الجسد السوري يفقد عقله!
Share
أثار تداول منحوتة سومرية تمثل أقدم قبلة في التاريخ، التساؤل مجدداً عمّا كنّه وما أصبحنا عليه لاحقاً. لنتخيل أن أحفاد الفنانين الذين نحتوا هذا النوع من الأعمال منذ آلاف السنين، يغضبون اليوم من تمثال عشتار “الفاضح” ويقومون بتشويهه، حتى يحافظوا على الشرف والأخلاق؟ المنحوتة الموجودة في المتحف البريطاني، إلى جانب الكثير من الأعمال الفريدة الأخرى، تختصر الثقافة والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب النصوص الكثيرة التي وصلتنا في الأساطير والقوانين وتدوين الأحداث.
حكوماتنا الحاضرة تعاني من الفشل في التنمية والفساد وعدم القدرة على القيام بإصلاحات. في حين تمكن السوري أوروكاجينا عام 2350 قبل الميلاد من وضع أول إصلاحات حكومية واجتماعية في التاريخ حصنت الحرية والمساواة ووزعت الضرائب بناء على الإنتاج، فأعفت الأرامل والأيتام من دفعها. اليوم نعاني من تسلط رجال الدين على الحياة العامة والتدخل بالسياسة، في حين حدّ أوروكاجينا من سلطة الكهنوت وتجاوزات أصحاب الأملاك العامة والنخبة قبل آلاف السنين!
بالعودة إلى الإمبراطورية الآشورية وأسلوب تعاملها مع مفهوم المواطنة وعدم تمييزها بين أبناء الشعب بأعراقه المختلفة، بل اعتبارهم آشوريين يحق لهم تولي المناصب العليا، ولنقارن ذلك مع ما وصلنا إليه من تشرذم وتشتت طائفي وتمسك بالهويات الجزئية. هل أحفاد اليوم ينتسبون إلى أولئك الأجداد؟
في مقال بعنوان “العراقيون القدماء والرغبة” يشرح الكاتب سعد هادي، مفهوم الثقافة القديمة لموضوع الجسد والجنس، ويظهر مدى التطور الروحي الذي وصلنا من خبايا تلك المرحلة عبر النصوص والمنحوتات. يقول النص الذي يصور هبوط عشتار إلى العالم السفلي: «بعدما هبطت السيدة عشتار إلى أرض اللاعودة، اضطجع الرجل وحيداً في غرفته، ونامت المرأة على جنبها وحيدة وهجر الثور أنثاه وفقدت الحياة مباهجها ومعالمها.» في حين يعاني مجتمعنا اليوم من زواج القاصرات وجرائم الشرف وتعدد الزوجات وكافة الأمراض الاجتماعية الناتجة عن فهم الجسد بطريقة آثمة، مع أن الرصيد الثقافي التاريخي الذي نمتلكه أعظم من ذلك بكثير!
لاشك أن الترجمات الغربية وتدوينات التاريخ من قبل مؤرخين أجانب، ساهمت في غبن الكثير من مفاصل تاريخنا الهامة، لكن ظهور الحقائق كل فترة في النقوش والألواح المكتشفة، يؤكد أنه من الصعب تهميش هذه الثقافة الضخمة المتكاملة التي كنا نمتلكها. لقد صورا الاسكندر المقدوني كقائد أسطوري، في حين كان سرجون الأكادي أعظم منه. وعندما عبر هانيبعل جبال الألب بجيشه الجرار، اعتبروه متوحشاً بربرياً لأن هذا الفعل صعب على التفكير العسكري التقليدي! لاشك أن الغرب كان سعيداً، وهو يرى أمتنا تنحدر وتنسى تاريخها، لتتقمص شخصية أخرى يسهل التغلب عليها واستعبادها بعامل الأمراض التي تعصف بها.
من جانب آخر، فإن العديد من الطقوس القديمة مازالت مستمرة من دون قرارات رسمية أو تخطيط، لأنها جزء من الثقافة الجمعية وشخصية المجتمع، فقد نجت من سلسلة الاضطهادات التي تعرضت لها ثقافتنا القديمة من الثقافات الغازية لاحقاً. ومن الرائع اكتشافها في هذه المرحلة والإشارة إليها. يقول أحد النصوص البابلية: “إذا زرع شخص نخلة في حقله، فسوف تباركه الآلهة، وسيكبر عمله ويزداد خيراً” وهي عادة مازالت مستمرة في العراق مع طقوس الغناء السومرية القديمة التي كانت ترثي الضحايا بعد فيضان الفرات. ومن ذلك أيضاً، أن السوريين مازالوا يحتفلون إلى اليوم بعيد الأكيتو بأسماء مختلفة مثل عيد النيروز وعيد الرابع وغير ذلك من مناسبات مرتبطة بالربيع.
تقول المادة 137 من قوانين الملك حمورابي قبل أكثر من 1750 عام قبل الميلاد:
“إذا رغب زوج بالانفصال عن زوجته التي انجبت منه أطفالاً، فعليه أن يعطي تلك المراة مهرها، وجزءًا من الفائدة التي تعود عليه من حقله ومحاصيله أو ممتلكاته طيلة فترة تربيتها لأبنائه ورعايتها لهم حتى يكبروا. فإذا توفي الزوج، تُوزع التركة بين الأولاد بالتساوي، وتأخذ الأم حصة تعادل حصة ولد واحد، حيث يمكنها التصرف بها كيفما تشاء، حتى لو تزوجت من رجل آخر حسب رغبتها واختيارها.”
لنقارن ذلك مع الحيف الذي تتعرض له المرأة اليوم في القوانين والعلاقة مع الزوج وصطوك الزواج التي تشبه البيع والشراء. أما بالنسبة للنفقة التي تحصل عليها بعد الطلاق، فهي أشبه بصدقة بسيطة لا تعينها على حياتها وتربية أبنائها. ترى، لماذا تخلفت القوانين في عصرنا إلى هذه الدرجة؟
يكتشف المتابع أن انفصالاً حصل في ثقافتنا وشخصيتنا الاجتماعية وقوانيننا وأخلاقياتنا، فأصبحنا شعباً آخر، أو شعوباً متناحرة بثقافات متنافرة للأسف. في هذه النقطة، تبدو العودة للتاريخ أمراً ضرورياً في النهوض أو خطوة أولى في اكتشاف معالم الطريق.