يوميات جندي في “الجيش العربي السوري”-يرويها محمد الحصني
فترة التدريب – الجزء الأول
إذا كان القوي والضعيف ينطلقان كل من مقدار قوته الخاصة ليصلا إلى هدف محدد، فإن الوجدان والنهج مسؤولان عن الوصول إلى الهدف، والقوة وحدها شرط الانطلاق.
كان اشتراط دورة تدريبة لمدة واحد وعشرين يوماً قبل الدخول في عالم الحرب أمراً مريحا. كنا سبعين سوريا من مختلف المحافظات. منّا مَن فرَّ من الجيش والتحق بتلك القوة الرديفة لتسوية أوضاعه العسكرية دون المرور بأنظمة الجيش المباشرة، ومنّا من استحق الخدمة الإلزامية فدخل الجيش من بوابة القوى الرديفة، ومنّا المدني الذي ضاقت به سبل الرزق فكان وقوداً للحرب أو طامعاً بغنائم سهلة.
وكان بيننا المتمرس بالحرب والجاهل فيها، وكان الجبناء والشجعان، والجميع -تقريبا- يفتقد إلى عقيدة تجمعهم، إلاّ ما شاع بين الناس من فكرة الدفاع عن الوطن أو “الله هو الحامي” أو ضرورة انتصار سوريا، وكلها أفكار لا تخلق متحداً صلبا. كان التدريب متواضعا جدا، فالتفاصيل النظرية كثيرة والتدريب والتطبيق قليلان وغير مقنعين.
أما الأكثر خطورة فكان عدم القدرة على خلق روحية الانسجام بين المشاركين في تدريب يفترض فيه أن يؤهلهم للقتال ضمن مجموعات منسجمة في حرب أقل ما يمكن وصفها بالتقليدية. كان قلقي يتعاظم كلما اقتربنا من نهاية الدورة التدريبية، إذ لم أكن مقتنعا ابدا أني، والمحيطين بي، مؤهلون لدخول المعركة. أتى الحل من قبل شخص « اتحفظ عنه » اجتمع بنا خلال الأيام الأخيرة من الدورة. فبعد دقيقة من الصمت، نظر أثناءها إلى وجوهنا، جاء مختصر حديثه “الصريح” أنه بناء على التجارب المتكررة أثبتت هذه القوة الرديفة فشلها وضعف مقدرتها على تحقيق الغاية التي أنشئت من أجلها.
من هنا وجب معالجة المشكلة عبر تكوين قوة مهام خاصة من ضمن أفراد المجموعة نفسها وممن هم تحت سن الخامسة والثلاثين بناء على رغبتهم الفردية وليس على إلزامهم بالأمر. وستخضع هذه القوة لتدريب خاص جدا لمدة أربعين أو خمسين يوماً داخل سورية أو خارجها، وستكون مهامها خطرة ومفصلية في المعارك. وطلب منا ألا نستشير بعضنا البعض فلا أحد يقدر أن ينصح سواه بموضوع مجهول، وعلى من يملك سؤالا أن يتفضل بطرحه. سأل احدهم، وقد شعرت بالخزي من سؤاله، عن مقدار الراتب الشهري، فكان الجواب مفرحا لي بصراحته: إذا أراد أحدهم أن يشتري دمك! هل تعتقد أن المقدار سيشكل فرقا؟ ثم طلب أن يتقدم منا من يرى نفسه مؤهلا لهذه الفكرة. من بين سبعين شخص تقدم فقط ثلاثة، أنا وشابان من حلب، أحدهم من المدينة والثاني من منبج. طلب الشخص أن تسجل أسماؤنا وأعمارنا وعندما عرف أن عمري “35” تأملني ووافق. قضيت بقية النهار أناقش المتسائلين عن قراري السريع، فكان مختصر دفاعي أن الحرب خطرة أينما كانت، لكنها ستكون بالتأكيد اقل خطرا في المكان الذي سأذهب إليه مع الفرقة الخاصة من المكان الذي سنذهب إليه بشكلنا الحالي. لم يقتنع الشباب بالفكرة، ولم أكن أسعى للدفاع عنها. أما الشابان فأحدهما سجل اسمه لأنني قمت بذلك قبله والثاني تقدم بسبب ثأر يقض مضجعه، وكلاهما بطهارة الأطفال. نصحت الأول أن يسحب اسمه لأن جسده السمين لا يتناسب ودورات من هذا النوع، كما أن والده متوف، وهو الأكبر بين أخوة صغار فلا داع لمغامرة بهذا الشكل. أما حقيقة نصيحتي له فكانت عدم رغبتي تحمل مسؤولية مصيره إلى جانب مصيري فسحب اسمه. والثاني رحبت به فاصبحنا صديقين مقربين إلى أن فرقتنا الظروف. بقي في ذاكرتي من تلك المرحلة الجوفيات التي كان يصطخب شباب السويداء فيها ويتحول الموجودون من ابناء السلمية إلى دير الزور ودمشق إلى حمص إلى محاربي هنود حمر برقصات عنيفة الحركة “ع تل ابيب والله ت نهجم.. ع تل ابيب هذا نصيبي يما لا تبكي.. هذا نصيبي ما ظن يصيب رصاص يا صهيون .. ما ظن يصيب ما ظن يخيب رصاصك يا بشار .. ما ظن يخيب ». طبعا كان يستحضر سلطان باشا الاطرش وصالح العلي وحافظ الاسد وغيرهم، وفي التفاعل الشرس للجميع كنت انتشي كلما تذكرت مخاوف المندوب الفرنسي في جبل العرب كاربيه في مذكراته، حيث لم يكن يميز، من طريقة الاهازيج التي يغنيها الشباب في استقباله، إذا كانت فرحا أم نداء للحرب والقتال؟
[…] لمن يرغب في قراءة الجزء الأول، تجدونه على هذا الرابط […]
[…] لمن يرغب في قراءة الجزء الأول، تجدونه على هذا الرابط […]