مع الأمينة الأولى- د فؤاد جورج
أعدت مؤخرًا قراءة “مذكرات الأمينة الأولى جولييت المير سعاده”، وكما في كل مرّة أقرأ هذه المذكرات، تنهال ذكريات عشتها طفلا أرى ضرورة مشاركتها لما فيها من عِبَر. وهذه الوقائع حدثت معي أو مع والدتي الرفيقة الدكتورة نورة زيتون، زوجة الأمين جورج جورج، رحمهما الله، والتي كانت غالبا ما تذهب لزيارة الأمينة الأولى في سجنها. وكنا ننتظر عودتها لتخبرنا عن أحوال الأمينة الأولى، ناهيك عن اطمئنانا لعودتها بالسلامة من رحلات أقل ما يقال فيها إنها كانت صعبة على أكثر من صعيد.
كان الحزب (الإنتفاضة) يكلّف بعض الرّفيقات بزيارة شبه شهرية لسجن المزّة لعيادة الأمينة الأولى. وفي كثير من الأحيان يقود السيارة أحد الرفقاء غير المطلوبين أو المعروفين عند الإستخبارات الشاميّة. من هؤلاء الرفيقة الدكتورة نورة والرفيقة ميشلين داغر (المروج) والرفيقة نبيهة النجار (زوجة الرفيق أمين النجار – بيت مري) وغيرهم.
كانت حجة والدتي أنّها طبيبة نسائية وعليها زيارة مريضتها وصديقتها. وكانوا يتحمّلون العذاب والقهر بالإنتظار وحتى مرّة “ضاق خلق” الدكتورة وهي تنتظر. وعند مرور عبد الحميد السراج وهو يحمل مسدسين على خصره، وقالت له ما ينفعك من حمل كل السلاح وأنتم تتركون أرملة في السجن بعيدا عن بناتها، الى متى الظلم؟ فما كان منه الا أن يجعلها تنتظر أكثر.
وكانوا يأخذون معهم بعض المأكولات ويهربون لها بطارية للترانزيتور (راديو) أوكوز صنوبر من منطقة العرزال وغيرها مما يستطيعون تهريبه وهي تهواه.
وهناك واقعة مهمة غير مذكورة في المذكرات لربّما لأن الأمينة الأولى لم تكن حاضرة، هي زيارة للمرحوم سلطان باشا الأطرش بطل وقائد الثورة السورية سنة 1925 ضد الفرنسيين، في مقرّه في بلدة القريّة – السويداء. كان هدف الزيارة هو طلب المساعدة في إخلاء سبيل الأمينة الأولى. وتكمّل والدتي في سرد القصّة وتوصف لنا كيف وقفت الرّفيقة نبيهة النجار وخلعت المنديل الأبيض عن رأسها ومشت صوب سلطان باشا الأطرش ووضعت المنديل حول عنقه وقالت له: “إن الامينة الأولى مظلومة وبعيدة عن بناتها ومسجونة ظلما وبهتانا وهي أمانة في عنقك كما هذا المنديل حول عنقك. أنت للحرية منارة ولا تقبل بالظلم لأحد، فكيف لأرملة انطون سعاده وأولادها. وهذا طلب من صديقك الرفيق عبد المسيح.” عندها طلب سلطان باشا الأطرش إتصالا برئيس الجمهورية العربية السورية وبعد بضع الوقت تم الإتصال وطالب الأطرش الرئيس بالعمل لإطلاق سراحها. بعد بضعة أسابيع تمّ إخلاء السبيل ولا أدري ما كان تأثير سلطان باشا الأطرش ولكن قرب الوقت ما بين الطلب والإخلاء يوحي بأنّه قد أثّر.
كان قرار إخلاء السبيل مشروطا بأن تغادر الامينة الى خارج الوطن، أي إخلاء سبيل وشبه نفي. وكانت الوجهة الطبيعيّة باريس العاصمة الفرنسية. والسبب ان ابنتها (الأمينة لاحقا)
أليسار كانت تسكن هناك، مع زوجها الأول البطل الرفيق فؤاد الشمالي (رحمه الله). وكان قرار الحزب الإنتفاضة، رغم ان الكثير من اعضاءه في السجون بعد المحاولة الإنقلابية 61-62 (التي لم يكن له ضلعا بها)، ان يرسل رفيقة مقربة من الأمينة الأولى لزيارتها في فرنسا. وكان الخيار لوالدتي الرفيقة الدكتورة نوره زيتون. ولعلّ أحد الأسباب الثانوية ان والدي يعمل في شركة طيران وكان يحق لنا ببطاقات سفر مخفّضة أو حتّى مجانيّة مرّة بالسنة. كما كان لوالدتي صديقة من أيام الدراسة تسكن في باريس، ونقدر ان نبيت عندها خلال الرحلة. سافرنا أنا واختي سعاده (الرفيقة لاحقا) ووالدتي. وكانت الزيارة لحوالي الأسبوعين حاملين الهدايا ومبلغا من المال
ومازلت أذكر كيف كان المرحوم الرفيق فؤاد الشمالي يلاعبني بلعبة البوكسينغ وطبعا كنت صغيرا ولم اكن اعرف انه شخص قاس وعسكري خاصة وأن ابتسامته لا تفارق وجهه.
في إحدى المرات قالت الأمينة الأولى لوالدتي وهن يتحدثن عن إنقسام القوميين، يا ريت بتصير عجيبة ويأتي الزعيم لنصف ساعة ويضع حدا لهذا.
صورة الأمينة الأولى كانت دائما جليسة صورة الزعيم في مجالس الرفيق عبد المسيح ولم ينسَ الإهتمام بها متى كانت بحاجة وخاصة عندما كانت في السجن. إنّه عنصر الوفاء الذي ينتصر، إنّها المحبة تنتصر على الأحقاد، إنّها التسامح الذي يجمع.
إنّه الإخلاص للحقيقة.
إنّه الوجدان القومي الإجتماعي والذي واجبنا الأول التمرّس به وإحياءه وليس إثارة الضغائن والأحقاد. هكذا علمنا سعاده وتلاميذه الذين استطاعوا فهمه.