جرثومة الحمى الراشِحَة التاجيَّة (covid19) والنظام العالميِّ الجديد، ولبنان -د جورج يونان
“إنَّ المرفأ الحر…مستودعاتٌ للرسمال والإنتاج الأجنبي”(أنطون سعاده).
البجعة السوداء
كَثُرَ الحديثُ عمَّا سيكونُ عليهِ العالمُ بعدَ هذا الوباء الخبيث.
في كِتابِهِ “البجعة السوداء” (The Black Swan)، للأستاذ نسيم طالب، الكِتابُ الذي حاز على شهرةٍ واسعة في الأوساط الغربية، وبالأخَص الإقتصادية والمالية منها، من حيث توقعه للأزمة الدوليَّة البنكية، والمالية، التي حدثت عام 2008، يقول الكاتب إنَّ العالم ظَنَّ بأن كلَّ البجعِ لونَهُ أبيضٌ، ولم يتوقَّعْ وُجودَ بجعٍ أسودٍ إلى حين اكتِشاِفُ أُستراليا، حينَ ظَهَرَ فيها بجعٌ أسودٌ، وبناءً على هذا المفهوم سَمَّى كِتابَهُ “البجعة السوداء”.
ومفهوم البجعة السوداء، حسب طالب، يتميَّزُ بثلاث صفاتٍ وهي:
- عدم توقع ظهور الحَدَث.
- عدم التوقع بأنَّ لحدوثِهُ تأثيرٌ كبيرٌ على الوضع الراهن.
- بعد حلولِ الحدث، محاولة التظاهر، تَلَفُّقاً، بأنَّ حُدوثَهُ واقِعيٌّ أو أقلُّ عشوائيةً. (غلاف “البجعةِ السوداء”).
ما يقولَهُ نسيم طالب صحيحٌ بشكلٍ عام، وأعتقِدُ بأن تاريخ العالَمِ زاخرٌ بالأشياء غير المتوقعة، التي تَحَكَّمَتْ في مساره، وأعطت تكوينه الحالي. وأكبرُ دليلٍ على ما قالهُ طالب، هو هذا الوباءُ الذي اجتاحَ العالمَ كلَّهُ.
في مقالٍ لي في “الأخبار” 1 أيار 2020 أشرتُ فيه كيفَ أنَّ العالم وخصوصاً دولُ أوربا وأمريكا تَفاجأت وتلَبَكَت في مجابهة الوباء لأنها لم تَتَوَقّع حُدوثَهُ. فحينَ لا تتوقَّعُ الوباء، فأنت لستَ مستعداً لتلافي أخطارَ انتشارِهِ، وبالتالي لا تَتوَفَّرُ عندك وسائلُ وقايَتِهِ ومعالجتِهِ. في عُرفِ الأوساط المهتمة بالشأن الصحي، على كلِّ دولةٍ أن تكون مستعدَّةً لمجابهة أيَّةَ كارثةٍ أو وباءٍ قد يَعُمُّ البلاد أو العالمَ من آنٍ لآخر، والإستعدادُ يَتمُّ حين تتوَفَّرُ أربعةُ أشياءٍ: 1) بنىً تحتية لمجابهة أيِّ وباءٍ. 2) مخصصاتٌ لأبحاثٍ دائمة في الأمراض السارية. 3) لقاحُ مُعدٌ لهذا الغرض. 4) أدوية لمعالجة المرض الوبائيِّ، فبعضُ شرِكات المنتجة للأدوية تتوقَّفُ عن إنتاجِ دواءٍ ما، إذا كانت تسعيرتُه لا تُوُفِّرُ لها الربح الكافي.
هذه ليست المرَّة الأولى التي يُفاجأُ العالمُ بهكذا كارثة رغمَ التنبيهاتِ والتحذيراتِ عن احتمالِ وقوعها. ففي مقالٍ في المجلة الطبيَّة (The New England Journal of Medicine) ذكرٌ عن عالميِّ الجراثيم بارنيت مَكفارلين (Burnet Macfarlane) ودِفيدْ وايت (David White) بانَّهُما حَذَّرا من وباءٍ جرثوميٍّ منذ عام 1972، كما أنَّ بيل غيتس (Bill Gates)، في مقابلةٍ مع صحيفة الفيغارو (Le Figaro)، في 27 نيسان، وبناءً على مستشاريهِ المتخصِّصين في الأمرِ، صَرَّح بأنَّهُ حَذَّرَ، في مؤتمرٍ دولي عام 2015، من إحتمالِ انتشارِ وباءٍ في مدَّة قريبة. والمعنيون بتاريخ الطب يذكرون بأن عَوارِضَ وباء الجدري كانت معروفة منذ العام 1798، وانتظَرَ العالمُ 180 سنة لإيجادِ لقاحٍ له. ووباء السيفيليس ظلَّ سنين عديدة يفتُكُ بالناسِ إلى أن اكتُشِفَ عقارُ البِنيسيلين، وكذلك عن وباء الحمى الراشحة في فقدان المناعة الإنسانية (HIV= Human Immunodeficiency Virus) أو السيدا الذي انتظرَ العالم عشرات السنين حتّى تَمَّ احتِواءُهُ. والأمرُ كذلك مع وباء الحصبة، والكوليرا.
واليوم، مع وباء الحمى الراشحة التاجيَّة (Corvid 19)، بالإضافة إلى الأخطار الصحية من قصورٍ في التنفُّسِ، وفي القلبِ، وفي الكلى، وفي الشرايين والأوردة الدموية وغيرها، وبالإضافة إلى الأخطار الإجتماعيَّة من عوارضَ نفسية كالقلقِ، والأرقِ، والشعورُ بالوحدة، والإحباطِ، والعنفِ في الحوارِ الإجتماعيِّ، والعنفِ المنزليِّ، والإنتحار، بالإضافة إلى كلِّ هذا فإنَّ هناك أخطارٌ إقتصاديٌّة. فلم تَعُد دُوَلُ العالمُ تَكتَرِثُ لعددِ الوفيات فيها، بل أصبحت تكترِثُ أكثر لعددِ الأحياء منهم، الذين فقدوا وظائِفَهُم. فبالإضافة إلى الإيذاء المرضيِّ للوباء على الإنسان، فإنَّ لهُ إذاءٌ أكبر على المجتمع، والأثّر الكارثيُّ للوباء على الإقتصاد شديدٌ، وأوَّلُ من وَصًفَ أذاءَهَ على المجتمع هو الأديب الفرنسي ألبير كَمُوْ (Albert Camus) في روايتِهِ “الطاعون”(La Peste)، الذي تَصَوَّرَ مدينتهُ “وهران” مسرحاً لهذا الوباء، مُصَوِّراً كوارث الطاعون على المجتع بكلِّ فِئاته وحِرَفِهِ. إذ أنَّ “وهران” الجزائريَّة كانت مدينةً هادئةً، تَمُرُّ الأيامُ عليها بوتيرةٍ لا تتغيَّر، والناسُ فيها يعيشون تحت الروتين اليوميِّ، أحياناً بقناعة، وأخرى بضجرٍ، وبغيرِإدراكٍ لما قد يحملُهُ الزمن من مآسيه. في روايتِه، كان الناسُ في البداية يمُرُّون فيٍ مرحلة من عدم الإهتمام والإكتراث تجاه الوباء، يتبعُ ذلك مرحلةٌ القلق، ثمَّ مرحلةُ الإرتباك، وأخيراً مرحلة الخوفِ والذعرِ.
وَصْفُ كَمُوْ هذا أوحى، حديثاً، إلى البروفوسور والمؤرخ الطبي في جامعة هارفارد، شارلس إرنست روزنبِرغ (Charles Ernest Rosenberg )، بإعادة التشديد على فكرة أن المجتمع لهُ ردودٌ عفويَّة لا شعورية على أي وباء. هذه الردودُ تَمُرُّ بثلاث مراحل: أوَّلُها اللامبالاة، التي عوارضُها على الفردِ خفيفة يتعايشُ معها، وتَمُرُّ مرورَ الكرام. ثانيها الإنكار(Denial) حين العوارضُ تكون أكثرَ وضوحاً للمرضى ولكنهم يخفونها إما بسببِ وُثوقٍ مفرِطٍ بالنفس بالتَغَلُّبِ عليهِ، أو لسببٍ شخصيٍّ نفسي لا يريد المريضُ أن يفشي به، أو لسببٍ إقتصادي لا يريد فيه الفردُ أن يخسَرَ مصدرُ رزقِهِ. ثالثا مرحلة الخوف والهلع (Panic) حين يشتَدُّ الوباء وتَعُمُّ على الناسِ المأساةَ، مخلِّفَةً وراءَهَا الكثير من الضحايا. وهذا ما يحصلُ حالياً مع وباء الحمى الراشحة التاجيَّة، ولهذا تشديدُ الأطباء على مجابهة المرضِ، وهو في مرحلته الأولى، وحتّى في مرحلته الثانية. أمَّا حين يُجابَهُ وهو في مرحلته الثالثة والأخيرة، فالضحايا كثيرون والمعالجة لا تفيد بانتشار المرضِ في كلِّ خليَّة من خلايا أعضاء الجسد.
ويجبُ ألّأ ننسى أثرُ الإنفعالِ السياسيَّ الذي يتبنَّى منطق “المؤامرة”. فالناسُ يتساءلون دائماً عن مصدر الوباء، فيفترِضونَ له سبباً عسكرياً – سياسياً. والولايات المتحدة اليوم تلومُ مختبر ووهان (Wuhan) الصيني للحمى الراشحة، عن قصدٍ أو عن خطأٍ، والصين تتهمُ الوفد العسكري الرياضيِّ الأمريكيِّ إلى “ووهان” بِجلبِ المرضِ. ثمَّ أن الأثر السياسي، من جهةٍ أخرى أدَّى إلى الرجوع إلى المنطق الوطني القومي في المعاملات بين الدول كما سنرى لاحقاً فيما يحدثُ في أوربا.
يقولُ المثلُ الشعبي الأمريكي: “حين ينحسِرُ المدُّ ينكَشِفُ الذين كانوا يسبَحُونُ تحته عُراة”(Only when the tide goes out do you discover what has been swimming naked). أمام هذا الجهلِ وعدمِ الإستعدادِ والإهمالِ الذي ظَهرَت فيها حكومات العالم مُجابِهةً هذا الوباء ظهَرَت الحقيقة. تساوى الناسُ في مجابهة الوباءِ، فقراء كانوا أم أغنياء، وتساوت الأمم ضعيفةً وقويَّة. مُعظَمُ الخبراء يقرون بأنَّ العالمَ ما بعد هذا الوباء سيختلِفُ عمَّا قبلهُ. فقبلُهُ لم تكن العدالة متساوية بين الناسِ ولا بين الشعوبٍ أو الأممِ. فبالإضافة إلى كُلِّ النتائج السلبية التي تُشَيطِن الوباء إلَّا أنَّ هناك دروسٌ إيجابيَّةً تَلوحُ في أفقِ العالم بشكلٍ عام، وفي أُفُقِ لبنان و”الإقليم”، دروسٌ إستُنتِجَتْ بدونِ أن تُضفي أيَّة صفةٍ ملائكيةٍ على الحدثِ.
نعم، العالمَ سيتغيَّرُ بعد الوباءِ، بسببِ أثرِه الكبير والمتعدِّدِ الوجوه على المجتمعات في كلِّ نشاطاتها، وفي كلِّ أنحاء العالم. هذا الإستنتاج لا يعني بأنَّه لم يكن التغيير ليحدث لولا الوباء، فحدوثُهُ كان حتمياً، ولكنَّ الوباءَ سيُسَرِّعُ في حدوثِه. وليسَ صحيحاً بأنَّ العالمَ سيكونُ أكثرَ فقراً، والعاملُ في هذا التغيير، هو ما نُسَمِّيه اليوم “المنصّات الإلكترونية” التي تؤدي إلى العملِ من أيِّ مكانٍ كالمنزِلٍ. فبسبِ الوباءِ، أَلْزَمَتْ بعضُ الشركاتِ موظفيها بالعملِ من البيت، وثّبُتَ أن الموظَّفة أو المُوَظَّفَ، كُلِّ في بيتِهِ، أكثرُ إنتاجاً، فالوظيفة التي كانت تأخذُ أسبوعاً في المكتبٍ لإتمامِها لم تأخذ أكثرَ من يومٍ أو يومٍ ونصف بالعملِ في البيت، ولم تعُدْ السيارة للوصولِ إلى المكتب ضروريَّة، ولا صرف الوقود على محركها، وزالت أسبابُ مصارعة إزدحام السير، ولم يَعُدْ ربُّ العملِ بحاجةٍ إلى مكاتبَ فخمة يدفع أجارَها. وبالتالي فالعملُ في البيتِ سيُؤدي آجلاً أو عاجلاً، إلى تخفيف ازدحام السير على الطرقات، (انخفَضَتْ حوادِثُ السيرِ في فرنسا، أثناء الوباء، بمقدار 55%) وعلى تخفيفِ استهلاك الوقود للسيارات، وعلى فراغ الكثير من البنايات التي آُنشِأت للمكاتب، الذي سيتَحَتَّمُ منهُ أثرٌ سلبيٌّ على العقاراتُ. لقد دَخَلَ الحاسوبُ في حياة الناسِ، وأكبرُ مثالٍ على ذلك هو الإقبال الكبير على إستعمال الوسائلِ الإلكترونيَّة في الإتصالات، وفي الإدارة والتبضع وغير ذلك. وقد ازدهَرَت الشركات التي تعتمدُ على الخدمات الإلكترونية وأصبحت مرغوبةً من الناس، وزاد الطلبُ على استعمالها في الحاجات اليومية والمهنيَّة وزادت قيمتُها في أسواق البورصة العالمية. فعلى سبيل المثال، إنَّ نسبة ارتفاع الأسعارفي الولايات المتحدة، في السنين الخمس الماضية، راوحت ما بين 1.5-2.3% وبالمقابل فإنَّ أسهمَ شركات التقنية خلال الخمس سنوات الماضية مثل (Apple) ارتفع من 140$ إلى 480$ الآن، و(Amazon) من 1000$ إلى 3200$ الآن، و(Microsoft) من 70$ إلى 213$ الآن و(Google) من 500$ إلى 1580$.
ألوباءُ كان له تأثيرٌ عالميٌّ على العناية الصحيَّة بشكلٍ عام، وعلى السياسة، وعلى الإقتصادِ العالميِّ وعلى المجتمعات العالمِيَّة.
الاخطار على العناية الصحية
في مجال العناية الصحية، وحسب الخبرة المكتَسَبَة من مواجهة جرثومة الحمى الراشحة التاجية وغيرِ التاجية فإن الإقبال إلى غرفِ الطوارىْ، في المستشفيات، ومن أجلِ الحالات الحادة وغير الخطرة، من قِبَلِ الناسٍ قد تناقَصَ بـ 50%، وسيتناقصُ يوماً بعد يوم بسبِ خوف الناسِ من المستشفيات على أنَّها مخزنٌ للجراثيم ذي المناعة ضدَّ الأدوية المتوفِّرة والمعتادة، وبسببِ توفُّرِ الزيارات الإلكترونية والرقمية (Virtual Visit). فالمريَضُ يعرِفُ طبيبه ويثِقُ به، وبالمقابلِ فإنَّ الطبيبَ أيضاً يعرفُ مريضَه، فلم تَعُدْ حاجةٌ للمريض أن يقودَ سَيّارَتَه ويتصارعُ مع تكاثف السيرِ ليصل بعدَ ساعات إلى عيادة طبيبه، لكي يجتمعا ويتصافحا في العيادة. وأغلبُ الأدوية تُرْسَلُ إلى الصيدليات على الوسائلِ الإلكترونية (Efax)، وشركات الضمان الصحي أصبحت تعترفُ بجدوى وأحقِّيَة هذا النوع من العناية الصحية والجهودُ مستمرَّة لتوفيرِ الوسائلِ التي تجعلُ من هذا النوع أكثرَ واقعية وأسلم.
أمَّا من الناحية السياسية ففي مقالٍ في صحيفة الفيغارو (Le Figaro) حديثا، ذُكرُ نقلا عن كثيرٍ من الباحثين، بأن تغييراتٍ ثلاث ستُؤَدِّي إلى عالمٍ جديد:
- إنتهاء أُحادية القوَّة في العالم.
- إنتهاء الهيمنة الأمريكية التي بدأت عام 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.
- إنتهاء مشروعُ العولمة.
التغييرات السياسية
يعترف كل من اليمين واليسار في العالم بأن التغيير حتميٌّ.
يقولُ البروفوسور ديدييه راؤلت (Didier Raoult) بأنَّ أشياء كثيرة ستتغيَّرُ، ومن المُحُتَّمِ بأنَّ أحداً ما سيُجَسِّمُها. والفيلسوف اليمينيِّ ميشيل أُنْفرِيْ (Michel Onfray) يَقُرُّ بذالك ويجزمُ بأنَّ الهيمنة الغربية ستنتهي وأنَّ مفهومُ أوربا يتلاشى، والأصواتُ تتصاعدُ في أوربا بأن الإتحادَ إلى زوال. تراجَعَ الدخلُ السنويُّ في العالم بمقدار 3%، حين كان متوقعاً أن يزداد بمقدار 4%. في أوربا تراجعَ أكثر خلال الربع الأول من السنة بمقدار5.8% في فرنسا، 5.2% في إسبانيا، 4.7% في إيطاليا، 3.9% في بلجيكا، 2.5% في النمسا. و2% في ألمانيا، ومن المتوقع أن يصلَ إلى 11% سنوياً في أوربا منها: 9% في ألمانيا و13%-14% في كلٍ من فرنسا، وإسبانيا وإيطالية. في مقالٍ لها في (Le Figaro) في الرابع عشر من شهر أيَّارعام 2020، تقولُ الكاتبة آن روفان (Anne Rovan): “مع جرثومة الكورونا دخلَ الإتحاد الأوربي في اخطرِ أزماتهِ”. فقد ظَهَرَ الصراعُ بين الأوربيين الشماليين (ألمانيا، فنلندا، النمسا، الأراضي المنخفضة)، الأقل تضَرُّراً بالوباء وبين الأوربيين الجنوبيين (فرنسا إيطاليا وإسبانيا) الأكثرُ تَضَرُّراً. حَدَثَ هذا في الإجتماع الأوربي الإلكتروني (Skype) بين 27 دولة، الذي عُقِدَ يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر نيسان، برئاسة اورسلا فون دير لِيِينْ (Ursela Von der Leyen) الألمانية، الإجتماعُ الذي كان مُكَرَّساً لميزانية الإغاثة الأوربية للدول المتضرِّرة من الـ (Corvid 19)، المقترحة بـ 540 بليون دولار. في هذا الصراع ظهرَ تلَكُّؤُ الألمان في المساهمة في المشروع، واتُهِمَتْ الرئيسة، في موقفِها، بالإنحياز إلى وجهة نظر وطنها الأم ألمانيا حتى أنَّ أستاذ القانون الإيطالي ألبرتو أليمانُّو(Alberto Alemanno) وصفها بأنها تَفتَقِدُ الرؤية السياسية العابرة للحدود، الغيرَ المقتصرة على العقائد والثقافات المحلِّيَّة الألمانية، وأضاف على ذلك مسؤولٌ كَتَمَ إسمَهِ بأنَّها تعملُ بما تأمرها بهِ برلين. واليوم، تزدادُ الدعواتُ في فرنسا ، مطالبةً بإدارة ظهرها لدول أوربا الشماليةِ، وتنسيقِ مصالحها مع مصالح دولِ البحر الأبيضِ المتوسط.
الأخطار الاقتصادية
أمَّا من الناحية الإقتصادية، فهناك رغبةٌ في الإعتمادِ على الإنكفاء الذاتيِّ، وذلك بالتشديدِ على المصالح الوطنية والقومية لكلِّ شعبٍ في العالم. فستعودُ كُلَّ أمَّة لتُشدِّدَ على الإنتاج المحلِّيِّ، من زراعةٍ وصناعةٍ، ويزولُ السوقٌ المعتمِدُ على دُولٍ تستفرِدُ بالإنتاج وتحتكره ودُوَلٍ تستَهلِكُهُ.
أما في “الإقليم” بشكلٍ عام وفي لبنان بشكلٍ خاص فالحمى الراشحة التاجيَّة التي أوبأت الناس لم تصل عواقبها إلى الشدَّة التي أوصلها إليها الفسادُ الحكومي والحصار الإقتصادي، إلَّا أنَّ الشيء الذي على لبنان أن يُدرِكَهُ في صراعهِ مع الأزمة الوبائيَّة والأزمة الإقتصادية، هو أنَّ الإيجابيات أكثرُ من السلبيات وأنَّ البلادَ لا يمكن أن تَعيش على التسوُّلِ. فقدراتُها ، عملاً وفكراً وغلالاً، مصدرُها نوعيةُ إنسانه وعطاءُ أرضِهِ. الناسُ يعودونَ إلى الأرضِ، والشعبُ، الذي نزفته الهجرةُ، يعودُ إلى هذه الأرض. فالمساحات التي كانت تُستَعمَلُ لمزيدٍ من البنى الإسمنتية ( المرضُ الذي أصابَ الطبيعة الجميلة في لبنان)، ممكِنٌ أن تُستعملُ للصناعات الزراعية – الغذائية. سيعودُ الناسُ إلى الأرضِ التي هجروها، وسيجتمعُ شملُ العائلةُ مرَّةً أخرى تحت سقفِ الطبيعة الجميلة التي أحبُّوا. في النصفِ الثاني من القرنِ التاسعٍ عشر ظهرت الإنطباعية في أوربا بنظرية أنَّ فنَّ التصويرِ أخِذٌ بعداً علمياً، يعتمِدُ على أنَّ ألوان الأشياء في الطبيعة هي حصيلة انعكاس الضوءِ عليها، وأنَّ هذا الإنعكاسَ يختلِفُ من وقتٍ لآخر خلالَ ساعات النهار، ويتأثَّرُ بعواملِ الطبيعة والمناخ. حبذا لو أنَّ اللبنانيون، الذين سيعودون إلى الطبيعة وأمِّها الأرض، في يدهم ريشة الإنطباعيين ورؤياهم، والطبيعة في هذا الوطن ثروةٌ من ثرواته الكثيرة، ومخزونهِ البشري بكفاءاته الفكرية والعلمية والمهنية، ونَوْعِيَتِهِ الممتازة، هم مزيدٌ من الثروة في المستقبلِ القريب. فالكفاءات الإلكترونية، لها من قدرةٍ على خدمة “المحيط” كلِّهِ، وأيضاً العالم بحاجته إلى ما يتوفَّرُ من فرص عمل. إلَّا أنَّ الأرضُ لها محيطُها كما لها امتدادُها الذي فرضته الجغرافيا، والبيئة، ووحدة الحياة ووحدةُ المصالح وتكاملها.
يقولُ أنطون سعاده في محاضرته الثامنة من “المحاضرات العشر: “الإقتصادُ كموضوعٍ لأمَّةٍ ولِشعب لا يُمكنُ أن يُنظَرَ إليه إلّأ بالمنظار القوميِّ، بمنظارِ المجتمعِ المُوَحَّدِ الأمة، التي هي وحدةُ جماعَةٍ ووحدةُ أرضٍ، وحدةُ إقتصاد”،( ص: 140). وفي نفس المحاضرة يقولُ: “والإنتاج، أساساً، هو المفتاحُ للقضية الإقتصاديةِ كلَّها. بدونِ الإنتاجِ لا يمكننا أن نَحلَّ مشكلةً واحدةً من مشاكلِ الإقتصادِ في مجتمعنا (ص: 135)… يجبُ أن يَعملَ الجميعُ لنهضةٍ صناعيةٍ زراعيَّةٍ إقتصاديَّةٍ قوميَّة تفيضُ الخيرَ على هذه الأمَّةِ والشعبِ”. (ص:144-145). قولٌ عُمرُهُ أكثرَ من 75 سنة وما أشبه اليومَ بالأمسِ.
الكفاءات الإلكترونية من الممكنِ أيضاً أن تجعلَ قطاع التربية والتعليم أكثرَ فَعَّاليةً وأقلَّ كلفةً على الناسِ. فتخفُّ أعباءُ الأقساط المدرسيَّة، وتتوحَّدُ المناهج المدرسية، ويتوَحَّدُ التاريخُ الذي يُدَرَّسُ في هذه المناهجِ بسلبِيَّاتهِ وإيجابِيَّاتهِ، وتَعَمَّمُ الحقيقةُ على الأجيالِ الطالعة، فيسقطُ التشويه بالتاريخ، والعَبَثُ بالجغرافيا.
أما القطاع الطبي، فبفضلِ المنصات الإلكترونية، ستُصبحُ المعلومات جاهزةً لمشروعٍ وطنيٍّ تساهِمُ فيه كلُّ الطاقات ( راجع أرشيف الأخبار عن مقالاتي في هذا القطاع).
كُلُّ هذا يَتَطَلَّبُ مشروعُ دولة، وآنَ للشعبِ أن يؤمنَ بمشروع الدولة، ويبتعدَ عن مهزلةِ الطوائفِ ومحاصصاتها.
اليوم هناك العشراتُ من المرافىء على طولِ الساحلِ اللبناني، أغلبُها غيرُ شرعية، يقابلُها في الشرقِ معابرَ كثيرة، لاشرعيَّة، تَعُجُّ بالحركة، وكانت تَعُجُّ بالسلاح، ومعابر شرعيَّة قليلة، تَشِحُّ فيها الحركة حينَ كانَ المزارعُ يُلقي بمحصولِهِ في الطرقات، وحين سُدَّت عليهِ الطرقات. ويتساءلون لماذا بَلَغَ الإستيرادُ أكثرَ من 20 بليون دولار ولم تتجاوز الصادراتُ الثلاثةَ مليون دولار؟ قبل أكثر من 75 سنة، قال أنطون سعادة في نفس المحاضرة: “إنَّ مرفأً حُرّاً في ظرفٍ كظرفنا في الجمهوريَّة اللبنانيَّة يعني شيئاً واحداً هو تحويلُ لبنان إلى مستودعاتٍ للرسمال والإنتاج الأجنبي الذي لا يعطي الشعبَ في لبنان غير شيءٍ قليلٍ جدَّاً مما كان يمكن أن يكونَ في غيرِ هذه الحالة.” (ص 139).
هدَفُ العدوِّ، بالإضافةِ إلى الأرضِ، هو تهميشُ لا بل تهشيمُ دورَ لبنان، الإنسان والقاعدة والرسالة، في هذا المشرق، وإزاحته من الوجود، ليستولي على قدراته، كي يهيمن على إقليم الهلال الخصيب كلِّهِ. فمن هو اللبناني، في هذه المعركة، وفي هذا العصر الجديد، الذي يقبلُ بذلك؟
دراسة علمية -عقائدية قيمة جدا.
ان ربط الامراض الحالية سواء وبائية ام انتاجية بفكر سعاده لرائع