الجماعة الصغيرة والفضيلة
Share
يخبرنا تاريخ تأسيس الجماعات الإنسانية عن الرغبة الإنسانية العميقة في قيامة عالم أو حصول واقع أو تكوين محيط أفضل وأن السبيل في تحقيق التغيير يكون بالتعاون مع إنسانٍ آخر هو صاحب مصلحة في نفس الهدف. فمنذ جماعات اللقط والصيد وحتى مستوطنات القرى الزراعية الأولى إلى مدننا المعاصرة كانت الجماعة الإنسانية تبحث عن كرامة الإنسان والمجتمع وتحقيق نجاحه وسلامة المجموع.
وإذا كان الانتماء إلى أي جماعة بشرية يبدأ بطبيعة الولادة ومكانها وزمانها، فإن الانتماء الناتج عن التفكير والقرار إلى جماعة مصغرة داخل الجماعة الكبيرة نفسها، مع معرفة عواقب هذا الانتماء، هو القصة الأعقد لتاريخ الجماعة الإنسانية المصغرة التي قد تكون ذات رؤية جذرية إلى واقع وجود جماعتها الكبيرة فتريد صادقة تغييره مثل الأديان أو الأحزاب أو تكون ببساطة في الانتماء لشركة أو مهنة أو تخصص دراسي، وفي الحالتين تفرض الجماعة الصغرى على المنتمي إليها فضائلها الخاصة والتي قد تكون فضيلة تسعى إلى الخير العام أو نزوع تدميري ينافي كرامة الإنسان ويهدر طاقاته.
كانت الفضيلة في الجماعات الإنسانية الأولى تنبثق عفواً منسجماً مع فلاح مقاصدها ولكن تطور الجماعات الإنسانية وتعقد حياتها جعل الفضيلة قضية واضحة ومركزية وينطلق منها ويناقش عليها، بل أصبحت الفضيلة تبتكر جماعاتها الصغيرة الخاصة المحتجة على الرؤية العامة للفضيلة والساعية لتغييرها.
الجماعة والفضيلة
تبدو ظاهرة الأمة – القومية أكثر أشكال الجماعات الإنسانية قوة وحضوراً حتى الآن، ورغم كل ما أحيطت به في أواخر القرن الماضي من أفكار وتنظيرات تنفي وجودها أو حتى حقيقتها أو بقاءها. عاشت الجماعات وعبر تاريخها مفاهيم الأمة الجامعة لها والخاصة بزمانها، فعرفت روابط متطورة من الأسرة والقبيلة وصلة الدم إلى المدينة الدولة ونفوذها إلى الامبراطوريات وامتداد الجغرافيا والمصالح إلى الدين وروابط الاخوة الدينية حتى وصلنا إلى الجماعة التي شعرت بذاتها وبيئتها فكان الوجدان القومي فضيلتها الخاصة.
إن تتبع فهم تركب فضائل الجماعات من القضايا البحثية الصعبة، فهو يتطلب فهماً عميقاً لطبيعة تركيب الجماعة الأولى في أقدم أشكال تجمعها موثوقية، ودرساً لآثارها المادية والنفسية في مختلف جوانب نشاط حياتها البسيط والمركب، وتقلبات الفضيلة نتيجة الاحتكاك والتداخل بين الثقافات والبيئات، وردود فعلها الثقافية الخاصة على مخاطر تحديات البقاء والفناء، وليس آخراً التمييز بين الفضائل المعاصرة الحقيقية التي تمثل استمراراً لآلاف السنين من استمرار اجتماعها والفضائل التي تمثل عقوداً أو قروناً متأخرة من وعي الجماعة لذاتها، ففي تلك القرون ظهرت قضايا من الفضيلة وملحقاتها لا تمت بصلة لعراقة الجماعة الوجودية والثقافية. وهذه الفضائل المتأخرة تحتاج إلى عمل ثقافي واجتماعي خاص لتهضمها الجماعة عن وعي أو بسياق نواميس التطور الخاص للجماعة.
الجماعات الصغيرة والفضيلة
عرف التاريخ ظهور جماعات صغيرة في قلب الجماعة الكبيرة ولأسباب كثيرة ويهمنا منها الجماعة الصغيرة التي تظهر لأسباب تتعلق بالرفض أو الاحتجاج على فضائل الجماعة الكبيرة. وبغض النظر عن طبيعة هذا الاحتجاج والسعي للتغيير؛ هل هو نكوص أخلاقي سطحي؟ أو احتجاج عميق الجذور؟ أو سعي نفسي مضاد لكامل فضائل الجماعة السلوكية؟ نجحت بعض الجماعات الصغيرة في التحول إلى جماعات كبيرة وعابرة لحدود جماعات زمانها، مثل دين الإسلام المسيحي والمحمدي أو البوذية، ومنها ما بقي ضمن حدود جماعتها القومية مثل الزرادشتية أو الهندوسية، ومنها ما لم يتجاوز صاحبها مثل حديث نتشه على الإنسان المتفوق الجديد وطبيعة فضائله وفهمه للحياة والفن.
تشترك هذه الجماعات الصغيرة بالكثير ويهمنا منها فكرتان:
الأولى: التأسيس الفردي للجماعة، فهي انطلقت من فرد كان قد هضم ثقافة مجتمعه بخبراته وظروفه وتجاربه الخاصة وتأمله المقصود، وفرق هذا الفرد بين الخير والشر في فضائل جماعته، فتربع على لحظة إنسانية نادرة استطاع فيها مخاطبة جماعته، متجاوزاً ألمه الخاص، بأعز ما تملك هذه الجماعة وأخطر دقائقها النفسية والتلاعب بأكثر المفاهيم والمؤسسات رسوخاً باعتبارها أوهاماً لأعراف وتقاليد مستبدة وغير عادلة، فهو ببساطة يملك البديل لهذه الثقافة القائمة وبديله هذا يرتقي بحياة الجماعة ويصون كرامتها إلى ذروة جديدة من التعاون والفضيلة بين أفرادها.
الثانية: اشتراك الجماعات بطقوس ومظاهر تهدف إلى تكريس الفضيلة المغايرة مقابل فضيلة الجماعة الكبيرة ولكنها في الحقيقة تهدف إلى تعزيز التضامن والفضيلة داخل الجماعة الصغيرة نفسها، فليس الصيام والصلاة والأذان والزكاة و و في الإسلام المحمدي إلا وسيلة لغاية تتعلق بزرع روح الفضيلة والتضامن والوحدة بين افراد الجماعة الصغيرة.
مرت الفضيلة في الجماعات الصغيرة المنتصرة على جماعاتها الكبيرة بتاريخ نمو ضمن أربعة أدوار. تظهر الفضيلة في الدور الأول بمظهر صراع مثالي ومنضبط وذو نزعة عسكرية ومتقشفة واستعدادٍ عالٍ للتضحية أما في الدور الثاني وعندما تشعر الجماعة بانتصار قضيتها على خصومها أو ترسخها الوجودي يتحول صراع الفضيلة إلى قضية أدب وفن وتأمل واندماج بعلوم ومعارف تستفيد فضيلة الجماعة من قوتها، أما في الدور الثالث فتتحول الفضيلة إلى قضية ترف وجاه فتمتزج بغرور وكبرياء الجماعة الذي يعبر في حقيقته عن إحساس مبهم عند الجماعة بدونية في موضع ما (الدونية غالباً تتعلق بطبيعة منجزات الدور الثاني) وقد يستعصي تعيين هذه الدونية حتى على ألمع عقول عصرهم، وبالتالي ينتهي عصر ثقة الجماعة بنفسها وبفضيلتها لأن فضيلتها تصبح مشابهة للرذيلة. في الدور الرابع يزداد تفسخ الفضيلة في وجدان الجماعة فتصبح الفضيلة عينها هي الرذيلة بذاتها، فقد افرغت الفضيلة من مضامينها الجوهرية وأصبحت تصب في قضايا لا تمت بصلة لكرامة الإنسان والجماعة الكبيرة. في المظهر الرابع تصبح فضيلة الجماعة وبكامل عدتها من القشور والطقوس والشعارات والعواطف المبتذلة خالية من أي بعد فاعل لكونها بديلاً حقيقياً للواقع القائم. فالمسلمون المحمديون في العالم وكواقع اجتماعي، ولأسباب كثيرة أهمها أن الدين تحول إلى قضية فردية بين المؤمن وخالقه، وانتهى الدين تاريخياً واجتماعياً كجامعة روحية وزمنية، يعيشون، أي المسلمون المحمديون، في الدور الرابع من تشابه الفضيلة والرذيلة في جميع طقوسهم.
بالتأكيد لا يصب هذا الفهم في محاولة للتغاضي عن ظواهر منفردة في كل دور من الأدوار للتمسك بنقاء الفضيلة الأول أو لمحاولات تفتيت هذه الفضيلة كأنها تستبق زمنها الخاص. ولا يريد هذه الفهم تقديم تاريخ مختصر لآلام الجماعة الإنسانية، فلطالما كانت الخيبة من فضيلة بعض الفاضلين حاضرة في كل الأدوار. كما لا يربط الفهم أعلاه بين الفكرة في ذاتها وأبعادها في الفضيلة مع سلوك الجماعة القائمة عليها، فانحطاط المسلمين على سبيل المثال لا يعود لمشكلة في القرآن أو التاريخ الإسلامي بل إلى سلوك ومنهج المسلمين في فهم القرآن وتاريخ الإسلام المحمدي، والأهم أن الفهم أعلاه لا يريد الإيحاء إلى انعدام وجود إسلام محمدي راقٍ ومتنور على المستوى الفردي، فهو موجود، ولكنه لا يصل إلى المجموع الذي، بما يعتقد أنه الفضيلة، يعيش الرذيلة بعينها. فالقابض على إيمانه كالقابض على الجمر، كما وصف الرسول الكريم محمد إيمان زمنٍ ما، ومن يستطيع القبض على الجمر؟ إنهم القلة المحظوظة.
الحزب السوري القومي الاجتماعي الجماعة والفضيلة
تنطبق على الحزب السوري القومي الاجتماعي مظاهر الجماعة ذات الفضيلة المخالفة لواقع فضائل مجتمعها وفهمه للحياة. فقد تأسس الحزب، وعلى عكس معظم أحزاب العالم العربي وربما العالم، على اكتاف فرد هو أنطون سعادة فهو الذي كتب عقيدة الحزب بوضوح وتسلسل ولغاية واضحة جدا، وعمل على نشرها وتهيئة أسباب قوتها وانتصارها في ابتكار المؤسسات والنظام والنهج وجمع الأفراد المؤمنين بها.
قدم أنطون سعادة عقيدة شاملة لحياة الأمة السورية وانتصار قضيتها ونظرتها إلى الحياة برؤية شاملة في السياسة والاجتماع والدين والأدب والفن والحقوق، بل إن مقالاته السياسية في الشأن المحلي والعالمي ذلك الوقت تعتبر مدرسة لفهم وسائل السياسة الدولية وأساليب الصراع بين الأمم حتى يومنا هذا، كما أن رسائله الصريحة المتعلقة بشؤون الحزب تقدم مادة ثرية لفهم قضية هذه الجماعة السورية ومشكلات واقعها في الوطن والمغترب. فليس من العبث عندما تحدث مؤسس الحزب أنطون سعادة أن أمام القوميين الاجتماعيين آلاماً عظيمة لانتصار قضية خطيرة، وأن الحزب يقدم نظرة جديدة للحياة والكون والفن، وأنه في سبيل انتصار قضية الحزب وجد نفسه يخط طريقاً بين السياسة والاجتماع، وليس في وصفه الحزب أنه دينٌ يصعد من الأرض إلى السماء بعد أن كانت الأديان تهبط من السماء إلى الأرض أي مبالغة.
فجرت قضية هذه الجماعة مواهب شبابها. فظهرت، وما زال إلى يومنا هذا، كمية كبيرة جداً من العقول المبدعة من شعراء وصحفيين وأدباء وعسكريين وشهداء مارسوا البطولة وتأثيرهم القوي على شؤون جماعتهم السورية الكبيرة بكل الأبعاد. فقد حرر فكر أنطون سعادة الجماعة السورية المصغرة في الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسساته التي تحاكي الدولة المصغرة من أوهام وعبودية وأمراض واقعٍ وانحدارٍ ما زال متحكماً بالأمة حتى الآن.
الجماعة السورية القومية الاجتماعية اليوم
يؤلمني ما سأكتبه الآن، فقد تلقيت تربية عقائدية تمنعني من الحديث عن مشكلات الحزب إلى العلن بعد الخروج من أي اجتماع، فما يجرى في مديرية أو منفذية من خلافات ومشادات يبقى بين جدرانها، فقد كان كتمان السر والصمت في العمل من الفضائل التي عمل بها مؤسس الحزب والقوميون لفترة من الزمن ثم..
تأسس الحزب كمجتمع صحي ومصطنع (جماعة صغيرة) يدور على محور عقيدته الطبيعي لمعالجة مجتمع حقيقي ومريض ولا يدور على محوره الطبيعي. تحول الحزب إلى مجتمع مصطنع ومريض لا يدور على محور عقيدته الطبيعي لمعالجة أمراض مجتمع حقيقي لا يدور أصلاً على محوره الطبيعي.. ويا لها من مفارقة.
لا أبالغ في القول أن أمراض المجتمع الكبير والتي عمل المؤسس على إلغائها بعقيدته وسلوكه والمؤسسات التي وضعها انتقلت فرادي وبالجملة إلى نفوس القوميين الاجتماعيين، وليس الناجون إلا قلة من الأفراد ما زال وضوح الوجدان القومي ونكران الذات متلازمين وحاضرين لديهم.
ما يثير الحزن أن ثمة من يعتقد أن مؤتمراً ما بشروط معينة، أو أن تعديلات قانونية، أو اتفاقاً لتوحد أقسام الحزب سينقذ الحزب من واقعه المحزن، فهذه الاقتراحات، وربما مع نيتها الحسنة، تدل على عدم معرفة المفكر فيها بخطورة قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي. وبالتأكيد لن ندخل في نقاش يتعلق برمي مشكلة الحزب على عاتق أشخاص فتتقزم القضية بهذا الاسم أو ذاك. فالمسألة قضية نهج مزمن ومتراكم تساهل تدريجياً في قضيته الصراعية والوجودية.. وربما إلى حدود المساومة!
إذا كان ثمة من دفاع مبتسر عن واقع الحزب والقوميين أيامنا هذه، فهو في خطورة قضيتهم وتاريخ نكباتهم القاسية في أمة ما زالت معاناتها مستمرة. إن القليل من الصفاء يجعلك تدرك معنى المحاكمات الثلاث واحكام السجن ومن ثم المغترب القسري الذي تعرض لها المؤسس من الاحتلال الفرنسي، والطريقة التي أعدم بها المؤسس زمن الاستقلال والحكم الوطني! فمن هو القائد أو الزعيم أو المفكر في ذلك الوقت أو الآن تعرض لتجربة مماثلة؟.. لا أحد! وقضية الوحدة بين سورية ومصر (وهو كلام لن يعجب البعض) والتي قامت على اكتاف تصفية الحزب من مجتمع الكيان الشامي (وخاصة في الجيش السوري) بحجة اغتيال العقيد المالكي. وبقليل من الصفاء، سيرى القارئ أن محاولات الحزب العلماني (ولكن ليس بالقياس المرغوب من ليبرالية عالمية متوحشة) المتنوعة ولعقود لقيام وحدة بين أي من كيانات الأمة السورية كانت خطاً أحمراً عالمياً بينما سُهل وسُمح لتنظيم داعش الدموي المدعوم من القوى العربية والغربية أن يمتد بوحدته الخاصة بين الأرضين المحرمتين (الشام والعراق) وأن يتجاوز الخط الاحمر بفكره الساطوري، وسيسمح له لوقت طويل قادم بلعب دور خاص على الحدود بين الكيانين فمهمته مستمرة. وبينما تعرض أحد كيانات الأمة (العراق) إلى الإفناء في حرب 2003م برمي كمية من اليورانيوم المنضب المستخدم في الأسلحة المتفجرة ما يعادل 250 ألف قنبلة نووية من حجم قنبلة هوريشيما بحسب تقدير مختبرات نووية في الهند يتعرض أيضاً الكيان الشامي ومنذ سنوات لحرب تدمير وتحت مقدمات وشعارات ومسميات مبكية بتفاهتها السياسية من ربيع جليدي قرى وسطي، ممول كما يجب، ينادي بالحرية والثورة على النظام واسقاط الدولة ومتهماً دولاً مثل إيران وروسيا بكل موبقات الدنيا ولكنه يضع يده بيد من ضرب العراق باليورانيوم المنضب! بالتأكيد ثمة الكثير ليقال..
نعم إن للحزب السوري القومي الاجتماعي قضية خطيرة وغاية صعبة وتساوي وجود المؤمنين بها كما قال المؤسس يوماً ما. سوى ذلك الدفاع المبتسر أعلاه منعاً لجلد الذات، أستطيع القول أن الحزب والقوميين والمؤمنين فيه تجاوزوا زمن الفضيلة كترف (الدور الثالث) حيث تشبه الفضيلة الرذيلة ويعيشون في الدور الرابع وهو دور الذي تتحول فيه الفضيلة إلى الرذيلة بعينها لأنها تفرغت بالممارسة من جوهرها وغايتها، ولن اضرب أمثلة على ذلك، لأن الرفقاء من القلة القابضة على الجمر في بلاد الجمر يعرفونها، وربما أكثر مني.
ما الحل؟ لن أدخل فيه فأنا من المواطنين المحبذين للحزب ولست رفيقًا مقسمًا، وربما أشبهكم جميعًا جنديًا بلا قائد وخطة نظامية. وما قلته أعلاه فوق استطاعتي وأدبي، فالقلة القابضة على جمر إيمانها في كيانات الجمر، تعلم وتستطيع وقتما تريد.
مقاربة مختلفة لمشكلة حزبنا