أفغانستان… الصورة الأخرى
Share
قد يرى بعض القراء الأعزاء أنه من غير المناسب الإنشغال أو إضاعة الوقت في الكتابة عمّا يجري في أفغانستان حالياً، بينما بلادنا تترنح على حافة الهاوية الاجتماعية والسياسية في ظل الحصار الغربي (الأميركي ـ الأوروبي) المفروض على شعبنا في الكيانين اللبناني والشامي. لكن التطورات الأفغانية غير المتوقعة، التي سرّع عجلتها الرئيس الأميركي جو بايدن بقرار سحب القوات الأميركية (الأطلسية)، تعكس الصورة المقبلة للخطة الاستراتيجية الجديدة التي تقوم على تغيير في المعادلات الإقليمية، وعلى إعادة اصطفاف لمعسكريّ “الأعداء” و”الأصدقاء”!
وبعيداً عن الكلام المكرر والسطحي حول معادلات الانتصار والهزيمة لهذا الطرف أو ذاك، وما رافقه من ضجيج داخلي في الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي (ناتو)، فنحن نرى أن التفكير الاستراتيجي الغربي (الأميركي ـ الأوروبي) يتطلع إلى أبعد بكثير من مستقبل الحكم في كابول. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو التالي (ومعه عدد من التشعبات الناشئة عنه): ما موقع أفغانستان على خارطة المصالح الغربية؟ وهل يساهم الوجود العسكري الأطلسي هناك في تعزيز الدور الذي يطمح إليه الغرب على مستوى العالم؟ وإذا تصورنا وجود سلم أولويات للاستراتيجية الغربية، ففي أية درجة نضع المسألة الأفغانية؟
سنحاول الإجابة على هذا السؤال وتشعباته في سياق البحث. لكن علينا أولاً العودة إلى بداية النهاية عندما أدركت واشنطن أن الحرب الأطلسية في أفغانستان لن تستطيع تحقيق انتصار عسكري حاسم. كما تبيّن لها أنه من الصعوبة بمكان إنجاز شعار “بناء الدولة” الذي روّجت له العواصم الغربية منذ إسقاط حكم حركة “طالبان” وحليفتها منظمة “القاعدة” قبل حوالي عشرين سنة. وأمام هذا الواقع، تحوّل التفكير العملاني الغربي باتجاه الخروج من مستنقع الاستنزاف مع حفظ ماء الوجه، وفي الوقت نفسه صياغة نهج مختلف للتعامل مع “طالبان” بعد إمساكها بزمام السلطة في البلاد. فبدلاً من أن تكون تلك الحركة الإسلامية السلفية المتشددة “عدواً” للغرب، بالإمكان استعادتها “حليفاً نافعاً” مثلما كانت جماعات “المجاهدين” خلال فترة الحرب ضد الوجود السوفياتي في سبعينات القرن الماضي.
الخطوة العلنية الأولى في هذا التوجه ظهرت في 29 شباط سنة 2020 بالإعلان عن توقيع “اتفاق سلام” في الدوحة بين الولايات المتحدة الأميركية (في عهد دونالد ترامب) وحركة “طالبان”. واكتشف العالم حينها أن الحكومة الأفغانية آخر من يعلم… وحتى لو علمت فما كان بمقدورها فعل شيء. وتجدر الإشارة إلى أن التواصل الأميركي مع “طالبان” كان يتم في الكواليس القطرية والباكستانية من دون مشاركة كابول. وقد عكست بنود الاتفاق سياسة التجاهل ـ بل والاحتقار ـ في رؤية الإدارة الأميركية للسلطات الأفغانية التي يُفترض بأنها “صنيعة الأميركيين” في البلاد.
والحقيقة التي لمسها المراقبون بعد الإعلان عن الاتفاق هي أن المفاوض الأميركي سلّم أوراقه لـ”طالبان”. فقد نصّت البنود على مجموعة مسائل متوقعة، منها: وقف إطلاق النار (مع القوات الغربية لكن ليس مع الجيش الأفغاني)، تبادل الأسرى والسجناء، رفع العقوبات عن بعض قياديي “طالبان”، وبدء مفاوضات أفغانية ـ أفغانية… وغيرها. لكن أبرز نقطتين هما: انسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان في غضون أربعة عشر شهراً من تاريخ التوقيع، (أي في أيار 2021). وفي المقابل تعهدت “طالبان” بعدم السماح للمنظمات المصنفة إرهابية، مثل “القاعدة” و”داعش”، بأن تستقر في الأراضي الأفغانية وتحولها إلى ملاذات وقواعد لتهديد دول الجوار والدول الغربية على وجه التحديد.
فاجأ بايدن حلفاءه بقرارٍ يُحدد موعد إنجاز سحب كل القوات الأميركية (ومعها القوات الأطلسية) بحلول 11 أيلول 2021. وقد تم الانسحاب بالفعل عند منتصف تموز الماضي. وطيلة هذه الفترة، ركّز المسؤولون الأميركيون على موضوعين بهدف طمأنة الحكومة الأفغانية “الحليفة”: الأول يتمثل بالدعوة إلى بدء حوار سياسي بين الأطراف الأفغانية للوصول إلى حل وطني داخلي. والثاني يحمل تعهداً والتزاماً بأن واشنطن لن تترك أفغانستان لمصيرها المحتوم، بل ستقدم كل الدعم المطلوب للجيش والقوى الأمنية، بما في ذلك الغارات الجوية وعمليات الوحدات الخاصة لوقف تقدم “طالبان” وإجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات. إلا أن شيئاً لم يتحقق من تلك التعهدات والوعود. وواصلت “طالبان” زحفها الصاعق، بينما انفرط عقد الجيش الأفغاني الذي بناه الغربيون على مدى سنوات واستثمروا فيه مئات المليارات… وسقطت كابول بعد أن فرّ منها الرئيس والوزراء وكبار القيادات العسكرية والأمنية.
العرض الذي قدّمناه حتى هذه اللحظة يُشكل الفصل الأول من المشروع الغربي المستجد، ويمكن اعتباره الجانب الذي كشفته الأحداث علناً. لكننا نعتقد بأن السياسة الأميركية في ما يتعلق بالملف الأفغاني خلال السنتين الماضيتين تحمل رؤية استراتيجية أبعد بكثير من وضعية بلد عانى (ويعاني) من إشكالات تاريخية ظلّت عصية على الحل. ولكي نتفهم الصورة بكاملها، أقترح أخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:
1 ـ جغرافية أفغانستان تضعها على تماس مباشر أو غير مباشر مع: باكستان وإيران والصين وطاجكستان وتركمانستان والهند وروسيا وتركيا وأوزبكستان…
2 ـ “طالبان” حركة سلفية متشددة، لكنها تندرج في الإطار العام لجماعات “الإسلام السياسي”. وقد أثبتت الأحداث التاريخية وجود علاقات ملتبسة بين هذه الحركات والغرب الأميركي ـ الأوروبي، كانت تُسفر دائماً عن تبادل مصالح بين الطرفين حتى ولو وقع بعض الخلاف بينهما أحياناً.
3 ـ الغرب الأميركي ـ الأوروبي أنجز رسم خريطة المواجهة الاستراتيجية العالمية للعقدين المقبلين: الصين وروسيا. وكما نلاحظ في النقطة الأولى، فإن للصين حدوداً جغرافية مع أفغانستان، بينما تتأثر روسيا بالعوامل الأفغانية من خلال جمهورياتها الآسيوية السابقة.
كان من الطبيعي أن تستشرف موسكو وبكين المخططات المرسومة لأفغانستان، خصوصاً وأن لروسيا ـ في الحقبة السوفياتية ـ تجربة مريرة مع “المجاهدين الأفغان” الذين هم من رحم التوجه الإيديولوجي نفسه الذي أنجب “طالبان”. لذلك شاهدنا خلال السنوات القليلة الماضية فتح قنوات تواصل وتعاون بين الصين وروسيا وإيران، وإن بطريقة مستقلة، مع “طالبان”. حتى أن المسؤولين الأميركيين اتهموا أكثر من مرّة موسكو وطهران بتسليح وتمويل الحركة الأفغانية. ولم تنفِ القيادة الروسية هذه الاتهامات، بل أعلنت مرّات عدة عن استقبال وفود من “طالبان” لعقد مباحثات سياسية وأمنية.
أما وقد أحكمت “طالبان” سيطرتها على البلاد، وبدأت في ترتيب عملية انتقال السلطة إلى قياداتها العائدة من قطر، فهي تترك هامشاً كبيراً لكي تناور في صياغة علاقاتها السياسية إقليمياً وعالمياً. وقد أوضحت العواصم الغربية أن موقفها من السلطات الجديدة سيتحدد على ضوء الممارسات على الأرض. ومع أن بكين وموسكو وطهران (وإسلام آباد إلى حد ما) مطمئنة نسبياً إلى علاقاتها الحسنة مع “طالبان”، لكنها لن تنام على حرير الوعود والكلام المعسول كونها تدرك أن الغرب لن يُسلم أوراقه بمثل هذه السهولة!
على ضوء هذه النقاط، يمكننا القول أن هناك احتمالاً كبيراً بأن المتغيرات الأفغانية الأخيرة أمرٌ مخططٌ له سلفاً، وتدخل في حيز معادلات “الحرب الباردة” المندلعة بين الغرب الأميركي ـ الأوروبي من جهة والمحور الروسي ـ الصيني من جهة أخرى. وحتى لو سلمنا جدلاً بأن الحدث الأفغاني لم يكن نتاج تدخل خارجي منظم، فإن الصعود القوي لـ”طالبان” سيطلق منافسة شرسة بين المعسكرين… هذا إذا تجنبّت البلاد ويلات الحرب الأهلية التي تلوح تباشيرها يوماً بعد يوم.
نحن نتوقع أن يسعى الغرب جاهداً إلى نسج علاقة ما مع “طالبان”، إما مباشرة أو عن طريق وسطاء مثل قطر وباكستان… فمثل هذه العلاقة ستتيح له مجالات واسعة للتدخل في الشؤون الداخلية الصينية والروسية (والإيرانية أيضاً) من بوابة “الإسلام السياسي” الذي يثير مخاوف وحساسيات بكين وموسكو وطهران بشكل أو بآخر. ونحن نرى أن السيناريو الأفضل للمخطط الغربي في هذه المرحلة يتمثل في تأجيج الحرب الأهلية. وقد علمتنا التجارب المعاصرة أن تدخل الغرب في الشؤون الداخلية للدول، واللعب على التناقضات الدينية والعرقية، هما من الأسلحة الأكثر فعالية لخلق “الفوضى الخلاقة” في المجتمعات المستهدفة.