“أكاديمية الضحك”… المسرح يُذيبُ صرامةَ “العَسس”
Share
تخيلوا عنترة العبسي ماسكاً موبايله الآيفون ليكتب قصيدة غزل لحبيبته عبلة التي تركت مضارب القبيلة وتركته هو وخيامه وناقاته المئة، وذهبت لتعيش في فندق خمس نجوم وسط العاصمة… أو تخيلوا “هاملت” بكل غضبه وجنونِ فكرةِ الثأر لمقتل والده، انتقل بضربةِ ساحر ليحلّ محلّ “روميو” ومكابداته وغرامياته المرحة مع جولييت عند شرفتها وتحت ضوء القمر الورديّ، ثم فجأة وقبل أن يهمّ بطبع قبلة الحب العذب على شفتيها، يطلع لهما الشرطي “أبو صقر” “مِن غامِض علمه” وهو يلاحق لصًّا… فيُفسد عليهما عذوبة اللحظة.
بهذه الفكرة الغرائبية الأخيرة وضمن هذا الجو من الطرافة المضحكة يضعنا (المخرج الدكتور سمير عثمان الباش) في مسرحية “أكاديمية الضحك” التي قام بنقلها وتبييئها عن الياباني كوكي ميتاني (بالتعاون مع مؤسسة اتجاهات ثقافة مستقلة.)
ما إن يَقعُ مخطوطُ الكاتب المسرحي (أدّاه كرم حنّون) في يد مراقب النصوص المتجهّم (الممثل لجين إسماعيل) حتى تبدأ عذاباتُ الكاتب ومحاولاتُه ومراوغاتُه ليقنع المراقب بمنح موافقته على عرض المسرحية.
لكن المراقب الصلب المحمّل بمسبقات أيديولوجية والمتشبّث بقناعات سياسية سائدة يُصرّ على أن يقوم الكاتب بإجراء تعديلات على عنوان نصِّه الكوميدي البِلا طعمة هذا والمسمّى “جوليو ورومييت”، مرة بحجة أنه اقتبسه من كاتب أجنبي دون الحصول على موافقته، ومرة بحجة أن “المرحلة الراهنة” تحتاج نصوصاً بعيدة عن إضحاك الناس، بل تزيدهم حماسًا وصمودًا وتمسّكًا بفكرة الإقدام والصبر والشجاعة!
وهكذا نقعُ في مفارقات تشبِكُنا فيها المسرحية عبر هذا التجاذب والتنافر، بين موقف المراقب العنيد ومحاولات الكاتب المستعطِفة، إذ كلما طلب الأول أن يتم تعديل النص ليتلاءم مع “متطلبات المرحلة الحرجة” و”أوامر مَن هُمْ فوق” بالابتعاد عن أي مشهد قُبلٍ بين العاشقين، وإضافة شيء من “الحماسة الوطنية” ضمن مشاهد المسرحية أو بإضافة شخصية الشرطي “أبو صقر” إلى مشهد غزليّات روميو وجولييت “بناءً على طلبٍ خاص من قائد شرطة المدينة الذي كان في ضيافة مراقب النصوص ليلة البارحة”… يمتثلُ الكاتب/الدراماتورج لطلبه، فتصبح التعديلات التي يُدخِلها كمن يضيف بهارات السياسة مع فلفل الشِّعارات وفانيليا الضحك إلى الطبخة ذاتها.
يقول المراقب: “فلتُضِفْ جملة (يحيا… يحيا…عاش الوطن) فالناس بحاجة إلى جمل تنعش فيها روح التضحية”… فيسارع الكاتب خوفًا من ختم المنع إلى تعديل المشهد، وإذ نحن أمام خلطة غرائبية تصبح فيها كلمة “يحيا” هي “يحيى” سائسُ خيل “روميو” وهو يبلغه بأن حصانه المريض المسمّى “وطن”… قد “عاشَ…عاشَ يا سيدي”!
دُرّةُ المسرحية وجوهرتُها الشعشاعة كانت في أداء الممثلين، وتحديدًا في البراعة الكوميدية المذهلة التي قدّم فيها الفنان “لجين إسماعيل” دورَ المراقب، إذ إنه على مدار ساعتين من الزمن تمكّن من إقناعنا بأن ما نشاهده هو فعلاً مراقبُ نصوص تكاد تكون الطاولة والكرسي والخزائن أكثر ليونةً من ملامح وجهه، وأنه يُخبّئ تحت زيّه الرسمي وربطة عنقه “موظفًا فاسدًا” يقبل الرشاوي (الفطائر الساخنة والبيت الخشبي للغراب ومجموعة طيور الحسّون) التي يجلبها له الكاتب على أنها مجرد “هدايا” لا أكثر! فيما لم يقلّ أداء الشاب “كرم حنون” خرّيج “مدرسة الفن المسرحي” في جماله وتمكّنه من تجسيد شخصية الكاتب المرتبك الخائف الأرعن اللجوج، فأصبحنا كما لو أننا أمامَ “ضَدّان كلما استُجمِعَا حَسُنا/ والضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضدُّ”!
لكن هذه “الفانتازيا الواقعية” تتصاعد مشهدًا مشهدًا، ليتورّط فيها المراقبُ نفسه، وتجذبه اللعبةُ المسرحية فتجعله ينسى صرامته وتجهّمه، بعد تشجيعٍ واستمالةٍ من الكاتب، ويدخل إليها مثل طفلٍ ملولٍ متردّد ليلعبَ مرّة دور الشرطي “أبو صقر” وهو يتقافز بشكل كاريكاتوري خلف اللصّ الوهميّ، ومرة دور الكاهن حين تأتيه جولييت لتأخذ منه سُمّاً أعدّه خصيصًا ليجعلها تنام… ليتكشّف هذا المشهد المُركّب والطريف كيفَ أن المراقب والكاهن يُخفيان تحتَ قناع الوقار والجديّة شخصين شَرهين للتحرّش بالإناث!
ثم بالاندماج بين واقع المراقب الجافّ، والغنى المدهش لعوالم المسرح وحكاياته، يأنَسُ المراقبُ بما قرأه، لدرجة أنّ تلك اللمسة السحرية لفكرة المسرح بحدّ ذاته أو ذاك الإغواءُ العجيبُ لـ “اللّعبة المسرحية” يؤنسِنُ “الرقيبَ” داخله، ويجعل البحرَ يَسكنُ في عينيه حين يشعر أنه لم يعد قادرًا على إيجاد أي ثغرة في نص الكاتب الذي استطاعَ -ببراعةٍ مذهلة- التفلّت من “مقصّ الرقابة”، وحلحلةَ وفكّ جميع العقد التعجيزية التي طرحها أمامه، وأنهما وصلا إلى نهاية “لعبة الكرّ والفرّ” بينهما حين يخبره الكاتب بأنه لم يعد هناك من داعٍ للمسرحية أصلاً فقد تمّ استدعاؤه لخدمة العلم!
لعل “أكاديمية الضحك” هذه هي نسخة مصغّرة لما نعيشه في يومياتنا “المضحكة من شدة عبثيّتها”، أو هي “ماكيتٌ مسرحيٌّ” يُرينا عِبرَ لمسة السُّخرية الخفيفة كيفَ يمكنُ أحياناً لمِقصّ “الرقيب/الشرطي” أن يحرمنا من حُرية القول والكلام وحتى الحبّ، لكنه بكل تأكيد لن يقتل فينا تلك الرغبة الإنسانية في أن نكتبَ ونكتبَ ونكتبَ آلامنا ولو على شكلِ كوميديا مسرحيّة أو كاريكاتورٍ لمّاحٍ أو نكتةٍ شعبيّةٍ تجعلنا نقلب على ظهرنا من شدّة الضحك.