لماذا تتجاهل المناهج التربوية تاريخ سوريا القديم؟
لبنى شاكر
غالبًا ما تُستحضر وقائع التاريخ الفاصلة لإدانة طرفٍ ما بتعدٍّ أو انتهاكٍ غيّر معالم الحياة أو هزّ ثوابتها. كذلك، تأتي الحروب أيضاً بما فيها من خياناتٍ ومكائد، إلى جانب الكوارث والأوبئة حيث يبدو الإنسان عاجزاً عن الفهم والمواجهة. وفي التاريخ الحديث للمنطقة العربية يترافق الكلام عن الماضي بأوصافٍ كـ”العريق” و”المجيد” مقابل الحسرة على حاضرٍ بائس.
نعود في هذه المادة إلى التاريخ السوري القديم، بثقافته ولغاته وأحداثه، لنسأل عن حضوره في المناهج التربوية، تحديدًا في مادة “التاريخ”. هل ترد بشكل كافٍ لتعريف الطلاب بما كانت عليه المنطقة في مرحلة ما قبل الإسلام، وما عرفته من “أساطير وأشعار وأطعمة واختراعات وأديان، وغير ذلك”أم أن حضورها ليس أكثر من عابرٍ وسريع؟ هل يتم التركيز فعلًا على جوانب ومراحل تاريخية دون غيرها؟ إلى أي درجة يمكن لفهم التاريخ القديم أن ينعكس على قراءة الحاضر؟ وهل إذا أحسنّا قراءة التاريخ، نكون في وضع أفضل لمنع مآسي اليوم، أو الحدّ على الأقل من تصارع هويات المناطق والطوائف على حساب الهوية الجامعة؟
يؤكد الباحث في فلسفة الآثار الدكتور عبد الوهاب أبو صالح، بعد مراجعة ما جاء في منهاج التاريخ لمرحلتي الدراسة الإعدادية والثانوية في سوريا، أن المنهاج بشكل عام يتضمن معلومات جيدة ومفيدة وفيه جهد لا يمكن إنكاره، لكنه لا يخلو من نقص وأخطاء لا تغتفر على حد وصفه. يقول لموقع “الفينيق”: “في كتاب الصف السابع في الصفحة 108 ورد ذكر أقدم خارطة في العالم بأنها مرسومة على لوح من الآجر، وبأنّ تلك الخارطة تعود لعهد الإمبراطور الأكدي شاروكين سنة 2300 قبل الميلاد. لكن الحقيقة تقول بأنّ هذه الخارطة تعود للعهد البابلي المتأخر، أي إلى القرن السادس قبل الميلاد. إنها محفوظة في المتحف البريطاني تحت الرقم (BM92687)، وقد اكتشفت في مدينة سيبار، وهي مصنوعة من الطين ويبلغ ارتفاعها 12.2سم وعرضها 8.2 سم، ودُوّنت المعلومات عليها بالخط المسماري.”
يضيف أبو صالح: “ورد في الصفحة 74 من كتاب الصف السابع أن مساحة إبلا تبلغ 400 ألف متر مربع أي 40 هكتاراً، ولكن في الصفحة التالية تصبح مساحتها 50هكتاراً!” وعلى سبيل المثال أيضًا لا الحصر، يستعرض أبو صالح خطأً آخر في الصفحة 44 “حيث ورد ذكر لتمثيل ناعورة على فسيفساء من مدينة أفاميا، محفوظة في متحف حماة، وتعود للقرن الرابع قبل الميلاد. والحقيقة أنّ اللوحة عثر عليها في رواق مدينة أفاميا في ثلاثينيات القرن الماضي وتعود للعام 469 ميلادية.”
الأمثلة السابقة ليست إلا غيضًا من فيض الأخطاء الواردة في المنهاج، ولا مجال لذكر كل الأخطاء الواردة، مع الإيمان، كما يقول الباحث، بأنّ الخطأ قابل للتصويب آملاً إعادة تدقيق المنهاج وتصحيح الأخطاء الواردة فيه. لكن الأمر لا ينتهي هنا، بل يتشعب في اتجاهات أخرى. يضيف أبو صالح: “يُركز المنهاج على التاريخ السوري في مرحلة ما بعد دخول الإسلام إلى سوريا ليشكل الجزء الأكبر منه، بالرغم من أنّ أقدم الآثار الإنسانية في سوريا تعود إلى حوالي مليون وثلاثمئة سنة خلت. في المناهج نجد النصيب والحظ الأوفر للألف والأربعمئة سنة الأخيرة من حياة الأمة السورية. إنّ تغليب العروبة على السورية واضح في المنهاج وهو ما يجب أن يعاد النظر به أيضاً، فمسألة عروبة تدمر وغيرها من الحواضر السورية منافٍ ومجافٍ للصواب.”
يتابع أبو صالح لموقع “الفينيق”: “يجب أن يتم التركيز على قضايا تاريخية حقيقية حدثت قبل عام 636 ميلادية. ما يتم تقديمه للطلاب مجرّد مقتطفات بسيطة مقابل التركيز على التاريخ الإسلامي والتاريخ الحديث للعالم العربي”. ويرى أبو صالح أن المناهج تتجاهل أو تُورد سريعًا معلومات وحقائق غاية في الأهمية منها حركة أدبية وفكرية عرفتها المنطقة إلى جانب الكثير من الصناعات والاكتشافات بدءًا من البيت الأول والزراعة واختراع العجلة وصولاً إلى الأبجدية في أوغاريت “مينة البيضا”. يضيف: “عرف التاريخ القديم في سورية والعراق بداية ظهور الأدب في الملاحم والأساطير، وبدايات تلمس خيوط العقائد والديانات الروحية، والكثير من المعطيات الأدبية والفكرية في مدن إبلا وأوغاريت وغيرهما، عدا عن نصوص شعرية وملحمية منها نسخ من “ملحمة جلجامش” عثر عليها في مدينة ماري القديمة، “تل الحريري.”
يضيف أبو صالح: “ومما تمر عليه المناهج مرور الكرام أيضًا، التعريف بشعراء سوريين في العصر الهلنستي، رغم أنهم تركوا بصمة شعرية على مستوى العالم ويعرفهم المختصون في التاريخ القديم، لكنهم مجهولون حتى الآن في مناهجنا. بالتالي، فإنّ شرائح واسعة من أبناء الشعب السوري لا تعرف عنهم شيئًا، منهم “فيلون الجبيلي” و”بوسيدونيوس الأفامي” و”ملياغروس”، والعديد من المؤرخين والأدباء خلال العصور الهلنستية والرومانية والبيزنطية، إلى جانب أدباء سريان كانت لهم مساهمات واسعة ليس فقط في الكتابة في شتى المواضيع العلمية والأدبية والفنية والموسيقية، بل في نقل وترجمة المعلومات والكتب من اليونانية إلى العربية أيضاً.”
ويتساءل: “كيف تغيب شخصيات مثل “دمسكيوس” الفيلسوف السوري، وكيف تغيب المدرسة الأفلاطونية المحدثة في أفاميا وأستاذها “جامبليخوس” عن المنهاج السوري، يوم كان في العالم القديم ثلاث مدارس فقط للمدرسة الأفلاطونية المحدثة “الإسكندرية وأفاميا وأثينا”؟ كيف لا تُعطى شخصية الحقوقي “بابانيوس الحمصي” حقها من الاهتمام؟ وفي السياق ذاته تم المرور السريع على شخصية أهم مهندسي العصر الروماني المعماري “أبولودور الدمشقي”، صاحب أبرز الصروح المعمارية في أوروبا وأول من أشاد جسراً على نهر الدانوب.”
لكن ما الذي تعنيه معرفة المزيد عن التاريخ القديم لسورية، هل نفترض قراءة أفضل لواقعها، أم فهماً أكثر منطقية لما يمكن أن تصبح عليه مستقبلاً؟ يجيب أبو صالح: “من لا يقرأ التاريخ يبقى طفلاً إلى الأبد! لهذا فإن قضية فهم التاريخ السوري الحقيقي، تجعل الإنسان مرتبطاً بهويته الحقيقية وأقرب لها ممن لا يعرف. ولا نأتِ بجديد لو قلنا إن هناك ضياعاً وشتاتًا تعيشه الهوية السورية، فمعظم شرائح الشعب من الطلاب وغيرهم، والكثير أيضاً من المحسوبين على الطبقة المثقفة لا يعرفون شيئاً عن التاريخ الحقيقي السوري القديم، ولهذا ينحصر تفكيرهم بشبه الجزيرة العربية والإسلام. هؤلاء يعيشون اغترابًا عن التاريخ الأصيل للأمة السورية أما في قراءة الحاضر وفهم المستقبل فهما مرهونان حكمًا بفهم التاريخ الحقيقي، لكن حين يكون مموهًا فلن ندرك أيًا من الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وجميعهم ضمن دائرة زمنية واحدة، الحاضر ليس أكثر من اللحظة الحالية، بعدها ستصبح جزءًا من التاريخ، عندما ندرك بشكل واقعي هذا الجزء المهم من الدائرة الزمنية قد نستشرف المستقبل أو ما سوف يحدث سواء على مستوى الفرد أو الأمة.”
في منهاج التاريخ وغيره، معروفٌ أن العملية التربوية في سورية قامت لسنوات طويلة على التلقين والحفظ لكمٍ هائلٍ من المعلومات، ينتهي اهتمام الطالب بها بمجرد انتهاء الامتحانات. نظراً لانتفاء الجدوى من التحفيظ، كان لا بد من إعادة النظر والبدء بوضع مناهج جديدة عام 2009، تم الانتهاء منها عام 2012، لتشهد فترة الحرب الأخيرة، تحديداً عام 2016 وضع ما سمي بـ”الإطار العام للمنهاج التربوي الوطني” الناتج عن احتياجات مجتمعية والقائم على الموازنة والأولوية في توزيع المعلومات على مختلف الصفوف التعليمية.
تقول الدكتورة ناديا الغزولي مديرة المركز الوطني لتطوير المناهج التربويّة في شرح التعديل على مادة التاريخ:
“لاحظنا عدة إشكاليات منها ما يتعلق بالتواصل مع الآخر، ومن جهة أخرى لاحظنا أن الطلاب يحفظون المعلومات المقدمة لهم لكنهم لا يثقون بذواتهم وإمكانياتهم. كما ظهرت لدينا معاناة في استدامة الموارد، في النتيجة كان لا بد أن تتواءم مادة التاريخ مع هذه الأمور. ففي السابق كان المنهاج يهتم بتاريخ المنطقة المحيطة بنا والعالم دون تعمق في تاريخنا. كذلك، كان الاهتمام منصباً على الجانب السياسي من التاريخ فقط. لذلك قدمنا معلومات وتعديلات تتناول الاتجاهات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بموازاة أمثلة مناسبة، منها إيصال السوريين مياه عين الفيجة إلى دمشق، رافضين أن يقوم الاحتلال الفرنسي بهذه المهمة، فكانت مبادرة مجتمعية ومشروعاً وطنياً بامتياز”.
هكذا عاد الفريق المعني بتطوير المناهج إلى الإشكاليات التي ظهرت سابقًا في المناهج القديمة والبحث لها عن حلول، إضافة إلى دراسة الصفات النمائية والعمرية للطفل والقدرات العقلية التي يتمتع بها في مختلف الأعمار لاختيار ما يناسبها. فما الفائدة مثلاً من الكم الهائل من المعلومات المقدمة للطالب؟ وما المطلوب منه من الصف الأول حتى السادس؟ بناء على هذا وضعوا معايير ومؤشرات أداء. توضح الغزولي: “من الأولويات أن يعرف الطالب معلومات عن اكتشاف الزراعة والأبجدية ودولاب الفخار في سورية، يجب أن يكون هذا في المرحلة الابتدائية ليتم التوسع في مراحل تعليمية لاحقة بطريقة ممنهجة علمية تتناسب مع الإطار العام للمناهج في سورية.”
وهنا توضح الغزولي بأن وضع المعلومات يأتي من باب الحاجة لدعم القيم والاحتياجات التي حددها الإطار، منها “التنمية المستدامة، المواطنة، تمكين الذات، التواصل”. وفي مجال “تمكين الذات وتحديد هدف في الحياة” يتضمن المنهاج حواراً بين أب وابنه، ورد في نص مكتشف في”مدينة ماري”، وفيه يسأل الأب ابنه “أين ستذهب؟” يجيبه “لن أذهب إلى أي مكان”، فيقول له “لماذا لا تذهب إلى بيت ألواحك؟” أي المدرسة. يسأله الابن “لماذا”؟ فيقدّم له أهدافًا: “ليذكرك إلهك بالخير، لتكون الأول بين علماء مدينتك.”
تستعرض مديرة المركز الوطني لتطوير المناهج مثالاً آخر ورد في منهاج الصف الثامن، يحكي عن أقسام الحمام في عصور الحضارة العربية الإسلامية، وتقول: “تعرّض هذا المثال لانتقادات كثيرة لكن الهدف تنبيه الطالب إلى أهمية موضوع النظافة لدرجة أن هناك تصميماً معيناً للحمام، يضمن تأمين المياه وكيفية تصريفها، فهل نحافظ اليوم على الماء بنفس الطريقة؟ وفي مثال ثالث يأتي الحديث عن “ابن الجزري”، الذي تمكّن من حل معضلة المياه الموجودة في مناطق منخفضة وتأمينها للأراضي الزراعية في المناطق المرتفعة باختراع المضخة. ومما تم تسليط الضوء عليه أيضاً مشكلة عانى منها سكان الساحل الكنعانيين في تعاملهم مع تجار من كل أصقاع العالم يتحدثون لغات مختلفة “مصريين، حثيين، يونان، عرب”، ولحلّها اخترعوا الأبجدية.”
استناداً إلى كل ما ذُكر، ترفض الغزولي فكرة تجاهل منهاج التاريخ لأي مرحلة تاريخية بما فيها من فكر وثقافة ولغة. تقول: “لا يمكن قراءة التاريخ دون العودة إلى القديم منه، وعلى ذلك فالهدف من كتاب التاريخ في مختلف المراحل التدريسية أن نعرض للطالب نماذج عن كيفية بناء الحضارة سابقًا وفق ظروف وشروط محددة، ليكون السؤال الرئيسي: كيف سنبني الحضارة وفق الظروف الحياتية الحالية؟ وإلا فإنّ تحفيظ التاريخ لا تعني سوى الدوران في حلقة مفرغة. التاريخ لا يُحفظ بل يُقرأ. لهذا السبب غيرّنا أسس القراءة والمهارات المطلوبة، وركزنا على مهارات التفكير التاريخي، الإدراك المكانــي، الفهــم التاريخــي، اتخاذ القرار، التفكير الناقد، البحث والاستقصاء التاريخي، واستندنا إلى أربعة أسس للمادة هي: السبب والنتيجة، الأهمية التاريخية، الاستمرار والتغيير، وجهات النظر التاريخية.”
وعلى سبيل المقارنة، تضيف الغزولي: “كان مدرّس مادة التاريخ في المناهج القديمة يرشد الطالب إلى الأسباب والنتائج، ليحفظها ويكتبها في الامتحان، لكنه اليوم يقدم له الأحداث ويطلب منه التفكير بأسبابها ونتائجها أو إيجاد علاقة بينها، بالتالي اختلفت رؤية القراءة.”
تشرح الغزولي عن ضرورة فهم التاريخ لقراءة الحاضر: “في منهاج التاريخ الحالي نعطي الطالب معلومات ليلحظ المستمر والمتغير فيها، وإلا فسيعيد اختراع العجلة رغم أنها مخترعة. إذًا حتى نبني حضارة يجب أن ندرس الموجود حالياً، وهو المستمر، لنبني عليه مع دراسة كيف يمكن أن يتغير؟ وهذا هو السبب في تغطية أي مرحلة تاريخية عند الطالب سواء كانت قديمة أو حديثة. ليس الهدف قدمها أو حداثتها، إنما معرفة المبادئ التي يمكن العمل عليها لبناء حضارة بالاستفادة من مختلف المراحل السابقة.”
تؤكد الغزولي أن القائمين على المناهج التربوية استفادوا من تجارب عدة دول تهتم بتدريس تاريخها الوطني حتى الصف السادس تقريباً، ثم ينفتح المنهاج على الدول المجاورة حتى الصف التاسع، بينما تهتم المرحلة الثانوية بما هو عالمي. وفي مناهجنا يتناول كتاب التاريخ للصفين السابع والعاشر الأدبي العصور القديمة، وفي الثامن والحادي عشر الأدبي بداية العصور الميلادية وعصور الحضارة العربية الإسلامية، وفي البكالوريا والتاسع العصور الحديثة والمعاصرة.
عدنا إلى الصفحات المشار إليها، وفيها المعلومات المذكورة لكن التحقق من صحة ما قاله الباحث أو ما هو وارد في المنهاج يحتاج إلى عدة مصادر موثوقة تتضمن آراء لعلماء وباحثين مختصين في الآثار والتاريخ وغيرهما للبت في تفاصيل غاية في الأهمية والدقة، ومع ذلك من الضروري الرجوع إلى ما ورد في كتب مادة التاريخ، توثيقًا وتصحيحًا لأي خطأ مهما بدا بسيطًا وعابرًا، وإذا كانت المناهج معنية بإعطاء الطالب معلومات تتناول مختلف المراحل التاريخية كما ورد، فيجب أن تكون الأولوية للتاريخ السوري، لاسيما أن بعضًا من مجرياته شكّلت مصدرًا لخلافات عميقة اليوم.