احتفالية توفيق الباشا في ذكراه الـ15 – مؤسسة سعاده للثقافة
Share
أقام برنامج “مشاعل النهضة” في مؤسسة سعاده للثقافة بمناسبة مرور خمسة عشر عاما على رحيل الموسيقار توفيق الباشا احتفالية لتكريمه استمرت مدة عشرة ايام من 16 وحتى 25 كانون الاول 2020.
تضمن برنامج التكريم اضاءة يومية على ابداعاته وشهادات عنه عرضت على جميع وسائل التواصل الاجتماعي. كما قدم الفنان العراقي المرواتي الدكتور عمار احمد الحونة مهداة لروح الفنان العظيم توفيق الباشا. هذا اضافة لندوة اقيمت بتاريخ 19 كانون الاول عبر تطبيق زوم شارك فيها العديد من القوميين والمواطنين من مختلف انحاء العالم.
افتتح البرنامج بفيديو عرض لبعض اعمال المكرم ثم القت الدكتورة ضياء حسان رئيسة المؤسسة كلمة جاء فيها: في الذكرى الخامسة عشر لوفاته، تتشرف مؤسسة سعاده بتكريم هذه القامة الموسيقية الكبيرة فهو القائل بانه انطلق من قول الزعيم “إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ”، وسماها الحكمة التي نطق بها سعاده منذ عشرات السنين فيقول “أنها فعلت بوجداني الموسيقي فعلها، وجعلتني اتجه نحو ان اقدم في الموسيقى شيئاً يكون به للموسيقى اثراً هاماً في أمتي”. وقد لبى نداء سعاده الذي قال” انه ليس لنا موسيقى تعد نتاج نفسيتنا، نحن السوريين، من حيث أننا قوم لنا مزايا خاصة بنا “. يقول توفيق الباشا “هكذا كانت المدرسة القومية التي وضع سعاده نهجها الفكري والتطبيقي الهادي لكل ما كنت اطمح اليه والخصه بالوصول الى موسيقى قومية راقية، تعبر عن الوجه الحضاري المميز لأمتنا ويكون لها بين الموسيقات القومية في العالم مركزاً يضاهي وجودها الحضاري…”
ثم تلى الامين احمد اصفهاني كلمة عرف فيها برنامج مشاعل النهضة في مؤسسة سعاده للثقافة، جاء فيها: على مدى عقود، نشأ في ظلال الحركة القومية مبدعون كثر، بعضهم في كنف سعاده وآخرون تحت جناح الفكر القومي الاجتماعي. أسماء برزت في كل مجالات الابداع. وبرنامج مشاعل النهضة الذي تعمل عليه “مؤسسة سعاده للثقافة” هو للإحتفاء بهؤلاء المبدعين، على مختلف مشاربهم. إنه برنامج يطمح إلى استعادة تراث النهضة القومية الاجتماعية المتمثل بعطاءات مثقفين أغنوا مسيرتنا النهضوية منذ التأسيس، وشكلوا علامات فارقة في الثقافة القومية عموماً.
لن تكون الاستعادة لمجرد تكريم المبدعين فقط، وهم يستحقونه عن جدارة. ولا نريد استعراض إنجازاتنا بأسلوب متحفي جامد يدغدغ نوستالجيا الذاكرة. بل المقصود هو إبراز الخطوط العامة للفكر النهضوي وفعله وإسهاماته في عملية التغيير والبناء. وبذلك نعيد وصله بالحاضر كي يكون جسراً إلى المستقبل.
واضاف: النهضة، كما قال سعاده، أتت تحرق وتضيء. تحرق من أتى بها… وتضيء لأمة ظنها أعداؤها منقرضة. وعلى مدى عقود أعطت هذه النهضة المئات من المبدعين في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والعلمية والفنية. وهؤلاء هم منارات الأمة، والمشاعل التي كانت تحترق بصمت لتضئ دروب الوعي والتقدم. ومن حق المبدعين القوميين الاجتماعيين علينا وعلى الأمة أن نحتفل بإنجازاتهم، وأن يكون تكريمنا لهم كلمة تقدير وشكر.
ثم تحدث المايسترو اندريه الحاج، قائد أوركسترا الفرقة السمفونية اللبنانية الشرق عربية، فاضاء بكلمته على
ابداع توفيق الباشا بالفن الموسيقي، ذكر فيها: الفنان توفيق الباشا حمل الهم الموسيقي التأليفي. اهتم بالموشحات وكان يهمه كثيراً في التقطيع الموسيقي ان يمزج النفس الشرقي والنفس الغربي. كان يملك ذاكرة موسيقية ويهتم بأدق التفاصيل المتعلقة بالمعزوفة والفرقة والموسيقيين. زارنا في الكونسرفاتوار الوطني وكان بهيبته متفهماً وحنوناً مع تلامذة وأساتذة المعهد. عزفت مقطوعته ” دبكة الفرسان” مع الفرقة في أوبرا القاهرة وشعرت مع الحضور وكأن قطعة من لبنان حلت في المكان وان الموسيقى رحلتنا الى دنيا الحق والخير والجمال. توفيق الباشا فنان أصيل ومثقف ومتعمق ولديه التزام حضاري عميق وتصميم ومثابرة لابتداع الجديد.
ثم القى الكاتب والناشر سليمان بختي كلمة جاء فيها: توفيق الباشا، علم من اعلام الموسيقى في لبنان والعالم العربي. ورائد من رواد نهضة التأليف الموسيقي في بلادنا. وهو أحد نجوم الاذاعة اللبنانية وحارس هيكلها الأمين لعقود. هو مؤلف السمفونيات الموسيقية والمجدد الكبير والمايسترو الذي كلما صعد الى المسرح وقع شيء من السحر في المكان وانسحر الجمهور… بتأثير من خاله خليل مكنية (الموسيقي والرسام) تشجع لارتياد طريق المجد الصعب. وبتأثير من خاله أيضاً انتمى باكراً الى صفوف النهضة القومية الاجتماعية…
كان توفيق الباشا واحدا من عصبة الخمسة في بداية الخمسينات وهم : عاصي ومنصور الرحباني وزكي ناصيف وتوفيق سكر. وهذا اللقب اطلق عليهم بعد خوضهم المعارك ضد التقليديين وكانت الغلبة لهم أي التجديديين… كان في مهرجانات بعلبك الدولية مع زكي ناصيف ونزار ميقاتي في فرقة الأنوار اللبنانية التي جابت العواصم والأقطار ترفع من شأن الفن اللبناني…
عام 1953 تسلم مسؤولية الانتاج الموسيقي في اذاعة الشرق الادنى حتى توقفها في العام 1956. عاد توفيق الى بيروت والتحق بالاذاعة اللبنانية وتسلم فيها الدائرة الموسيقية وبقى في موقعه قرابة ربع قرن مع انجازات التجهيز والتنظيم ورفع مستوى معاييره في لبنان. واستطاع تكوين أكبر فرقة موسيقية في الاذاعات العربية.
أولى توفيق الباشا الموشحات الغنائية اهتماماً بالغاً : يقول ” تنبهت وأنا أدرس الموسيقى الكلاسيكية الى الموشحات وآفاقها الرحبة فأشتغلت عليها ورحت أنقلها من التخت الشرقي الى الاوركسترا الواسعة.
ولكن ما الحافز الوطني والقومي والحضاري الذي دفعه الى الاهتمام بالموشحات والتراث؟ أسمعه يقول : اليهود أخذوا الفنون والعادات والفولكلور الموسيقي مدّعين بأنه تراثهم. كنت في استوكهولم لحضور مؤتمر موسيقي أدرت المذياع فاذا بي اسمع أغنية ” آه يا زين ” بالعبرية. كان أول ما فعلته حين عدت الى بيروت أنني أعدت توزيع وتسجيل كل الموشحات الاندلسية والأغاني الشعبية التراثية. وهذا ما دفع زكي ناصيف الى القول عنه “هو سيد الموشحات على الاطلاق”.
تفرغ توفيق الباشا لتلحين أكثر من 3000 قصيدة من تراث الادب العربي توزعت في برامج اذاعية وتلفزيونية. ولحن لشعراء كبار كما وغنى من الحانه مطربات نذكر منهن: نور الهدى وسعاد محمد وفايزة أحمد ونازك ووداد ونجاح سلام وسلوى القطريب وفدوى عبيد وسميرة توفيق… ومن المطربين: وديع الصافي ونصري شمس الدين وجوزيف عازار وايلي شويري وسمير يزبك وجوزف ناصيف وفهد بلان…
اشتغل توفيق الباشا على الأعمال السمفونية وترك العديد من المؤلفات منها : وقفة عز (موت بطل)، سمفونية بيروت، سمفونية “السلام”، وسمفونية” قدموس وأوروبا” وغيرها الكثير…
حائز ميدالية باريس (1961) وميدالية الاستحقاق اللبناني (1975) ووسام العلوم والفنون من مصر (1975) ووسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس 1997 والجائزة التقديرية من معهد الموسيقى العربية في مصر 2003…
بعد 15 عاماً على وفاته، لم يطلق اسمه على استديو في الاذاعة ولا على قاعة في الكونسرفاتوار ولا على شارع في المدينة التي اعطته واعطاها. وما همه على حد منصور الرحباني فقد سكن الماضي والآتي وصار في تاريخنا قمراً للحكايات والسهر.
كما شارك نجله العازف العالمي عبد الرحمن الباشا بكلمة جاء فيها: في هذه المناسبة التكريمية لوالدي توفيق الباشا، رحمه الله، اود ان احيي واشكر مؤسسة سعاده للثقافة على تنظيم هذا التكريم وتحية لكل شخص صديق عرف والدي وحضر بمحبة ووفاء للمشاركة بهذه المناسبة.
توفيق الباشا هو ابن بيروت بكرمه وبطباعه الشبيهة بمناخ البحر المتوسط في تناقض احواله ما بين النور والحرارة الى غيوم يصحبها الرعد والبرق احيانا. في شخصيته حيوية فريدة كان طوال سنين حياته يحلم بعالم افضل ويعمل على تحقيقه ام في علاقاته الانسانية ام في ابداعاته الفنية. فكر حر ورافض لاي تزمت او امتثال لقيود. كان له اسلوبه الخاص في العمل الموسيقي من حيث تعلقه بالموسيقى التراثية العريقة الخاصة بالفن العربي الكلاسيكي فتأتي موسيقاه حديثة ومفعمة بالحياة وبالوان زاهية بالايقاعات والانغام.
وعن علاقته بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، كان اكثر ما يستهويه المؤلفات العظيمة لبتهوفن وشوبرت وتشايكوفسكي وبرودين وكورساكوف. كان ايضا واسع الثقافة والاطلاع على مختلف المؤلفات الادبية والشعرية والفلسفية العربية والعالمية وعلى كتب بعض المؤرخين.
من علاقتي بابي أذكر كيف كان يحترم خياراتي والموسيقية منها خاصة، بالرغم من الوقارفي سلطته الابوية. لم يكن الامتداح من طبعه مما يجعل لثنائه المدروس بدقة قيمة الجائزة الكبرى.
ها قد مضى خمسة عشر عاماعلى غيابه وما زلت احس بحسنات تربيته لي، من تحمل المسؤوليات وانفتاح الفكر والجدية في العمل والكرم في كل المجالات الحياتية.
أبي توفيق… رحمك الله… شكرا.
وقد شارك الاستاذ الكاتب محمد كريًم، صديق عمره، بكلمة بعنوان “المبحر عكس التيار” القاها عنه الاستاذ بختي بسبب مرضه، نذكر منها: منذ بداياته، غامر توفيق الباشا وتصدى وتحدى. وأي مغامرة أشق على المرء من أن يدخل الحياة الفنية في بيروت يوم كانت الفنون من المحرمات على أبناء البيوتات المحافظة. فالسائر على هذا الدرب كان كالسائر على الجمر، تتناوله الألسنة بالنقد، والمجتمع بالرفض، وتتبرأ منه العائلة. ومع ذلك تصدى وتحدى واقتحم الميدان، ليس له من نصير سوى خاله خليل مكنية الذي كان قطع شوطاً في السير على هذا الطريق، والذي كان بحق الأب الروحي له، والمرشد والموجه.
وفي الوقت الذي كان فيه التلحين الغنائي هو الطريق الأسهل للكسب المادي والأسرع الى الشهرة، فضّل هو أن يعمل من أجل الموسيقى العربية او الشرق عربية كما يفضل ان يسميها. يريد في نظرة استشرافية ان يطورها ويرتقي بها، أن يُدخل عليها قوالب جديدة لم تعهدها من قبل لتتماشى مع العصر والعصور المقبلة، يريد لها، السمو نحو العالمية مع احتفاظها بروحها الشرقية ونكهتها العربية.
في اعتقادي أن توفيق الباشا، بما جُبل عليه من عُلُوّ في الهمة وصلابة في العزيمة وإيمان بالنفس وبما اختزنه من موهبة وعلم، لم يكن ليقنع بما دون النجوم، فقد وضع نصب عينيه التعبير عن القضايا الوطنية الكبرى، والأعمال الايمانية العميقة وقضايا الانسان وحقه في العيش بكرامة وحرية، وهذه المشاعر الجليلة لا يمكن التعبير عنها، برأيه، إلا بالفن الكبير.
ثم انتقل للحديث عن مرحلة توفيق الباشا في الاذاعة وهي مرحلة لم تسلط عليها الاضواء على أهميتها كما تستحق وهي مرحلة تأسيسية حافلة بالانجازات على جميع الصعد، فذكر: في العام 1960 تسلم توفيق الباشا دائرة الموسيقى بقسميها، الشرقي والغربي. وجاءته الفرصة لتأسيس نهضة موسيقية فعلية، لكنه اصطدم بالعقلية الادارية الروتينية التعطيلية التي تقف بالمرصاد لوأد أي حركة تطوير متعللة تارة بالقوانين الوضعية وطوراً بالروتين الاداري وغير ذلك. واصطدم بعقلية الشفاعات والوساطات وبمبدأ الاسترزاق فنحن في بلد التسويات، حتى لا يزعل الزعيم الفلاني والنائب العلاني.
ما المشكلة اذا دخل الاذاعة احد محاسيب “البك” ليلحن ويغني او بمعنى آخر ليتكسب ويسترزق. (انه حلاق الزعيم فلان وهو مشهور في ضيعته بالعزف على العود ويحي فيها الافراح والليالي الملاح، فلماذا تقف في وجه طموحه وتحارب اهل ضيعته؟!) هكذا كانت تسير الأمور في الماضي حتى ليكاد يكون لكل وزير او نائب كوته ولكل منطقة كوتا ولكل مطرب كوتا بغض النظر عن الموهبة والكفاءة والمستوى المعرفي. وابتسم فانت في لبنان. الا ان توفيق الباشا لم يكن يعرف الابتسام في هذه الأمور، يبتسم فقط عند تقديم الأجمل والأكمل. كان صارماً وحازماً ومشاكساً ومكشراً عن أنيابه في بعض الأحيان من أجل رفع مستوى الفن الموسيقي في لبنان، الأمر الذي سبب له الكثير من المشاكسات والمعاكسات من داخل الاذاعة ومن خارجها. لكنه وقف في وجهها جميعا وانتصر في معظم الأحيان.
وأخيراً لا آخراً أود أن أنهي مداخلتي بتقويم من الناقد الراحل نزار مروة الذي قال : ” إن موسيقى توفيق الباشا تتسم بالتعقل والحكمة، وأعتقد أننا أمام فنان أدرك أن دوره يتجاوز الانصياع لرغبات الجمهور وميوله واختار الطريق الصعب المثير للجدل”.
اختتم برنامج التكريم بفيلم وثائقي عن الموسيقار من اعداد المخرجة فرح وجدي شيًا التي قدمته وشرحت كيفية اعداده.