتي والشيوعية تضمُّ تركيا ودولاً إسلاميَّة أخرى. وانقلابا حسني الزعيم وسامي الحناوي(3) وما تبعهما من ذيول، وانشاءُ الجامعة العربية… كلُّها حدثت في فتراتٍ متقاربة. فالإنكليز أنشأوا الجامعة العربية لاحتواء الدعوة إلى وحدة الهلال الخصيب وتهميشها، وشجعوا الدعوة الدينية لتتويج فاروق خليفة على المحمديين. والوفد الذاهب إلى القاهرة برئاسة نعمة ثابت، الذي تبرَّأَ منه لاحقاً الأمين أسد الأشقر(4)، لم يكن هدفُه، بالحقيقة، حَثَّ سعاده ليكون معتدلاً في خطاب العودة، لا بل إنَّ ثابت حمل تهديداً من الحكومة اللبنانية لسعاده لثنيه عن العودة كلياً.
ولكن سعاده لم يرعبه التهديد. ففي 2 آذار 1947 وصل إلى بيروت لتستقبله جموعٌ حاشدة بلغت، حسب الضابط القومي شوقي خيرالله، ما يقارب المائة ألف، جاءوا من جميع أنحاء سورية. وبين الحشد، حسب الأمين الراحل جبران جريج والأمين شوقي خيرالله، كان بشارة الخوري ورياض الصلح يتخفيان في سيارة قرب منزل مأمون إياس ناحية مستديرة المطار الحالية في الغبيري لمراقبة ما يجري. وقد هالتهما ضخامة الحشد الذي كان في استقبال سعاده. وشوهد فوزي القاوقجي قائد “جيش الإنقاذ” (الذي لم ينقذ شيئاً!) على متن الطائرة التي أقلَّت سعاده إلى بيروت.
خلال 24 ساعة من وصول سعاده إلى بيروت، بدأ استفزاز الحكومة اللبنانية بالإيعاز إلى الأمن العام بالتحقيق معه في ما يتعلق بخطاب العودة. وحينما رفض ذلك لبراءته، ولِحقِّه الدستوري في إبداء الرأي، أصدروا مذكرة توقيف بحقه. وتقول الأمينة هيام نصرالله محسن، زوجة رئيس الحزب الراحل عبدالله محسن: “الدولة (اللبنانية) حكمت بالإعدام على سعاده منذ يوم وصوله ولحظة إلقائه الخطاب”. (أنطون بطرس، “محاكمة سعاده وإعدامه”. ص: 11-13). ومجابهة سعاده والقوميين لقوى الدولة العسكرية لم تكن إلّا دفاعاً عن النفس وعن الحزب ضد النوايا الشريرة لذلك الحكم العميل. وقد ثبُتَ ذلك من إلغاء الحكومة لمهرجانات القوميين ومنع اجتماعاتهم السلمية ومن حادثة الجمَّيزة التي تواطأَ فيها حزب الكتائب بتشجيعٍ من رياض الصلح. وقد روى الكتائبي رامز البستاني لميشال فضول صاحب مطبعة الجميزة، عما كان يدور في بيت الكتائب من اجتماعاتٍ تنسيقية بين رياض الصلح وبيار الجميل، قبل الحادثة بأيام. وقال الأمين أديب قدُّورة لسعاده إن حادثة الجميزة هي محاولة اغتيال، ونصحه بالتخفي لأن المحاولة ستتكرر. وقدورة كان متيقِّناً من ذلك لأنَّه، وهو عميدٌ للدفاع، كان قد استُدعِيَ من قِبَل رياض الصلح قبل أسبوعين من حادثة الجميزة ليسأله هل هناك خطة حزبية للقيام بانقلاب، فنفى قدورة هذا الزعم؛ وأعاد هذا الكلام في مذكراته التي كتبها بعد تصفية سعاده. والدليل على ذلك أن قسمًا كبيرًا من القوميين الذين اعتُقِلوا، قبل تصفية سعاده، سلَّموا أنفسهم سلمِيًّا أمام دهشة القوى الأمنية، لا كما ادّعى عملاءُ الحكومة.
وأيضًا ثبُتَت المؤامرة من فكرة قتله على طريق دمشق بيروت باقتراحٍ من أحد الضابطَين المكلَّفَين بنقله. وثبتت المؤامرة أيضًا من المحاكمة الصورية الاستهزائية والهزلية التي نَسَّقتها الحكومة بجميع أجهزتها، ومن بينها قيادة الجيش ووزارة الدفاع آنذاك. وقد اعترف القيادي الكتائبي القديم جوزيف أبو خليل بأن “إعدام سعاده كان بمثابة اغتيال، وإني مَدينٌ للقوميين بهذا الاعتراف”.
وهكذا، وبناءً على نصيحة مستشاري سعاده، تمَّ نقله إلى دمشق. وهذا كان بغير علم الحكومة الشامية. فانتقال سعاده إلى دمشق لم يكن بطلبٍ من حسني الزعيم، ولا بهدف طلب حمايته، بل للالتحام بقاعدة الحزب الواسعة في الكيان الشامي؛ فنصف ضباط الجيش السوري كانوا ينتمون إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولم يكن سعاده مؤيدًا لانقلاب حسني الزعيم. اجتماعات حسني الزعيم مع سعاده جاءت بمبادرات من شخصين هما الدكتور صبري القباني والعقيد توفيق بشور، وكلاهما ندما على ذلك. فقد ثبت لهما أنَّ حسني الزعيم شخصٌ غريب الأطوار، لا يوثق به، وحذّرا سعاده منه. وقد نَشَرَ الصديق عبد الغني العطري، صاحب مجلة “الدنيا”، مذكرات الدكتور صبري القباني، وأعقبها بتصريحٍ منه بأن هذا كان على اتصال مع حسني الزعيم، ووصف الأخير بأنَّه إنسانٌ غير متزن وغير سوي. وممَّن نصحوا سعاده أيضاً بعدم الوثوق بحسني الزعيم الشاعر عمر أبو ريشة. أمّا الذين وصفوا تسليم حسني الزعيم لسعاده بالخيانة، فما كان وصفهم دقيقاً. فلكي يكون هناك خيانة، منطقيًا، يجب أن تكون مسبوقة بتحالف سابق، وهذا لم يكن موجودًا من قبل. فانقلاب حسني الزعيم لم يكن مُعترَفًا به لا من الغرب ولا من الأنظمة العربية الموالية آنذاك للغرب. وسعاده، عند حسني الزعيم، ما كان إلّا رهينة للمقايضة، ساهمت فيها كلُّ الأنظمة العربية العميلة ومن ضمنها الحكومة اللبنانية، ومملكة فاروق المصرية، والنظام السعودي المقام في الجزيرة العربية. وليس غريبًا أن يتزامن إعدام سعاده مع صفقة حسني الزعيم الشاملة مع أميركا، التي شملت مبلغًا لا يستهان به آنذاك مقابلَ الاعتراف بالانقلاب، ثم اتفاقيةَ الهدنة مع الكيان المحتل، والموافقةَ على صفقة مد أنابيب البترول مع شركة أرامكو، وهما الاتفاقيتان اللتان عارضهما المجلس النيابي الشامي، ثم المقايضة بتسليم سعاده إلى قاتليه.
ولم تنته المؤامرة بتصفية سعاده، بل استمرت، بعد ذلك، على تلامذته وعلى مشروعه النهضوي. هذه المؤامرة التي أظهرت وحشيتها على أعضاء الحزب في الشام بعد اغتيال عدنان المالكي، وفي لبنان بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة. وكلتا الحادثتين لم يكن لأعضاء الحزب عِلمٌ بهما. ثبت ذلك في قرار رئيس محكمة الاستئناف في دمشق بدر الدين علوش. فالمتهم الأساسي في مقتل المالكي لم يمَسَّه أحد، إذ كان شوكت شقير رئيسُ الأركان في الجيش السوري يعمل جاهدًا لتجديد رئاسته للأركان التي كانت قد قاربت على الانتهاء، ولم يكن يزاحمه عليها وبجدارة سوى العقيد عدنان المالكي والمقدم غسان جديد الذي كان قد سُرِّحَ من الجيش. ولم تكن تخفى على أحد إلحاحات شوكت شقير على أحد القياديين الحزبيين بإقناع جورج عبد المسيح بتصفية عدنان المالكي.
واستمرت المؤامرة على تلامذة سعاده ومشروعه في التصرفات الوحشية للعهد الشهابي وحكم البسطار العسكري الذي شرَّعه ذلك العهد تجاه القوميين وقادتهم وهم في الأسر من تعذيب وقتل. ويجب الاعتراف بأن الفضل في وقف هذه الوحشية يرجعُ إلى آمرٍ جديد للسجن آنذاك هو الملازم ميشيل عون. وبالإضافة إلى ذلك فالمحكمة الشهابية حكمت على القوميين لا كسياسيين، بل كمجرمين (كانَ قادة الحزب قد أصرّوا على القائمين بالانقلاب بأن يكون سلميًا)، وذلك برغم اعتراض القاضي الفرنسي موريس غارسون، والقاضي اللبناني إميل أبو خير، بأن الجرم سياسي، وقام به بعض القياديين، ولا علاقة لأعضاء الحزب بالانقلاب.
هذه الحرب التي شُنَّت على سعاده وعلى مشروعه وقفت وراءها الصهيونية والقوى الاستعمارية الداعمة لها في الغرب، وعملاؤها في العالم العربي. أمّا سببها فكان التزامه الصلب واليقينيَّ بالمسألة الفلسطينية، إذ جعلها قضية الشعب السوري الأولى. وقد سبق هذا الالتزامَ تأسيسُ الحزب بأكثر من عشرة أعوام. وقد حذَّر سعاده الشعب من خطرين عليه، الطائفية والصهيونية (وهما مصدر الكوارث اليوم)، لا بل ساوى بينهما في الخطورة، في مقال نشره في جريدة “الجريدة” (سان باولو البرازيل)، قال فيه: “من أعظم العقبات التي قامت في سبيل استقلال سورية التعصب الديني… ولقد سبَّبَت التعصبات الدينية في سورية معضلةً… فإذا لم يبادر السوريون إلى حلِّها قبل أن يتفاقم شرُّها جَرَّتْ عليهم ويلاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصى. وإحدى هذه الويلات الآخذة في الحلول في الأراضي السورية كضيفٍ ثقيل يضطرّ الساكنين إلى الرحيل هي الصهيونية…” (أنطون سعاده، الآثار الكاملة، الجزء الأول، ص:11). قال هذا قبل أن يكون هناك كيانٌ صهيونيٌّ محتلّ. وليس غريبًا أنَّ بعض السياسيين الذين حكموا لبنان، وكانوا قد استثمروا في فلسطين في عقاراتٍ وباعوها قبل النكبة، كانوا عالمين بما يحصل، وكانوا جزءًا من المؤامرة، وفريقًا في النظام الفاسد الذي سيطر على سياسة الدولة اللبنانية والدولة الشامية (راجع مقالات محمود محارب في “أسطور” عن اجتماعات الكتلة الوطنية مع الوكالة اليهودية).
هؤلاء هم، أيضًا، الجوقة التي أشاعت الأكاذيب بأنَّ سعاده هو عميلٌ لنقيضين: إسرائيل والنازية. وأشاعت عنه بأنَّهُ ملحد رغم إيمانه بأن الأديان هي الإنجاز الروحي لأمَّته. وقد تجلّى هذا الإيمان في كتابه الذي طبعه جورج عبد المسيح تحت عنوان “الإسلام في رسالتيه المسيحيَّة والمحمديَّة”. وسعاده بنى مفهومه عن الإسلام بناءً على التجربة الروحية والحقائق التاريخية لبلاده سورية، أو سوراقيا أو الهلال الخصيب.
فإبراهيمَ الخليل المؤمن بالإله “إيل” وهو الله وليس “يهوه” قال لزوجته: “إنَّكِ أختي في الله، فإنَّهُ ليس في الأرض مُسلِمٌ غيري وغيرِكِ”. وفي هذا المفهومِ للإسلام، رُوِيَ عن الرسول العربي أيضًا أنّه قال في أحاديثِهِ عن دمشق بأنَّ “معقلَ المسلمين أيَّام الملاحم، دمشق”. ولم تكن الفتوحات قد وصلًتْ إلى دمشق آنذاك بعد، إذ إنّ سكانها كانوا مسيحيين، فكلمة الإسلام ضَمَّت كلَّ مَن أسلَمَ لله. وعلى أساس هذه الأحاديث، قال سعاده، المُلِمِّ بالمدوَّنات الإسلاميَّة، مقولته الشهيرة: “ليس من سورِيٍّ إلاّ وهو مُسلمٌ لرب العالمين، فمنَّا من أسْلَمَ لله بالقرآن، ومنَّا من أسْلَمَ لله بالإنجيل، ومنَّا من أسلَمَ لله بالحكمة، فقد جَمَعَنا الإسلامُ وأيَّدَ كوننا أُمَّةً واحدة، وليس لنا من عَدُوٍّ يُقاتِلنا في ديننا وحقِّنا ووطننا إلّا اليهود.”
وإيمانه بالدين لم يكن اعتباطيًا بل جاء من إيمانه بالمدرحية، المستمدة من التجربة الروحية لإنسان الهلال الخصيب. فالقيادة مشروطة بـ”الرؤية”، وهي العين الثالثة حسب جبران خليل جبران. والله في رؤية الإنسان العقلية هو الصورة الذهنية التي وصفها أفلاطون والتي مَثَّلَت كل خيرٍ، والتي حملت الأسماء الحسنى (99)، وهي كلّها غير ماديَّة، ويمكن الإضافة عليها كل ما يحمله الزمن في تطوُّرِهِ من صفات حسنى لا مادية. ولكنّ الكونَ ماديٌ في تكوينه، ورباطُهُ بالروحانية هو العقل، والتعقلُ حسب أفلاطون فيه شيءٌ من الألوهية. والعقل كشرع أعلى بحسب مدرحية سعاده هو الرابط بين الروح والمادة. وتاريخ الهلال الخصيب كتبه هذا التناغمُ الروحيُّ الأبديّ بين الأرض وتتالي الفصول، الذي لم تفهمه سوى النخبة التموزية؛ التناغمُ الذي حَوَّل البذرة الساكنة الى انفجارٍ بالحياة.
كتب المؤرخ فراس السواح: “لقد كان همّي دومًا البحث عن وحدة التجربة الروحية للإنسان عبرَ التاريخ، بصرف النظر عن مصدر الخبرة الدينية”، والدينُ “كَدْحٌ من الإنسان لِتَلَمُّسِ مقاصدِ القدرة الإلهية”، و”إنَّ لقاء الإلهيِّ بالإنسانيِّ قائِمٌ عبر تاريخ الإنسان الروحي.” (“مغامرة العقل الأولى”، ص: 8).
وأما بالنسبة للعامل الداخلي الذي ساهم ولا يزال، عن قصدٍ أو غير قصد، في نكبة القوميين، وفي الكوارث التي أحلتها الحرب الاستعمارية عليهم، فهو هذا الإلغاء لمشروع سعاده المتكامل جغرافيًا وبيئيًّا وتاريخيًّا وروحيًا وثقافيًّا إلى اجترارٍ خشبيِّ ممل لهذا المشروع وبغايةٍ واحدة هو الوصول إلى السلطة، الذي كان أيضًا هدفًا لبعض الأحزاب العلمانية، إذ انغمست بعض القيادات الحزبية في هذا الصراع، وهمَّشـت النخب الفكرية في الحزب واستهزأت بها وهَجَّرَتْها. هذه النخبة التي كانت لها الريادة في حركة الحداثة التي شملت الشعر والفلسفة والأدب والمسرح والصحافة والموسيقى والغناء وغيرها من التطلعات الحضارية، والتي بَنَتْ عصر بيروت الذهبي. وللأسف الشديد، فإنَّ الصراع على السلطة الذي بدأ بنعمة ثابت، وتهميشَ النخب الفكرية، والانشغال عن مغزى مشروع سعاده، ما زالت إلى اليوم تعطل المبادرة التي أطلقها سعاده عام 1932. والنتائج الكارثيَّة التي كانت حصيلة ممارسات تلك القيادات، وحسب نظرية إرنست كادمان في أوائل القرن العشرين، المُسَلَّمُ بها في المجتمعات الحضارية، بأنَّ أيَّ عملٍ يُقَيَّمُ بنتائجه النهائية، فإن المسؤولية الكبرى تقع على تلك القيادات، وفشلها واضحٌ وضوح الشمس.
ومن الأشياء التي انشغلت عنها هذه القيادات الحزبية هو معيشة الناس، المرتبطة باقتصاد الأمَّة. كان الزعيم قد كَرَّسَ المبدأ الإصلاحي الرابع والمحاضرة الثامنة لمعالجة أمور الاقتصاد، فقال: “الاقتصادُ ارتقاء”، وأكد بأنَّهُ لا مجتمع قومي بدون إقامة اقتصادٍ قومي، وربَطَ الاقتصادَ بالإنتاجِ: “والإنتاجُ، أساسًا، هو المفتاحُ للقضية الاقتصاديَّة كلّها. بدون الإنتاج لا يمكننا أن نَحلَّ مشكلة واحدة من مشاكل الاقتصاد في مجتمعنا”. والإنتاجُ “هو حقٌّ عامّ، لا حقٌّ خاص”. وفي محاضرَتِهِ السادسة قال بأنَّ المصالِحَ ليست مجرَّد منافع. المصالح هي مصالحُ الارتقاء والفنّ، مصالح جمال الحياة كما هي مصالح الاقتصاد والصناعات والتجارة، المصالح المادية التي يتوقف عليها المجتمع ماديًا.
والحقيقة هي أنَّ الإنتاج يَتَطَلَّبُ كفاءات مختلفة، تتوظَّفُ في مشروعٍ معيَّن: وما من عملٍ أو إنتاجٍ في المجتمع إلّا وهو عملٌ أو إنتاج مشترك أو تعاوني. أما تلك القيادات المنحرفة فقد تمادت في مطامعها وطموحاتها الشخصية، والدكتور هشام شرابي، في كتابه “المثقفون العرب والغرب” الصادر عن “دار النهار” عام 1971 قال: “إن انهماك ذوي الفكر والاختصاص (في بلادنا) لا يرتكز في العمل لأهدافٍ اجتماعية يغنى بها المجتمع، بل في السعي وراء الرزق والمصلحة الفردية…” وهذا ما سمّاهُ “عُبودية الارتزاق”.
إنَّ أشرسَ الحروبِ اليوم هي الحربُ الاقتصادية. ورغم رؤية سعاده، فقد تجاهلت قياداتُنا الحزبية المختلفة هذا الشأن، ولم تجد أية ضرورة لتَعْبِئَةِ القواعد الحزبية ولمساعدَتِها في تحقيقه. والظاهرُ أنَّ أغلَبَ قياداتنا لم تملكْ الرؤية والقدرة الفكرية لاستيعاب الكفاءات الفكرية والاقتصادية (من مهنية وتجارية ومالية وفنِّية)، فتغرَّبَت هذه الكفاءات داخليًّا وخارجيًا، وانصرفت هذه القيادات إلى السياسة، وجعلت مواقعها الحزبية قواعدَ للقفز إلى المناصب السياسية.
نعم، لقد بقيَ الاقتصادُ فكرًا ولم يتحول إلى ممارسة في برنامج القيادات الحزبية التي توالت على مرِّ السنين. فهاجس السلطة هذا جعلها شرسة في شهواتها، فانبرت إلى المغامرات العسكرية وسياسة الخنادق والمتاريس. أما العمل النهضوي في بناء المجتمع وتحصينه بالمؤسسات المدنية والاقتصادية وبالمعرفة والثقافة، فلم يكن في برنامجها.
في هذا الزمن حيث نعيش الهيمنة الأنكلو – أميركية – الصهيونية، وحيث عملاؤها يتكاثرون كالفطر، وحيث زادوا على الحرب السرية (Covert Action) حربًا اقتصادية معلنة (5)، لا بد من استعادة مشروع سعاده. والنخبة الفكرية والاقتصادية في الحزب عليها أن تأخذ المبادرة، فنحن معًا على الدرب الوعرة، و”غبار أرجلنا صاعدٌ”، “وسيبقى الحلم، فقد فوَّضَ إلينا حراسة أبوابه، وأخذ مفاتيحها…” والتعابير لأدونيس.
هوامش:
1 ـ يوسف السودا كان محاميًا دافع عن الأمين أسد الأشقر والقوميين أثناء محاكمتهم بعد المحاولة الانقلابية 1961-1962.
2 ـ من سخريات الزمن الرديء أن اسم هذا الجاسوس يُطلق على شارعٍ رئيسيٍّ في بيروت. كما اسم اللنبي وكليمانصو، وشارع بشار الخوري وساحة رياض الصلح، وجميعها لا تبعد عن طريق الشام الذي هو طريق الاستقلال والسيادة.
3 ـ يقول الضابط فضل الله أبو منصور في كتابه “أعاصيرُ دمشق” بأنَّهُ حين عاد من القصر الجمهوري في دمشق بعد اعتقاله لحسني الزعيم، كان هناك طائرة منتظرة في مطار دمشق أعدَّها الحناوي لنقله إلى بغداد فيما إذا فشلت محاولة الانقلاب. ولم يكن حلف بغداد لاحقًا سوى مسلسَل في هذه المؤامرة.
4 ـ كان الأمين أسد الأشقر صلبًا في التمسُّكِ بعقيدة الحزب، وفي انضباطيته في الحركة. عرِفتُ ذلك من لقاءاتي العديدة معه في معتقل مستشفى الكرنتينا أيّام إضرابه عن الطعام، إذ كنت طبيبًا متدرِّبًا في المستشفيات الجامعية في بيروت. وعرفت ذلك أيضًا من سلسلة المقالات التي كتبها في الأسر، ونشرها في جريدة “النهار” بتوقيع مستعار هو “سبع بولس حميدان”، وعرفتها من مؤلفاته.
5 ـ كانت الحكومة الأميركية بعد إقامة الكيان المحتل تصف المقاطعة العربية لإسرائيل بأنها تخالف القوانين الدولية، وهي غير شرعية، وحاربتها واشنطن بكل قواها. واليوم هي التي تفرض العقوبات الاقتصادية على كل دولةٍ تخالف سياستها.