قراءة في خطاب سعاده “الأول من آذار 1938”
من بين كل الخطب التي ألقاها سعاده في احتفالات مناسبة ميلاده في الأول من آذار، يحتل خطاب سنة 1938 موقعاً خاصاً من ثلاث نواحي مفصلية: أولاً، القراءة التاريخية الاجتماعية للظروف القومية العامة التي رافقت تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي سنة 1932. ثانياً، ما واجهه الحزب داخلياً بعد انكشاف أمره سنة 1935 والإشكالات التي ظهرت عند بعض القياديين والأعضاء. ثالثاً، رؤية سعاده إلى مستقبل العمل الحزبي سواء في الوطن أو في مناطق عبر الحدود. علماً بأن سعاده نفسه إضطر لمغادرة الوطن بعد تكشف طبيعة المؤامرة التي حاكتها ضده وضد حزبه الأجهزة الأمنية الفرنسية في بيروت ودمشق.
بعد ثمانين سنة بالتمام والكمال على خطاب سنة 1938، يتبين لنا أن النواحي الثلاث المشار إليها أعلاه ما زالت راهنة، بل هي أشد راهنية اليوم عمّا كانت عليه في تلك الفترة. ذلك أن الخطاب تأريخي وصفي بقدر ما هو رؤية إستشرافية لأوضاع الأمة السورية وأحوال الشعب السوري في كل كياناته. وقد أراده سعاده أن يكون شهادة على الواقع، وفي الوقت نفسه دليل عمل للخروج من التخبط السياسي والانحطاط المناقبي في الأمة وفي الحزب السوري القومي الاجتماعي أيضاً.
ومن ميزات سعاده أنه ما كان ليتردد قط في المعالجة العلنية للعديد من المسائل التي أفرزتها الممارسة الحزبية في حالات مثل الانتخابات النيابية، أو في تصرفات بعض القيادات المركزية خلال فترات سجنه بين 1935 و1937. والذين يراجعون مقالات سعاده في جريدة “النهضة” آنذاك يجدون انتقادات مباشرة وشفافة لما أظهرته الممارسة السياسية من رواسب الأنانية والفردية والسقوط الأخلاقي لدى بعض القياديين الذين خرجوا عن قرارات الحزب المركزية خدمة لمصالحهم الخاصة أو العائلية. إن منهج سعاده الثابت في مخاطبة الشعب السوري والقوميين الاجتماعيين هو الصراحة التامة… وإن كانت جارحة وصادمة في بعض الأحيان.
الناحية الأولى: واقع الأمة
يقول سعاده في خطابه، بعد العرض التاريخي لأوضاع الأمة السورية منذ الفتح الروماني: “كان التضعضع القومي عاماً وكاد يقضي على شخصية الأمة قضاء مبرماً، فلم يبق لها سوى بعض المؤسسات كالمراجع الدينية والمعابد والسلطة الإقطاعية ونظام العشيرة أو رابطة العائلة الدموية. ثم آذنت السلطنة العثمانية بالتفكك والانحلال وأخذت عوامل الشخصية السورية تختلج اختلاجات الحياة وتتململ، ووجدت في تضارب مصالح الدول الكبرى ومصالح الدولة العثمانية فرصة تساعدها على التملص من قبضة تركية. ولكن المعنويات كانت لا تزال صرعى، وظلمة الخمول مخيمة على الشعب. فعاد الأمر إلى المؤسسات القديمة وبعض الأفراد الذين بنوا نظرياتهم على تلك المؤسسات واستمدوا فلسفتهم السياسية منها. فكانت النتيجة تخبطاً اختلطت فيه السياسة بالدين والاجتماع بالسياسة”.
هذا “التخبط” الذي عاينه سعاده قبل مباشرته عملية تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي ما زال مهيمناً على واقعنا السياسي والاجتماعي حتى اللحظة. كل ما في الأمر أن العناصر المكوّنة لهذا الواقع تعمد إلى تغيير مواقعها حسب الظروف، لكنها لم تختفِ من حياتنا القومية. بل أن التحالف غير المقدس بين “المراجع الدينية والسلطة الإقطاعية ونظام العشيرة” يكاد يقضي كلياً على المتحدات الاجتماعية لصالح منعزلات دينية ومذهبية وعشائرية وعرقية تمعن تمزيقاً في عوامل وحدة الحياة بين السوريين. والظاهرة الأخطر هنا، تماماً كما كانت في مطلع القرن الماضي، هي ذلك التواطؤ بين القوى المحلية و”حماتها” الإقليميين والدوليين وفق اصطفافات دينية ومذهبية.
الجغرافيا السورية “محتلة”، والمجتمع السوري ممزق. هذا هو الواقع القومي الراهن. وليس من المنطق التلطي خلف شعارات فضفاضة من مثل “محاربة الإرهاب” و”صمود قوى الممانعة” إذا ما أردنا فعلاً الانتصار في معركة النهوض القومي الحقيقي. لا أحد ينكر بعض الإنجازات الميدانية هنا وهناك، لكن يجب أن لا نعمى عن الكوارث الاجتماعية والاقتصادية، بل والجغرافية الناجمة عن تلك الإنجازات. فالضرر الأكبر غير المباشر سيظهر في روحية الناس بعد أن تهدأ ساحات القتال.
يقول سعاده في خطابه: “أما الظروف الروحية النفسية المتولدة من هذه الحوادث ومن الظروف السياسية الاقتصادية المتأتية عنها فهي ظروف انحطاط في المناقب عز نظيره. فإن فقد الثقة بالنفس وبقوى الأمة وإمكانياتها السياسية والاقتصادية، والاستسلام للخنوع، أنشأ طائفة من المأجورين للإرادات الأجنبية القريبة والبعيدة يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الخارجية والحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في المناقب والأخلاق. ومن صفات هذه النفسية العامة الخداع والكذب والرياء والهزؤ والسخرية والاحتيال والنميمة والوشاية والخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية، ولو كان عن طريق الضرر بالقريب وعضو المجتمع”.
…وكأن سعاده يصف مجتمعنا السوري، ومجتمعاتنا العربية، في آذار 2018!!
الناحية الثانية: الشأن الحزبي
الواقع القومي الذي عايشه سعاده في سوريا منذ أن عاد إلى الوطن سنة 1930 دفعه إلى وضع مباديء القضية القومية “التي هي مصدر جلاء الأفكار ووحدة العقيدة والاتجاه”، كما جاء في الخطاب. أي أن الأولوية بالنسبة إليه هي للمباديء، للعقيدة، للأفكار التي توحد الاتجاه. ثم تأتي بعد ذلك “الوسائل العملية لتحقيق القضية القومية”. الحزب الذي أسسه سعاده هو، في الأساس، وسيلة عملية “قوية بمعنوياتها، حميدة بمناقبها، سليمة بروحيتها، صالحة لحمل أعباء القضية”. فالقضية القومية هي بوصلة أي عمل حزبي، هي المقياس الذي على قاعدته يمكن الحكم ليس على القيادات الحزبية فقط وإنما على الأعضاء أنفسهم في سياق بناء الإنسان الجديد، إنسان النهضة القومية الاجتماعية.
لذلك كان من المستحيل على سعاده أن يسمح بأي خلل داخل المؤسسة الحزبية، “فإنني لو تركت الفساد يستمر مندمجاً مع الصلاح والجدارة لما كان نمو الحزب سوى تضخم لا يلبث أن ينتهي إلى التفسخ والفساد”. المعادلة هنا بسيطة وحازمة في الوقت نفسه: إذا كان الفساد متفشياً في الشعب السوري كما وصفه سعاده أعلاه، فإن الحزب الذي نشأ لمكافحة الانحطاط وبناء الإنسان الجديد لا يمكن أن يقبل بأي شكل من الأشكال بروز عوامل مخالفة للجوهر المناقبي للعقيدة السورية القومية الاجتماعية. يقول سعاده في خطابه: “إن عملية تنقية الحزب السوري القومي الاجتماعي من العناصر الفاسدة غير الصالحة لحمل الرسالة القومية المجددة ابتدأت مع ابتداء الحزب، ويجب أن تستمر ليكون الحزب متيناً جديراً بحمل أعباء النهضة القومية“.
الناحية الثالثة: رؤيا المستقبل
ألقى سعاده خطاب الأول من آذار سنة 1938 في أجواء تجدد التوتر السياسي والقانوني مع سلطات الاستعمار الفرنسي في بيروت، ما أنذر بانهيار الهدنة المؤقتة بين الطرفين. ولا شك في أن محتويات الخطاب تؤشر بشكل غير مباشر إلى قرب مرحلة المواجهة مع السلطات مرة أخرى. أحد جوانب الخطاب يعطي القوميين الاجتماعيين عرضاً شاملاً لواقع الأمة السورية ولظروف نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي كي يبقى الأعضاء على وعي بالخصائص المميزة لنهضتهم القومية، كما أوضحنا في ما سبق. لكن الجانب الأهم في الخطاب، من وجهة نظرنا، هو الوصية التي يزوّد بها سعاده القوميين الاجتماعيين، مدركاً أن ساعة الحسم مع الفرنسيين وأعوانهم آتية لا ريب فيها… ما قد يؤدي إلى السجن مجدداً أو الاغتيال أو الهجرة القسرية. وفي جميع الأحوال، على القوميين الاجتماعيين أن “يقودوا” حزبهم في غياب المؤسس.
إن الصعوبات الكبيرة التي تخطاها سعاده في مرحلة التأسيس لم تغيّر ذرة واحدة من إيمانه الذي لم يتزعزع بحق الأمة السورية في أن تحتل مكانها اللائق تحت الشمس، وأيضاً بالأصالة الكامنة القادرة على الفعل عند الشعب السوري. يقول في الخطاب: “إن الاختبارات والتجارب التي مرّت بالحزب السوري القومي، وهو بعد في مهده، كانت اختبارات وتجارب عظيمة فاقت بقسوتها كل الاختبارات والتجارب التي مرّت بالكائنات الحية الشبيهة بالحزب السوري القومي. وما خروج الحزب السوري القومي سليماً من هذه الاختبارات العظيمة والتجارب الشديدة سوى الدليل القاطع على قوته التي لا تُغلب، وعلى جدارته بالبقاء وعلى تفوقه في النزاع العنيف بينه وبين القوات العاملة على قتل الأمة في سبيل حياتها هي”.
“جدارة البقاء” للحزب السوري القومي الاجتماعي، من حيث هو “حركة الشعب العامة”، تستدعي التمسك بمزية خاصة ألا وهي أولوية العقيدة. فالسوريون اليوم، كما كانوا على مدى القرن الماضي، هم بأمس الحاجة للمباديء القومية الاجتماعية التي تخرجهم من البلبلة الروحية الفكرية. “فالقضية القومية لا تنحصر في فكرة التحرر السياسي من ربقة دولة مسيطرة، بل القضية القومية تكون في إدراك شخصية الأمة وحاجاتها وإيجاد المباديء الموحدة صفوفها واتجاهها، ووضع أسس كيانها الثابت المجهز بجهاز البقاء والتمييز بين حقوقها وحقوق الجماعات الأخرى”.
إن معارك عديدة عسكرية وسياسية واقتصادية تدور على امتداد جغرافية الأمة، من الشام إلى العراق إلى فلسطين، في البر والبحر والجو. وهي تستلزم الحسم بقوة السلاح وبقوة الفكر معاً إذا ما أردنا بناء مستقبل آمن لأجيالنا التي لم تولد بعد. لكن المعركة الأكبر والأصعب هي معركة الهوية، معركة الانتماء القومي، معركة وعي مصالح الأمة الحيوية في الصراع العالمي. معظم الكوارث التي حلت بنا، والهزائم التي مُنينا بها، تجد جذورها في تشرذم المجتمع السوري والمجتمعات العربية إلى فسيفساء غير متجانسة. ولا أمل في التغيير، ومن ثم النهوض، إلا في اعتبار “إن قضية شخصيتنا ومصالحنا لا يمكن أن تكون خطة أو وسيلة، فهي الأساس الذي نبني عليه كل منشآتنا والمرجع لكل خططنا”.
…هكذا يخاطبنا سعاده منذ الأول من آذار سنة 1938!