– د. فاتن المر”الإسم، الشهرة، الطائفة”
قراءة في رواية “معاناة لقيط في بيروت” للكاتب الفرنكفوني رامي الزين[1]
الترجمة الحرفية للعنوان تكاد تقول كل شيء، تفصح عن الإشكالية: “معاناة لقيط في بيروت”، واللقيط ليس ذلك الطفل المجهول الوالدين؛ إنه الشخص الذي، من منظور “الغيتوات الطائفية”، لا ينتمي إلى أي منها، يرفض تقسيماتها، إقصاءاتها، وأحكامها المسبقة. هو المواطن العلماني، الذي يشعر، في بلد تفاقم فيه الوباء الطائفي والمذهبي، أنه مضطهد، محارب، مرفوض، وإن أمضى حياته في السعي إلى مد الجسور وتخطي الحواجز، وإن حمل اسماً يدل إلى سعيه، “يد”، اليد الممدودة لتطال كل الأيدي داخل المجتمع الواحد.
“يد”، بطل الرواية، هو، وفقاً لتصنيف الناقد جورج لوكاتش، بطل إشكالي، بطل يبحث عن قيم حقيقية في مجتمع رجعي، بطل يتمتع بوعي أوسع من تركيبة المجتمع المعاصر له، يسبح عكس التيار. والتيار في لبنان يسير مع هيمنة الطوائف وأمرائها، يصنف أبناء الشعب، يكاد أن يطبع المذهب الذي ولدوا فيه على جبينهم لكي تبقى الأمور واضحة للعيان، هكذا يكون المواطن المرضى عليه من قبل التيار المهيمن، “… كما يكون المرء مسلماً أو مسيحياً في بيروت، منذ لحظة التكوين، بشكل أساسي، نهائي، لا عودة عنه، مدموغ على جسده، حتى نفسه الأخير، وإن كان ملحداً أو غير ملتزم بالدين”.
ما يميز رواية رامي الزين هم عدم الخوف من تسمية الأشياء بأسمائها، وهو أمر غير مألوف في الروايات اللبنانية، سواء كانت مكتوبة باللغة العربية أو بالفرنسية، حيث يتفادى الكاتب عادة ذكر الطوائف والمذاهب والأحزاب، ويتلطى وراء ستار من العموميات تجنبه وضع الأصبع على الجرح. أما رواية رامي الزين[1]، فهي من الواقعية بحيث تكاد تشعر وأنت تقرأها أنك تستمع إلى حكاية صديق لك، زميل عالق في المعتقلات الطائفية، أو أنك تقرأ روايتك أنت، تخبر فيها عن مجرى حياة موسومة بالهرب من الطائفية التي تلاحقك في قصص حبك، صداقاتك، مسكنك وطعامك وحتى سريرك…
الطائفة الوحيدة المضطهدة في لبنان هي مجوعة غير الطائفيين. إليهم ينتمي “يد”، بطل الرواية الذي نتابع مغامراته حول البحث عن مكان له في مجتمع يغلق الأبواب في وجه أمثاله.
أما البطل الإيجابي، كما يسميه لوكاتش، فهو من يسير مع التيار، هو المواطن القابع داخل الغيتو الطائفي، مستأنساً بجدرانه التي بنيت على الموروث من الأحكام، الواثق بصحة تلك الأحكام، الطائفي الذي لا يطرح الأسئلة على نفسه ولا يعيد النظر بما قيل له. هذا حال لين، صديقة الكاتب حين تكتشف أنه ليس مسيحياً، وتأخذ بتعداد الأسباب التي تجعله لا يبدو كمسلم، وحال أصحاب المنازل الذين يرفضون البيع لشخص مسلم في المناطق المسيحية، وحال ربى، ابنة عم يد المتدينة، التي تلاحق ابن عمها ساعية إلى فرض ممارسات دينية لا تقنعه، ناجحة في محاصرته إلى أن ينصاع لقناعاتها، حال الشيخ الذي يرفع صوت الآذان فيبدو ليد أن الحرب قد انفجرت مجدداً…
ولعل المشهد الذي نرى فيه الشخصية الرئيسية عالقة في نفق، محاصرة بمياه الأمطار، لا يدل فقط على الفساد الذي يحول كل خطوة يقوم بها المواطن إلى حرب طاحنة، وعلى الأكثر خاسرة، بل يشير بشكل رمزي إلى وضع البطل الإشكالي العالق في شرك أباطرة الطوائف، المهدد، كما المجتمع بأكمله، بالغرق.
ولكن، على العكس من شخصيات كتاب آخرين كأمين معلوف، تلك الشخصيات الرافضة للواقع التي تحزم حقائبها وترحل، تاركة الوطن للمصير الأسود المرسوم له، فإن شخصيات رامي الزين تختار، مثل كاتبها، البقاء وخوض المعارك، وإن كانت تلك المعارك تبدو أحياناً دونكيشوتية. فبطل “معاناة لقيط في بيروت” ليس بطلاً مأزوماً يختار الاستسلام، بل هو بطل مشاكس في مجتمع مأزوم، لا يهادن، بل يلجأ إلى البحث عمن يشبهونه ليعينوه على مواصلة المسير. قد يخفق في أكثر الأحيان، ولكنه قد ينجح حيناً.
[1] رامي الزين، “معاناة لقيط في بيروت”، لارماتان، باريس، 2017.