ابقَ مسودةً أيها الحزن!
Share
أجّلتُ هذا النصَّ طويلاً..
قلتُ له: ابقَ مسودةً أيها الحزن! لا أريدُ أن تخرجَ للضوء.
ستكونُ بهيّاً. كأنّ ترابكَ لم يجفْ. رغم مرور تسع سنوات، على آخر فنجان قهوة ارتشفناه معاً، لكن “ركوة” القضية مازالت ساخنةً حتى اليوم. هل تذكرتَ ميشيل الديك، حتى بدأت بتمزيق الجرح كي تخرج الآن؟.
لقد تهربتُ كثيراً، من الرفيقة عبلة خوري، قبل أن يداهمني وجهكَ ويقول لي: اكتبْ!.
ولطالما تهربتُ من مواجهتكَ، مثلما فعلتُ مع جورج قيصر، وعصام محايري، وفايز خضور، وقبلها مع وسيم زين الدين وحبيب كيروز..
فهل اتفقتم جميعاً على القيامة اليوم؟
لقد فتحوا مكتبكَ، وأخذوا جميع الأوراق وأقلام “البيك” ومسوّدات مذكراتك. قالوا إن مصلحة الأمة تقتضي ذلك، ثم خرجوا.
وبالفعل، الأمة اليوم على خير ما يرام. فالحزب صار خمسة، والأمة صارت عشرات. فلماذا غبتَ مبكراً، ولم تنتظر حتى تشهد هذه اللحظة التاريخية؟.
في الحقيقة، لا أعرف كيف أشكركَ على تخصيصي بجزء من الميراث في وصيتك!. فالأمانة مازالت في الحفظ والصون، بجانب نظارات فايز خضور التي ورثتُها هي الأخرى، وأنا أرتديها الآن بينما أكتب إليك!.
هم أخذوا السجلات والأموال والأوراق الشخصية. وأنا حصلتُ على فنجان قهوتكَ الأزرق، مع منفضة السجائر، وما تبقّى من باكيت الحمراء الطويلة!. هي كامل حصتي المذكورة في الوصية. تُرى، هل ستجعلني هذه الأشياء أشبهكَ، مثلما انتقلت إلي نظرة فايز خضور، بعدما لبستُ نظارته عندما مات؟.
إنني أمزح يا رفيقي. لقد ضممتُ راغدا وكريستا بقوة، وشرعنا ننتحبُ مثل أطفال صغار. كانت الفداحةُ أقوى منا، يا سهيل.
فاشلٌ أنا في نصوص الرثاء. فلا تبتسم، وأنا أنبشُ تفاصيلَ موتكَ، التي لم أدفنها أصلاً، طيلة سنواتٍ، سكنتُ فيها في مكتب الجريدة، عندما شرّدتنا الحرب. فهل كنا مجانين فعلاً، ونحن نناقش المدرحية، بينما كل ثروتنا عبارة عن مجموعة من الأقلام وبعض الأوراق السّمر؟
أعرف أنكَ تتناول الآن كتاب كمال خير بك، “مظاهرات صاخبة للجنون”، الموجود وراءك على الرفّ. وأعرفُ الصفحة التي ستفتح عليها. فهذه الأمة تحتاج جنوناً سعاديّاً جبرانياً، كي تحيا، كما كنت تقول.
بالمناسبة، الممحاة البيضاء، والخرّازة الصغيرة، وقطّاعة اللزيق اللاصق، مازالوا يزينون مكتبتي المتواضعة، بجانب شكّالة المفاتيح القديمة، ومجموعة كتبكَ في الفكر القومي الاجتماعي. فلماذا ورّثتني كل هذا الحزن ورحلت؟
لقد برد فنجان قهوتك الأزرق! وسُحبُ دخان الحمراء الطويلة، غطت المكتب.. الرفيقة أم حسام تمسح صورة الزعيم التي تتصدر الصالون. وخصلٌ صغيرة من ضوء الشمس، تتسلل من شباك الحديقة.. فمن أزاح هذا المشهد بمنتهى القسوة؟
كأنّ عطباً هائلاً ألمَّ بالأمة.. يا سهيل!.
“لمناسبة تكريم الأمين سهيل رستم، من قبل مؤسسة سعاده”