ذاكرة النهر
منذ أن قرأت مسرحية “المنبوذ” للرفيق الراحل سعيد تقي الدين في وقت ما من نهاية ستينات القرن الماضي، ترسّخت في ذهني صورة شاعرية للنهر من حيث هو إرادة حياة وصيرورة عطاء. في أحد المقاطع المعبّرة، يقول “رفيق” سائق البوسطة مخاطباً “جواد” الشاب المتردد الضائع: “نعم كنز… لقيت كنزاً. لقيت نفسي. كنت قطرة من مياه لا تروي، تتبخر، ولا شأن لها، عندما كنت وحدي. وقفزت إلى النهر، فلم أعد ذرة من مياه. أنا بعض هذا النهر. أنا النهر. النهر الغائر الهائج الواضح الهدف، الجارف ما يعترضه، المعلن بهديره ودويّه عن وجوده وثورته وعطائه، وعن البحر الذي يقصد إليه…”
واندمجت في مخيلتي صورة العمل الحزبي مع مشهدية “النهر الغائر الهائج الواضح الهدف…”
وأتيحت لي في خريف العام 1974 فرصة العمل مع عدد من الرفقاء في منطقة جسر الباشا التابعة لمنفذية الضاحية الشرقية، تحت إشراف المخرج المسرحي الرفيق الراحل مخايل الأشقر الذي كان يعد لتقديم “المنبوذ” في ربيع العام 1975، مسنداً إليّ دور “رفيق”. فكانت تلك مناسبة لحفظ القسم الأعظم من حوارات المسرحية عن ظهر قلب. لكن المؤسف أن اندلاع الحرب الأهلية في نيسان 1975 قضى على كل الجهد الذي بذلناه على مدى ستة أشهر تقريباً
.
وظلت صورة ذلك “النهر” معي حتى بعد انتقالي للعمل في لندن. لكن حدث ذات يوم أن حضرت ندوة شارك فيها عدد من علماء الآثار من سوريين وعرب وأجانب، تناولوا آخر المكتشفات الآثارية في وادي الرافدين. وفي أحدى المحاضرات المدعومة بالصور والتخطيطات، كشف منقب بريطاني أنه تم العثور على أطلال ميناء كبير في مدينة بابلية قديمة… بعيدة مسافة عشرات الكيلومترات عن أي شاطئ أو نهر! وتبين للمنقبين أن نهراً أو فرعاً من النهر كان يحاذي تلك المدينة، لكن لسبب ما تحوّل المجرى إلى مكان آخر ما أدى إلى هجران المدينة تدريجاً… قبل غيابها تحت أكوام الطين والرمال.
التفسير الذي قدّمه المحاضر لتلك الظاهرة أعطى أسباباً عدة، بعضها يعود إلى عوامل طبيعية وبعضها الآخر للتدخل البشري. الجفاف المصحوب بعواصف رملية يمكن أن يردم المجرى، وعندما تعود المياه فإنها تشق مجرى مختلفاً. الطوفان الفجائي أيضاً قد يُسفر عن النتيجة ذاتها، إذ لا يستوعب المجرى القديم الكم الهائل من المياه التي تفتح مجالاً مؤقتاً… سيصبح دائماً بعدما تعود الأمور إلى طبيعتها. وقد يتحمل البشر مسؤولية تغيير مجرى النهر، سواء بسوء استخدام المسار الطبيعي أو بشق فروع أخرى. ومع مرور الزمن، يطغى الجديد على القديم فينتهي نهر وينشأ آخر!
نهر يبدّل مجراه بفعل عوامل بشرية أو طبيعية. لكن كل هذه العوامل الطارئة لن تغيّر في المنبع الأصلي. وفي كل الأحوال لا يبقى النهر هو ذاته، بل يصبح نهراً “آخر” لا علاقة له ببداياته الأصيلة أو بما بدلته أصابع البشر أو بما ردمته عناصر الطبيعة. “النهر الغائر الهائج الواضح الهدف، الجارف ما يعترضه، المعلن بهديره ودويّه عن وجوده وثورته وعطائه، وعن البحر الذي يقصد إليه”، حسب تعبير الرفيق سعيد تقي الدين، لا يعود “واضح الهدف” ولن تكون له القدرة على معرفة “البحر الذي يقصد إليه”. لقد تغيرّت الأهداف وتبدَلت الغايات وضاعت بوصلة المقاصد العليا، فلم ترث الأجيال اللاحقة سوى الذاكرة فقط… ذاكرة نهر ضيّع مجراه في تيه من الرمال.
صحيح وألف صحيح…
كأنها قصة نهر الفرات بتفاصيلها تتجدد في قصتنا وواقعنا…