ما بعد القَسَم
من شروط تنكّب المسؤولية في معظم المؤسسات، وخاصة العامة منها، أن يؤدي المسؤول المُنتَخَب أو المُعيَّن قَسَماً يتحمل بموجبه أعباء المسؤولية. بمجرد تأدية القسم، والذي عادة ما يكون وفق أغلى مُثُل الإنسان كشرفه وحقيقته ومعتقده، يصبح الفرد ملزماً به، لأنه يلغي كل ما قد يكون سبقه من التزامات إذا كانت مناقضة له.
في الدول الديموقراطية، والدولة القومية هي حُكماً دولة ديموقراطية، (راجع “نشوء الأمم” لأنطون سعاده)، هناك فصل للسلطات الأساسية الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. هذا الفصل ضروري لضمان التوازن والعدالة في المجتمع، ولعدم هيمنة إحدى السلطات على واحدة أو أكثر من السلطتين الأخريين. في نظام كهذا يقوم كل مسؤول بتأدية واجباته انطلاقاً من الصلاحيات التي يمنحها له الدستور، ووفق الضوابط القائمة. ولا يشذ دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي عن هذه القاعدة.
في الديموقراطيات المخطوفة، نرى حالات يؤتى بها بمسؤول أول بعد أن يكون قد أعطى عدداً من الالتزامات لجهات من خارج مؤسسته أو من داخلها. ولنا في الضغوطات التي شهدناها في الأيام القليلة الماضية بحق رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، نموذجاً عنها.
الهدف من هذا المقال هو مناقشة هذا الموضوع ومدى شرعية مثل هذا الالتزام، وما إذا كان هناك من موجب أخلاقي يحتم على من أعطاه التقيد به.
في المبدأ، ونحن دائماً ننطلق من المبدأ، لا يجوز لهيئةٍ ناخبةٍ – لنفترض أنها مجلس تشريعي من واجباته انتخاب مسؤول تنفيذي، والموافقة على جهاز عمله، وعلى خططه التنفيذية – أن تفرض ضغوطاً أو تضع شروطاً على من تنتخبه قبل انتخابه. فلا يحق لها أن تقول له، مثلاً: “ننتخبك بشرط أن تأتي بفلان في المسؤولية هذه، وعلتان في المسؤولية تلك”. أو “ننتخبك بشرط أن تقوم بهذه الخطة، وتبتعد عن تلك”. في مثل هذه الحالة، هناك عدد من المخالفات الدستورية والأخلاقية. دستورياً، إن أفراد الهيئة الناخبة هم أقسموا يمين المسؤولية أيضاً، وهذه اليمين تحتم عليهم أولاً اختيار الأفضل لتحمل المسؤولية، وثانياً احترام مبدأ فصل السلطات. أما المخالفة الأخلاقية فهي أن مثل هذه الضغوط ما هي سوى بلطجة مقنعة.
في معظم الحالات، سيكون أمام الهيئة الناخبة فرصة لإبداء رأيها بمن يرشحهم الشخص المنتخَب كمعاونين له، ولكن بعد انتخابه وليس قبله. فإذا كان بين أعضاء فريق العمل المرشحين من ترى الهيئة الناخبة أنه لا يصلح لوظيفة ما، وكان من ضمن صلاحيتها الموافقة على اختياره، أمكن لها عندها رفض هذا المرشح وطلب تغييره مع تبيان الأسباب الموجبة. وتتحمل مسؤولية قرارها أمام الجهة التي انتخبتها. الشيء نفسه ينطبق على الخطط التنفيذية التي يتقدم بها المسؤول الأول طالباً الموافقة عليها.
سوف يقول لنا جهبذ إن “الضغط” الذي تتكلم عنه ما هو سوى هذا المسار الذي وصفت، ولكن مع فارق لا يذكر. إن كل ما نفعله هو أن “نقترح” على المسؤول و”ننصحه” قبل أن “يغلط” ويرشح من سوف نرفضه، أو يخطط لما لا نرغب به. لا يا حبيبي، لا يا عيني… ما هكذا تدار المؤسسات! إن لهذه العملية اسم واضح هو الابتزاز أو التهديد أو الرشوة أو كلها معاً، ولكن لا علاقة لها بأخلاق الدولة ولا المؤسسات، ولا الأفراد ولا قَسَم المسؤولية.
والآن، لنفترض أن شيئاً مثل هذا قد حصل، وأن شخصاً ما أعطى التزامات وتعهدات لأشخاص معينين لكي ينتخبوه رئيساً لمنظمة ما، هل هو مُلْزَم بها بعد أن يؤدي قسم المسؤولية؟ الإجابة عن السؤال متشعبة وليست سهلة. فالشخص أو الهيئة التي طلبت الالتزامات ومارست الضغوط تكون قد مارست عملية لادستورية بل ربما تكون عملية جرمية، بالتالي فإن الطلب باطل. أما بالنسبة إلى من أعطى الوعد، فنحن طبعاً، نفضل أن لا يعد الإنسان بما لا يستطيع الوفاء به، أو بما يعرف أنه سوف يشكل له أزمة وجدانية لأنه سيكون في حالة مخالفة لقسم المسؤولية. ولكن رأينا أن أي التزام سابق للقسم، في حال خالف بنوده ـ أي بنود القسم – هو التزام لا قيمة له وغير ملزم لأحد. فإن الشخص الذي التزم قبل تأديته القسم هو فرد، في حين أنه بمجرد أن أدى القسم أصبح شخصية معنوية لها لقب هو “رئيس… المنظمة الفلانية”، وهو مسؤول بالدرجة الأولى عن صيانة دستورها وفق اليمين التي أدّاها.
ولكن ألا يستطيع هؤلاء “الانتقام” ممن لم يفِ بوعد انتخب على أساسه؟ بلى، فيثبتون على أنفسهم ـ للمرة المائة أو أكثر ـ أنهم مافيا تمارس البلطجة. ولكن مسؤولية الرئيس الجديد أن يقوم بتأدية واجباته بشرف المسؤولية ووفق قسمها. فإن أقالوه، يخرج مرفوع الرأس لأنه يكون قد مارس قناعاته، ويكون قد ساهم بإسقاط أحد الأقنعة عن تلك الوجوه.
يا صاحبي، إذا وجدت نفسك في مثل هذا الموقف، لا تتردد. لقد أقسمت يمين المسؤولية فمارس مسؤوليتك وفقها، ووفق أخلاقك وقناعاتك. وإذا اقتضى هذا منك خوض معركة مع بلطجية الزمن الرديء فلا بأس. تحصن بأخلاقك، وقسمك، ومن أقسمت يمين الولاء لقيادتهم، فهؤلاء هم شرعيتك في نهاية المطاف. كل ما عدا ذلك باطل.