من الإقطاع الأرضي إلى الاقطاع الديني-شحادي الغاوي
محاضرة القيت بتاريخ 5-12-2018
في لقاء الاربعاء الثقافي في سدني
يكتسب هذا العنوان لهذا اللقاء أهميته من الاحداث الراهنة المستجدة، خاصة ما يحدث في بلدة كونين الجنوبية منذ عدة أشهر، ثم في وطى المصيطبة في بيروت منذ عدة أيام.
ففي كونين تجرأ أحدهم محاولاً وضع اليد على آلاف العقارات فيها مدّعياً بأن زوجة أحمد الاسعد وهبتها لجده، وكأن كونين وأرضها هي ملك لزوجة أحمد الاسعد وليست ملكاً لأهاليها الذين عمروها وبنوها وورثوها أباً عن جد. أما في وطى المصيطبة فقد لجأت شركة الوطى العقارية التي يملكها وليد جنبلاط الى إقامة دعوى قضائية على سكان احد المجمعات السكنية في ألمنطقة لإخراجهم جماعياً من منازلهم، زاعماً أنهم منذ 120 سنة أحتلوها وبنوا عليها وأقاموا فيها، في وقت هم أشتروها وبنوها وعمروها وورثوها أباً عن جد، علماً أن هذه المنطقة هي مرتبطة اليوم بمشروع شركة أليسار وأن وليد جنبلاط نفسه كان قد ساوم المرحوم رفيق الحريري على أخلاء السكان لقاء تعويضهم بمساكن أخرى في أماكن أخرى فيما عُرِف بصفقة “مفتاح مقابل مفتاح”، أي أنه كان يعترف بملكيتهم لبيوتهم. بعد 120 سنة رأى جنبلاط أنه لم يعد بحاجة لتجنيد السكان واستعمالهم فقرر إجلائهم جماعياً.
أنا لست هنا الآن لأزايد على أهل كونين أو أهل وطى المصيطبة، ولست لأزايد على أحزاب هتين المنطقتين وفعالياتهما السياسية والاجتماعية، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل، لذلك فأني سأكتفي بعرض قضية الاقطاع من الناحية المبدئية فقط، وأيضاً سأعطي أمثلة حيّة موثقة من مناطق أخرى عانت من الاقطاع نفسه ولها تجربتها معه، وساروي كيف تمت مواجهته وكيف تم القضاء عليه. مع تنويه هام جداً بأن قضية كونين تكتسب أهمية وخطورة استثنائية كونها بلدة حدودية مع فلسطين المحتلة وكونها شهدت مجزرة صهيونية وقد تهجر سكانها، ثم ساهمت مساهمة كبرى في المقاومة والانتصار ودفع أهلها ثمن مقاومتهم وأنتصارهم حوالي مئة شهيد. ولا أخال المقاومة وقيادتها اليوم غافلة عن أن الأمن الاجتماعي الاقتصادي للسكان هو ضرورة قصوى للصمود والمقاومة والانتصار. فالمقاومة لا تستطيع تجنيد الناس وتعبئتهم للصمود والمواجهة والقتال والاستشهاد في وقت هم قلقين على مصيرهم ومهددين في ارزاقهم وحقولهم وبيوتهم. فسعادة مثلاً قد نبه منذ سنة 1932 عندما وضع مبدأ ألغاء الاقطاع، الى ضرورة إقامة العدل الاجتماعي الحقوقي والعدل الاقتصادي الحقوقي وقال: “ان هذه الاقطاعات كثيرا ما يكون عليها مئات والوف من الفلاحين يعيشون عيشة زرية في حالة من الرق يرثى لها. وليست الحالة التي هم عليها غير انسانية فحسب بل هي منافية لسلامة الدولة (المقاومة!) بابقائها قسما كبيرا من الشعب العامل والمحارب في حالة مستضعفة وخيمة العاقبة على سلامة الامة والوطن“. فلا يمكن للمقاومة اليوم أن تستند الى أهل كونين في الحرب قبل إنقاذهم من براثن الاقطاع، فكيف تستند الى رجل خمدت في نفسه عوامل الحياة وقهره الظلم وأقعده الذل ليكون مقاوماً بطلاً يحارب بكل قلبه وكل نفسه من أجل أهله ووطنه وحقهما في السيادة والحياة والحرية؟؟!!
ما هو الإقطاع؟ الإقطاع كلمة شائعة في لغتنا العربية ومتداولة كثيراً وتجري على السنة الناس كل يوم. أما هنا في أستراليا أو في أية أمة من الأمم الناطقة بالإنكليزية مثلاً، فقلما تجد أحداً يعرف أن مرادفها هو (Feudalism) لأن “الفيوداليزم” لم يعد موجوداً أبداً هناك وقد قُضي عليه قضاء مبرماً من زمان ولم يعد أحد يتكلم عليه حتى أن كثير من الناس لم يسمعوا بهذه الكلمة.
إن معنى الاقطاع، أو الفيوداليزم، هو أن الملك أو الوالي أو الحاكم بأمره يقتطع لأحد الامراء أو المتنفذين مناطق كبيرة من الارض والقرى يخصصها له فتصبح هي وسكانها ملكاً له لقاء خدمات حربية وضريبية يؤديها هذا الاقطاعي لصالح ذلك الحاكم بامره. أما السكان فيصبحون عبيدأ لا يملكون ولا يلوون على شيء، فهم مسخرون للعمل في الارض والخدمة في الجيش لقاء أيوائهم واطعامهم وحمايتهم من هجوم وتعدي سكان الاقطاعات الاخرى.
هذا النظام الاجتماعي الاقتصادي كان نظاماً قانونياً، أي معترفاً به قانونياً من الدولة في القرون الوسطى خاصة القرنين السادس عشر والسابع عشر. والتاريخ يخبرنا أنه لم يتم التخلص من عهد الاقطاع والنظام الاقطاعي والقضاء عليه إلا بثورات عنفية وأنفجارات أجتماعية سالت خلالها دماء غزيرة وأزهقت أرواح كثيرة. أي أن الانتقال من النظام الاقطاعي الى نظام غيره أقل ظلماً لم يتم بتطور أجتماعي طبيعي تلقائي، بل بأنقلابات وثورات عنيفة.
الإقطاع المتستر والمتلبس. لكن لماذا لا نزال نحن اليوم نحكي عن الاقطاع ونعاني من نماذج منه في بلادنا ونحن قد اصبحنا في القرن الواحد والعشرين ولم نعد في القرون الوسطى؟ الجواب هو أننا في بلادنا لا تزال مفاهيم القرون الوسطى مهيمنة على حياتنا ومتغلغلة في دواوين وإدارات دولنا، حتى أنها موجودة في صروحنا العلمية والثقافية المفترض انها صروح ومنارات للمعرفة والتقدم والتطور! لا نبالغ ابداً، ألم تسمعوا أن تعيين رئيس للجامعة الوطنية أو مجلس أدارتها أو أساتذتها يتعثّر أحياناً ويمر بمخاض عسير واليم، أذا لم نقل بأزمة سياسية، الى أن ترضى وتقبل مختلف الزعامات الاقطاعية الطائفية بالحصص المخصصة لها في هذا التعيين؟؟
صحيح أن الاقطاع في بلادنا اليوم ليس معترفاً به قانونياً، ولكنه موجود واقعياً (ديفكتو) ويتخذ أكثر من وجه وأكثر من قناع ويتوسل أكثر من وسيلة للتشبث بالبقاء والاستمرار، ويساعده على ذلك غياب مفهوم المواطنية المتساوية في الحقوق من أنظمتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهيمنة مفاهيم التعايش بدل التفاعل الاجتماعي، الطائفية بدل الدين، والرعايا والقطعان البشرية بدل المجتمع الواحد ووحدة الحياة ودورتها الاجتماعية الاقتصادية الواحدة في الوطن الواحد. عندنا أقطاع متلبس بالدين، أقطاع بكل ما لكلمة اقطاع من معنى. الاقطاع الديني هو كالاقطاع الارضي ويقوم على مبدأي الاستعباد والحماية نفسهما.
الاقطاع الارضي القديم هو أن تُقتطع منطقة واسعة من الارض تُملّك للأقطاعي هي وسكانها المتعددي الاجناس والاديان الذين يتم استعبادهم وتسخيرهم لقاء لقمة عيشهم وحمايتهم من تعدي سكان الاقطاعات الأخرى. والاقطاع الديني هو أن تقتطع فئة واسعة من الناس منتشرة في مناطق متعددة يتم أستغلالها بدعوى الدفاع عن حقوقها من تعدي حقوق الفئات الاخرى. إنه نفس الاستغلال بحجة الحماية، أنها نفس المبادئ الإقطاعية : مبادئ التخويف من الجماعة الأخرى وإدعاء حماية حقوق الجماعة من تعدي وتجاوز الجماعة الاخرى. وهكذا صرنا نسمع بمجتمع مسيحي ومجتمع مسلم، بمجتمع شيعي ومجتمع سني ومجتمع درزي، وكل واحد من هذه المجتمعات المزعومة يخاف ويخشى الآخر. صرنا نسمع بحقوق المسيحيين وحقوق المسلمين وحقوق الشيعة وحقوق السنة وحقوق الدروز، وصرنا نشهد تصادم هذه الحقوق الطائفية وتقاتلها. وحلّت هذه المفاهيم الرجعية الفاسدة محل مفهوم الوطن الواحد والمجتمع الواحد والحقوق المدنية والسياسية الواحدة لجميع المواطنين.
في القرون الوسطى حيث الاقطاع الارضي، كان الدين واحداً وكان يهيمن على الدولة ويتحكم بها. في الوقت الحالي حيث الاقطاع الديني، لم يتغير الأمر كثيراً: تعددت الاديان وتمذهبت في المجتمع الواحد والوطن الواحد لكن بقيت الدولة قائمة على الاساس الديني وعلى تسوية بين الطوائف والمذاهب الدينية ولم تعد الحقوق حقوقاً عامة بل صارت حقوق هذه الجماعة الدينية المختلفة عن حقوق تلك الجماعة الدينية. أختلف الشكل وبقي الجوهر الذي هو تحكّم الاقطاع نفسه في رقاب الناس وحياتهم الواحدة ومصالحهم الواحدة في وطنهم الواحد.
إن تأسيس الدولة على الدين في مجتمع متعدد الاديان والطوائف والمذاهب بدل فصل الدين عن الدولة وتأسيس الدولة على اساس وحدة المجتمع، أي وحدة مصالح المواطنين ووحدة حقوقهم المدنية والسياسية، جعل الاقطاع ومفاهيمه يتغطى بالدين ويلبس لبوساً طائفياً ويتخذ وجهاً مذهبياً، وصارت الدولة شراكة ومحاصصة يتنازعها المتزعمون الطائفيون والاقطاعيون ويتقاسمونها، وصارت الدولة تتعامل مع الناس كرعايا طوائف ومذاهب دينية وليس كمواطنين متساوين.
في هذه البيئة السياسية والاجتماعية المحكومة بهذه المفاهيم من الطبيعي أن يجد الاقطاع أرضاً خصبة للتشبث بأمتيازاته، وطبيعي أن يحدث ما يحدث في وطى المصيطبة أوفي كونين أو في أية منطقة أخرى من بلادنا الواسعة. وطبيعي أن يجد المواطن العادي نفسه في أزمة وفي ورطة وأن يشعر بالصعوبة، بل احياناً بالإستحالة، في نيل حقوقه عن طريق الاحتكام الى دولة المحاصصة والامتيازات الطائفية والإقطاعية. فالحقوق في هذا النوع من الدول ليست هي الحقوق المتساوية للناس والمواطنين بل هي حقوق الطوائف والمذاهب الدينية وإمتيازات وحصص من أستطاع أن يركب ويتزعم رعايا واتباع هذه الطوائف والمذاهب. فالنعرات والحساسيات الطائفية واللعب بها وتحريض الطوائف وتخويفها من بعضها البعض هي اهم وسيلة يستعملها الاقطاعيون الطائفيون لاستمرار تزعمهم وبقائهم على أكتاف رعاياهم. “أن العداوة هي أوكسجين الحزبية الدينية” التي تتنفس به.
أن المذهبية والطائفية هي تزوير للدين وغش فيه، وإن المرجعيات السياسية الطائفية والمذهبية ما هي إلا أقطاعيين متسترين مقنعين مهما تزينوا وتسموّا بأسماء ديموقراطية وتقدمية واشتراكية. إن كل سياسي يدعي أنه يعمل لتأمين حقوق طائفته هو سياسي إقطاعي يستغل عواطف جماعته ويوهمها بأن لها مصالح متميزة ومستقلة عن مصالح أبناء وطنها الآخرين، هو دجال أقطاعي متستر مقنّع. لذلك فإن مواجهة الإقطاع والإنتصار عليه لن تكون إلا بالانقلاب على هذه المفاهيم الفاسدة إنقلاباً ثورياً جذرياً والإعتصام بمبدأ “الامة مجتمع واحد” أي مبدأ المواطنية المتساوية، وفصل الدين عن الدولة وإلغاء الامتيازات الطائفية وتحطيم الحواجز الحقوقية المدنية والسياسية الموجودة بين مختلف الطوائف والمذاهب. ليس للطوائف مصالح مستقلة أو حقوق مستقلة بالمعنى السياسي الاقتصادي، لكي ينبري هذا الاقطاعي أو ذاك ويدّعي العمل لتأمين مصالح وحقوق طائفته وهو بالحقيقة لا يعمل إلا لمصلحته هو عن طريق استغلال أبناء طائفته وإستعمالهم وقوداً وأبقائهم تحت رحمته.
أن مصلحة المجتمع لا تساوي مجموع مصالح وهمية للطوائف، فالمجتمع هو وحدة حياة ودورة أجتماعية اقتصادية واحدة تشمل الجميع، وبالتالي هو وحدة مصالح ووحدة مصير. ومن لا يزال يعتبر الطوائف مجتمعات قائمة بذاتها ويتكلم على مجتمع مسيحي ومجتمع مسلم أو مجتمع شيعي ومجتمع سني أو درزي، هو إقطاعي يريد أن يقسّم المجتمع الى إقطاعات طائفية.
أن ضرب الطائفية السياسية والاجتماعية معاً هي المدخل الصحيح لضرب الإقطاع المتستر والمقنّع. كما أن ضرب الإقطاع ومفاهيمه وقواعده والقضاء عليه يزيل أعتى العقبات من طريق الغاء الطائفية وفصل الدين عن الدولة. فالإثنان متفقان والعلاقة بينهما تحالفية، والمواطن المدرك يستطيع أن يتمرد على الإثنين معاً وينعتق منهما بالثورة عليهما.
أكاد أسمع البعض منكم، وخاصة أبناء كونين، يسألون: وهل ننتظر لحين الغاء الطائفية وفصل الدين عن الدولة والغاء الاقطاع قبل أن نعالج وننهي قضية كونين الراهنة وصراعها مع الاقطاع؟؟ الجواب هو حتماً لا.
سأروي الآن قصة قصيرة واقعية معبرة عن الصراع ضد الاقطاع وكيفية القضاء عليه.
منذ عدّة سنوات أهداني الصديق الشاعر شوقي مسلماني كتابه المعنون: كونين- لطائف وظرائف، وأذكر يومها أني التهمت كتابه في ليلة واحدة. لقد شدني كثيرا حتى أني لم اتركه قبل الاجهاز عليه. واليوم وأنا منهمك في اعداد موضوع هذه الندوة تذكرت ذلك الكتاب فقرأته من جديد، أيضاً في ليلة واحدة.
في الكتاب قصة أستوقفتني لأنها تمثل سابقة لصراع كونين مع الاقطاع، وهي قصة ذلك الاقطاعي من آل الزين التي رواها شاعرنا شوقي مسلماني تحت عنوان “ثورة الجرّة”. يبدو حسب القصة أنه لم يكن متاحاً التصدي للاقطاع ومواجهته في ذلك الوقت الغابر بغير اسلوب الشكوى والتظلم لرأس الاقطاع نفسه والاستنجاد به وبحليفه وداعمه والمستفيد منه، أي الاحتلال التركي ومركزه في تبنين، وكأنه كان للاحتلال التركي صفات حميدة مثل الاخلاق والعدالة والانصاف ! وكأن الاحتلال التركي يومها لم يكن يمارس حرب ابادة وقتل وتجويع واذلال ضد “الخزرباش” والكفار العصاة المتمردين حسب ما كان يسمي أهل جبل عامل ومنهم أهل كونين. وكأنه أيضاً لم يكن متاحاً النيل من رأس الاقطاع ومركزه دون التورط باقتلاع عائلة بكاملها من القرية وتحميل افراد عائلة بكاملها واخذها بجريرة بعض افراد منها.
يبدو انه هكذا كانت ظروف وأحوال سكان كونين، مثل كثير غيرها من قرى جبل عامل وجبل لبنان وسورية كلها تحت نير الاحتلال التركي. كانت احوال سكان كونين وظروفهم ووعيهم الاجتماعي والسياسي، مثلهم مثل غيرهم في ذلك العهد، لا تسمح بطرح مظلوميتهم من فئة قليلة من ابناء قريتهم إلا الى الغريب التركي المحتل الذي انتهك حرمة بلادهم وجثم على صدورهم مئات السنين، ولانه أيضاً لم يكن في البلاد حركة مقاومة قومية فاعلة ومؤثرة تتصدى له، لقد كانت أياماً مظلمة !!
سأروي لكم الآن قصة قصيرة حدثت في قريتي “عين النسر” شمالي جبل لبنان، أيضاً في العهد التركي. سأرويها لكم بغرض اعطاء مثل آخر عن تجربة أخرى لقرية أخرى في التصدي للاقطاع. لكن أرجو المعذرة، فأنا لست مثل الشاعر شوقي مسلماني متمكناً ومتمرساً في الأدب والشعر واللغة ولا اجيد فن الرواية ولا القصة القصيرة ولا شيء من هذه الفنون، فأرجو الرأفة واخذ ذلك بعين الاعتبار.
يومها كان الاقطاع المحلّي متحالفا مع الاحتلال الأجنبي، كما اليوم تماما حيث أن الاقطاع بوجهه الحديث، وحيث الرأسمال الفردي غير المقونن بمصلحة المجتمع، متحالفَ مع الاجنبي مجرد من اي شعور بشيء اسمه مصلحة عامة او مصلحة وطنية او حقوق مواطنين او قانون او اصول او عدالة او اي شيء يكبح من جموحه وسطوته وسيطرته على البلاد والعباد.
وكان الناس العاديون الفقراء، ورغم طعم الذل والظلم وضيق العيش الذي جلبه الاحتلال الاجنبي الخارجي كما الاقطاع والاستبداد الداخلي المحلي المتحالف معه، يحافظون في نفوسهم الأبية على شيء من الكرامة الشخصية والشعور بالشخصية الاجتماعية ووجوب صيانتها ومراعاتها. فاليكم هذه القصة التي حدثت في قريتي في أواخر عهد الاحتلال التركي، أي منذ اكثر من مئة عام ولا زال الناس يروونها الى اليوم بسبب دلالاتها القوية وعبرها ودروسها الرائعة.
كان كاهن القرية أقطاعياً ملتحفاً بالدين، متجبرا متسلطا ظالما مستقويا على أبناء رعيته- قريته بعلاقته، أو قل تبعيته وطاعته التامة، للقوى الطاغية المحلية والأجنبية المتحالفة يومذاك. وانت تعرف ان الكاهن يومها كان هو نفسه الشرطي والطبيب والاستاذ والقاضي وكل شيء… وكان عامة الناس بمجملهم فلاحون فقراء يعانون من ضيق العيش وخشونة بيئتهم الطبيعية ووعورة أراضيهم معا. وكان “سب الدين” يكاد يكون المتنفس الوحيد و”فشة الخلق” الوحيدة التي يفرغ بواسطتها الفلاح ضيق نفسه وتعب جسمه عندما يواجه أية صعوبة او عقبة وهو يفلح ويصلح الأرض ويقتلع الصخور ويحطمها. و”سب الدين” خطيئة كما تعلم ويسميها البعض الآن “شتم الذات الالهية” وقد تجلب على مرتكبها عقوبة قطع الرأس كما نشاهد من عدالة “داعش” وأخواتها. لكن منذ مئة سنة ونيف خلت، وفي قريتي عين النسر، كانت احوال الناس والمجتمع ارقى واكثر مدنية من اليوم، فلم تكن عقوبة قطع الراس هي السائدة، بل عقوبة قطع الرزق، وهي اخف ! لقد أصدر خوري الضيعة يومها قانونا يقضي بان يدفع كل فلاح ربع ليرة، عن كل سبة دين يرتكبها، ويدفعها للخوري صاغرا، عقوبة وتكفيرا عن خطيئته في آن معا. وكان الفلاحون لا حول لهم ولا قوة، فكل الحول وكل القوة كانت للخوري ومن وراء الخوري كما اسلفنا. لكن الليرات كانت نادرة وشحيحة ولا تطالها ايدي الفلاحين الا نادرا. فكان الخوري في كل موسم او فترة اعياد يحاسب الفلاحين على خطاياهم، بما يشبه موسم “التاكس” هنا، أي دفع الضريبة السنوية، فيقول للفلاح الفلاني، مثلا، أنت يا أبو طنوس بلغني انك سبيت الدين اربع مرات هذه السنة فيكون عليك دفع ليرة كاملة، أنا اعرف أن يدك قصيرة وليس معك هذا المبلغ فالعدل والإنصاف يقتضيان منك ان تتخلى عن قطعة الارض التي تملكها خلف العين او الغراقة او العريض او وادي الراهب او ضهرة الحمرا او ضهر الاجرد او الكفر او القبعة…او غيرها. وما كان من الفلاحين الا الطاعة اتقاء لشر الخوري ومن وراءه أو” شر الله” وانتقامه منهم ومن أولادهم، نعم شر الله، واعوذ بالله من شر الله، فالله حسب ” الكتب”، كما لا يزال عالقا باذهان بعض المؤمنين البسطاء، يفتقد ذنوب الاباء في الابناء حتى الجيل السابع !!( يا لها من مجزرة إلهية وما ارهب واظلم من هذه العدالة الإلهية… عفوا الشيطانية ).
هذه العقوبة – الكفّارة درّت على الخوري ونسله اكثر من نصف ارزاق الضيعة حتى اصبحوا اكبر الملاكين إطلاقا…. ودارت الأيام، أيام الذل والجهل والخوف، حتى استفاق قبس من عزة النفس والكرامة والرجولة في احد الفلاحين الشجعان الذي لعب دور العين التي تقاوم المخرز وصنع من شجاعته وعزة نفسه عهدا جديدا جميلا عزيزا على انقاض عهد قديم قبيح ذليل. وحكاية ذلك كما يلي :
كان هذا الفلاح الشجاع خلف ثورين يجران سكة الفلاحة في ارض صخرية وعنيدة، تحت أشعة الشمس الحارقة في احد ايام الصيف الحارة. علق الصند وعجزت الثيران عن التقدم. لم ينفع وخز المساس على مؤخرة الثورين في دفعهما للتقدم والحلحلة، فانكسرت السكة! وانكسار السكة كان بمثابة خربان بيوت. انهمر الفلاح بالمسبات والكفر كأنه يرجم الحظ العاثر أو الشيطان كاسر السكة، بل كانه يلوم الله على تساهله مع الشيطان الذي كسر السكة، حتى انه قال : ” يحرق دينك يا الله وينك؟ “.
فلاح آخر نفسه ذليلة خانعة كأن عهد الذل والخنوع الذي جلبه الاستسلام للاحتلال الاجنبي استحوذت مفاهيمه كلها على دماغ هذا الفلاح العبد الذليل، فذهب للتو ونقل للخوري كل ما تلفظ به جاره الفلاح الشجاع الذي تجرأ و”شتم الذات الإلهية”.
لم ينتظر الخوري لنهاية الموسم او لقدوم العيد وتصفية الحساب مع الفلاحين، بل استدعى فلاحنا الشجاع في مساء اليوم ذاته قبل ان ينشف عرقه وقبل ان يتناول عشاءه وقبل ان يرتاح من تعب يومه وقبل ان يشفى من مصيبة كسر سكته. قبّل الفلاح جبين زوجته الصابرة وشم رائحة اولاده الصغار الجائعين ويمم شطر بيت الخوري كانه ذاهب للاعدام.
في طريقه، استجمع هذا الفلاح قواه واستنفرت في وجدانه كل العوامل النفسية العزيزة الجميلة المعروف ان شعبنا يختزنها في روحه ونفسيته الاجتماعية القوية، ورجع من نصف الطريق الى البيت وقال لزوجته :” هاتي الليرة، لحيي تحت الجنطاس العتيق بالكور الكبير آخر الليوان”. اعطته زوجته الليرة دون سؤال، وكانت هذه الليرة هي كل الراسمال الذي يملكانه. اخذها وذهب الى بيت الخوري رافعا جبينه عاقدا حاجبيه الكثين. وصل، اقتحم باب بيت الخوري اقتحاما واخترق جموع الموجودين اختراقا، لا سلام ولا كلام، الى ان وصل الى صدر الدار فانتصب امام الخوري كالجبل دون ان يحييه وقال : ” أنا اليوم قلت يحرق دينك يا الله. لك معي ربع ليرة. وهلق بقلك يحرق دينك يا اخو الهيك وهيك، ويحرق دين دينك. وهيدي ليرة وصرنا صلح”.
رجع الخوري مذعورا الى الوراء دون ان يجرؤ على مد يده لأخذ الليرة، وقال للموجودين : خذو من هون ( خذوه من هنا). ولم يجرؤ احد على لمس الفلاح او الاتيان باي حركة أو النطق باي كلمة.
عاد الفلاح الشجاع الى بيته ملكاً ومعه ليرته العزيزة التي تكفي لاستبدال سكّته المكسورة بعشرة غيرها. ألغى الخوري عقوبة سب الدين. إنزاح الكابوس عن صدر الفلاحين. ولم يمض وقت طويل… ومات الخوري.
أن إستفاقة عزة النفس والكرامة في وجدان الفلاح الشجاع طوت عهداً ذليلاً وانشأت على انقاضه عهداً جديداً عزيزاً في قريتنا عين النسر.
هذه قصة رواها لي جدي بخمسة اسطر، ولكنني توسعت فيها لادلّ على مصدر الذل كما على أسلوب المواجهة لكي أعطيها قيمة اخذ العبرة والفائدة وتحريك عوامل القوى الفردية والاجتماعية الكامنة في شعبنا التي لو فعلت… لغيرت وجه التاريخ.
أمّا العبرة فهي أن الطريقة الوحيدة لقتل افعى الاقطاع هي نفسها الطريقة الناجعة لقتل أي أفعى أخرى: هي أن نمسك الأفعى من عنقها…ونسحق رأسها.
سأنشر قصة جدك حضرة الرفيق شحادة
الحياة لسوريا و الخلود لسعادة
ن . م