أوروبا بعد خروج انكلترا
Share
أبناء ست… وأبناء جارية
طبعاً لم تكن واشنطن مرتاحة إلى هذا التشدد الفرنسي ـ الألماني. وقد عبّر وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد عن امتعاض بلاده بعبارات حملت دلالات خطيرة جداً آنذاك، لكن أبعادها الاستراتيجية الفعلية لم تتضح إلا بعد سنوات عدة على الغزو. قال رامسفيلد بتاريخ 22 كانون الثاني سنة 2003 في حوار خاص مع صحافي هولندي حول تقييمه للموقف الفرنسي ـ الألماني: “أنت تفكر في أوروبا بوصفها ألمانيا وفرنسا. أنا لا أفكر بهذه الطريقة. أنا أعتقد أنها أوروبا القديمة. إذا ما نظرت إلى كامل أوروبا الأطلسية اليوم، فإن مركز الجاذبية سيتحول نحو الشرق حيث يوجد أعضاء جدد كثيرون
عبارة “أوروبا القديمة” كانت تعني أن هناك “أوروبا جديدة” تقوم من بين أنقاض المعسكر الاشتراكي الذي تشظى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وإلى هذا المجال الجغرافي الاستراتيجي، وجّهت الولايات المتحدة أنظارها من خلال الناتو لاستيعاب أكبر عدد من دول المعسكر الاشتراكي السابق. ففي العام 2004 وحده، انضمت إلى الأطلسي كل من بلغاريا وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، وكانت سبقتها في العام 1999 تشيكيا وهنغاريا وبولندا، ولحقتها في العام 2009 ألبانيا وكرواتيا. وخلال الأشهر المقبلة ستنجز دولة الجبل الأسود (مونتينغرو) شروط العضوية… وربما جورجيا وأوكرانيا لاحقاً!
ولم يقف الاتحاد الأوروبي متفرجاً، بل وجدناه يرافق التوسع الأطلسي ذا الطابع العسكري الأمني بإجراءات مماثلة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فضم إلى عضويته في العام 2004 كلاً من تشيكيا وأستونيا وهنغاريا ولاتفيا وليتوانيا ومالطا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا، ثم في العام 2007 بلغاريا ورومانيا، وأخيراً كرواتيا في العام 2013. ونلاحظ من لائحتي الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ومن التواريخ المذكورة أعلاه، دلالة التنسيق بين الطرفين في ما يتعلق بالقرار الاستراتيجي بالتمدد شرقاً وتطويق روسيا من البلطيق شمالاً إلى البلقان جنوباً.
هناك أبعاد عديدة للتمدد الأطلسي الأوروبي داخل “أوروبا الجديدة”، أهمها منع عودة هذه الدول إلى الحضن الروسي مستقبلاً، بل وتحويلها إلى قاعدة مواجهة على تخوم الحدود الروسية. يضاف إلى ذلك العامل الاقتصادي من حيث حجم الأسواق الاستهلاكية الجديدة، ورخص اليد العاملة، وتخلف الانتاج في غالبية الدول الجديدة مقارنة بالتطور الهائل الذي وصلت إليه “أوروبا القديمة”. لكن مقابل كل هذه التسهيلات، كان على الأعضاء الأساسيين في الاتحاد أمثال ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أن تخصص مبالغ ضخمة لتحقيق التنمية في أوروبا الشرقية بهدف نقلها تدريجياً إلى مستوى التقدم الذي بلغته دول شمال وغرب أوروبا.
غير أن حسابات المخططين الاستراتيجيين في الاتحاد لم تتطابق مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي سيطر على أوروبا ابتداء من منتصف العقد الماضي، وتحديداً بعد الأزمة الاقتصادية العالمية العام 2008. وهكذا أطلت النزعات الشعبوية والعنصرية من جديد متأثرة بعاملي الركود الاقتصادي من جهة، والهجرات الأوروبية الداخلية من جهة أخرى. وسرعان ما تبيّن أن أوروبا التي تمكنت على مدى عقود من ترويض الاتجاهات العنصرية عند قطاعات اجتماعية معينة، لم تستطع بالفعل كبحها نهائياً. وهذا ما انعكس على البنى السياسية والاجتماعية في غالبية دول الاتحاد.
كان قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي بمثابة صخرة ضخمة ألقيت في المستنقع الاتحادي الراكد، ما خلق ترددات خطيرة جداً على مؤسسات الاتحاد وعلى مستقبله أيضاً. وبغض النظر عن نتائج ما ستسفر عنه المفاوضات البريطانية ـ الاتحادية، فإنه من الصعب تصور أن هذا الاتحاد يمكن ان يستمر في تركيبته وسياساته الداخلية الحالية. فإلى جانب تعقيدات الخروج البريطاني، يجد الاتحاد نفسه أمام معضلات أكثر إلحاحاً وخطراً، أبرزها الأزمات المالية لبعض الدول الأعضاء، مشكلة اللاجئين، ظاهرة الإرهاب، صعود أحزاب اليمين الشعبوي والعنصري، وغيرها (التحديات الخارجية سنخصص لها مقالاً لاحقاً).
نحن نعتقد أن خروج بريطانيا سيعزز التماسك الداخلي للاتحاد، مع أخذ فرصة لالتقاط الأنفاس من دون أعضاء جدد. وسيكون هناك تخفف من تحمل أعباء تحقيق التنمية المتسارعة في “الشرق المتخلف”، والقبول بمسارين متوازيين كل واحد منهما يتقدم حسب قدرته وظروفه. هذا يعني أن المركزية الأوروبية الصارمة ستخفف من قبضتها الحديدية، وتترك لكل دولة مجال التحرك المستقل لكن تحت سقف البيت الواحد. وكما في كل البيوت، هناك من يملك القرار وهناك من يلتزم بالقرار… إلى أن يأتي وقت يتمرد فيه أحدهم على رب البيت، كما فعلت بريطانيا أخيراً!
أحمد أصفهاني