الانفصال-نجيب نصير
Share
يأخذ الانفصال الكردي والاستفتاء عليه حيزاً واسعاً من صفحات الميديا العربية هذه الأيام، والتي أثبتت خلال تاريخها الجلي الكثير من الهفوات “الاستراتيجية” التي تدحرجت ككرة ثلج مشكّلة معضلات معرفية يصعب تفكيكها الآن وإلى أمد غير معروف، وليس من المرجح أن تواجه هذه المسألة تناولاً واقعياً أو معرفياً يذكر. وما تغيير التكنولوجيا المستعملة في هذه الميديا إلا إضافات برانية شكلانية قادرة على تضخيم الشكل وإخفاء الجوهر، إستناداً إلى نتائج دورها الفعال منذ بدايات القرن الماضي. فأكثر الخراب كانت تقوده هذه الميديا المكبلة بنفسها وبتخلف العقول المديرة لها
لم تكن المسألة الكردية مخبأة أو مختبئة، بل كانت موجودة طوال العقود الماضية منذ أن فتح الله على لورانس أرض الشام والعراق. ولم يكن الكرد من شتات البشر واجتمعوا على هذه البقعة الجغرافية، وإنما كانوا من النسيج العام لبلاد آشور التي صاغتها من جديد معاهدة سيفر بشكلها الكياني الحالي، وصاغتها العروبة بلغة ونصف تاريخ وبضعة آمال مشتركة بشكلها الأيديولوجي الراهن. والذي حصل أن هذه الصيغة تهرأت نتيجة لمجرد العيش في قرن تطورت فيه المعارف بأكثر مما تطورت خلال الدهر كله، ولم تلق الصياغتان الكيانية والإيديولوجية أية محاكمة معرفية إلا فيما ندر أنتجت معها العديد من الشهداء والمقهورين، وهو أمر يبعث على الغثيان. فالعناد الجهول لمّا يزل سارياً في شرايين هذه المنطقة وقاطنيها، مطالبين العالم باستعلاء أن يصحو من “أخطائه” القاتلة.
وبالعودة إلى أحد تمظهرات المسألة الكردية (إي الانفصال)، وعلى الرغم من هذا الخضم الهائج من التحليلات والتنظيرات، فإن سؤالاً أساسياً لمّا يزل يخبو ويغرق في لجة أكوام الكلام، كلام يستكمل الجهالة التي قوبلت بها المخططات التي رُسمت لهذه المنطقة في التاريخ المعاصر، وباءت جميع مقاوماتها بالفشل.
السؤال الآن هو: عن ماذا يريد الكرد أن ينفصلوا؟ أعن مجتمع حديث صاغته المعرفة وأسسته الإرادة؟ أم عن دولة راشدة ترعى المساواة؟ أم عن كيان سياسي وجد بالإرادة الخارجية؟ عن ماذا بالضبط يريد الكرد أن ينفصلوا أو يستقلوا؟ خصوصاً أن قضيتهم واضحة بالمعيار الأيديولوجي المتداول، لغة وديناً وآمالاً مشتركة ونصف تاريخ. ولكن السؤال لمّا يزل صالحاً: عن ماذا يريدون الاستقلال؟ إنهم يريدون الاستقلال عن مشروع فاشل أدى إلى كوارث حقيقية، ولمّا يزل يتصاعد بفاعليته المدمرة، حيث ينبثق السؤال التالي: هل العراق مجتمع واحد بالمعنى المعرفي الحديث؟ أم هو أحد منتجات سايكس ـ بيكو وسيفر ومن بعدهما يالطا، المرفوضة سلفاً شعبياً وحكومياً وثقافياً وتعليمياً، بحيث يختلط الأمر عند الدفاع عن وحدة العراق، هذا إذا تناسينا ما أوصلته إليه سياسات الجهالة من انقسامات أفقية وعمودية. إنقسامات لا يمكن لمجتمع أن يقوم بوجودها، فما بالنا بصيغة دولتية توحد الجميع تحت راية المساواة. فإذا لم يكن العراق نفسه واحداً بالمعنى المجتمعي، أو الدولتي، إلا بما اصطلح عليه الخارج، فما القيمة بالنسبة له إذا انفصلت كردستان أم بقيت؟
إنه ذات المشروع الفاشل الذي أخذ فرصة أكثر من سبعين عاماً ولم يستطع أن يقوم بعملية أولية هي الاندماج بين مكوناته الفولكلورية، الاندماج كمفهوم وكقيمة حضارية لا تقف في طريقها لغة أو دين أو أنصاف تاريخ. واليوم عن ماذا تنفصل كردستان مجتمعياً؟ عن السنة العرب أم عن الشيعة العرب؟ وهل تأسس مجتمع مبني على المعرفة المعاصرة أساساً ورفضه الكرد؟ لا أحد يعتقد أن للعراق أو غيره من “فتافيت” سايكس ـ بيكو مشروعاً مجتمعياً بالمعنى المعرفي للكلمة.
والمشروع الفاشل هو مشروع من يعاند الحقائق المعرفية المجربة والمتداولة ويرفضها لأي سبب كان، وعليه احتمال نتائج رفضه. فالحياة على الكرة الأرضية هي ابنة ممارسة المعارف ونتائجها، والكرد كما غيرهم لم يكن ليصلوا إلى هنا لولا رفضهم للمشروع الفاشل. فالتخلف وكوارثه خيار، والتقدم ومستحقاته خيار أيضاً (طبعا هذا لا يعني أن الكرد سوف ينجحون في العبور إلى المعاصرة المعرفية). وخيار الكرد كان الانفصال عن هذه الكارثة المعرفية، إذ أنه ليس من المنطقي اختيار مرافقة التخلف إلى مصيره بعد هذه الكمية من الكوارث.
على هامش هذه الأسئلة كلها، يمكننا التساؤل أيضاً لماذا كردستان ضرورية لـ”العراق” الحالي؟ إذا كان “العراقيون” أنفسهم ليسوا ضروريين لبعضهم ولا يستطيعون أن يتسالموا، أو يأتمنوا بعضهم على المصالح أو حتى على حيواتهم، فأية فائدة من وجود كردستان داخل “الدولة” العراقية أو خارجها؟ مع العلم أن لا تجربة وحدوية واحدة قاربت مناطق سايكس ـ بيكو وسيفر لحد الآن. فلماذا وحدة العراق أصبحت ضرورة في الميديا “فائقة الذكاء والاستراتيجية” اليوم؟ ليبدو الانفصال نتيجة منطقية كهروب من جحيم لا يريدون مشاركته مجرياته. فالميديا التي سوقت للمشاريع المؤذية، لا تستطيع اليوم وقف نمو ما زرعت.
الحق مجتمعي بالضرورة، حيث تتم مقايسته نسبةً إلى المصالح. وهو أمر معدوم ومفقود في المشاريع الفاشلة. ولا يعني أن تقادم الزمن على حضور هذه المشاريع يصنع منها صواباً بحكم الأمر الواقع، فالأخطاء تتحول عادة إلى خطايا قاتلة كلما استمرت في الزمن. ولا يعني شيئاً إرغام الناس على الامتثال للمعرفة الجهالية، إلا إدخالهم في مشاريع تقوض إرادتهم المراعية لمصالحهم، أي هزيمتهم تحديداً، وعند هذا الحد ينفض الاجتماع البشري إلى ما هو أبأس منه وهو على هذه الحال الآن.
الأهم من هذا كله، ماذا عن اليوم التالي لاستقلال كردستان العراق؟ لا شيء! كيان سوف يعيش مثله مثل كل كيانات المنطقة، ولسوف يجد الكثير من الأزمات التي سوف يتفرغ لإدارتها كدلالة قطعية على وجوده ريثما تقبل به الأمم المتحدة.