“ثقافة” الأصابع المتهورة
إذا وضعنا وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة في ميزان التقويم، سنجد أنها قادرة على تقديم الغث والثمين في الوقت نفسه. لكن سيتبيّن لنا أيضاً أن كفة فوائدها ستميل أكثر على حساب مضارها… وذلك بناء على مجالات استخدامها، وطبيعة مستخدميها، والغاية الأساسية منها. وهنا مكمن الخلل الذي بات يشكل “ثقافة إفتراضية” تنتجها الأصابع المتهورة، فتصبح هباء منثوراً وفق القول المأثور: العلم الذي لا ينفع كالجهالة التي لا تضر!
تطبيقات التواصل الاجتماعي شرّعت أبواب العلوم والمعارف أمام الجميع بشكل لم يسبق له مثيل، وهذا أمر إيجابي لأنه يكسر الاحتكار الذي مارسته المؤسسات الإعلامية الكبرى على مدى عقود. ومن أهم نتائج هذه الديموقراطية الإعلامية أنها لم تعد “معرفة في اتجاه واحد”، أي أن المتلقي العادي أصبح بإمكانه استعمال تلك المنصات بهدف إبداء الرأي أو نشر المعلومات أو التعليق على الأحداث… أو حتى الترويج لأخبار كاذبة غايتها تضليل الرأي العام.
ما ذكرناه في الأعلى ليس أمراً جديداً على الإعلام الحديث، بل هو في صميم كل سياسة إعلامية ناجحة بغض النظر عن خلفياتها الفكرية. والفارق الأساسي الآن بين الإعلام التقليدي المتمثل بالصحافة المطبوعة والمسموعة والمرئية وبين الإعلام “الحديث” كما تؤمنه وسائط التواصل الاجتماعي يكمن في خصوصية الأول ومشاعية الثاني، مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات قانونية ومعرفية.
كل ما يُنشر على “تويتر” و”فايسبوك” و”واتس أب” و”إنستغرام” وغيرها هو مادة إعلامية بشكل أو بآخر. ونحن هنا لا نريد التركيز على مشاريع ومخططات أولئك الذين يتخفون خلف هويات مختلقة أو هيئات مجهولة، بقدر ما نسعى إلى إظهار هشاشة “الثقافة الإعلامية” التي ما عادت تصدر عن إعمال التفكير والروية في المسائل الأساسية، وإنما تتحكم بها المشاعر المحتقِنة والأصابع المتسرعة بحيث يختنق العقل تحت طبقات الثرثرة والصياح المنتشرة على نطاق واسع.
ويبدو لنا أن معضلة المشاعية الإعلامية مرشحة للتصعيد أكثر، بالتوازي مع بروز السياسات الشعبوية في كثير من دول العالم. ولعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الشعبوي بامتياز، يعطينا أبرز مثال على طغيان وسائط التواصل الاجتماعي (تويتر في هذه الحالة) حتى على المؤسسات المركزية لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية. فهو يبدأ يومه، عادة، بتغريدات ذات خصائص شخصية منفلتة من قيود البروتوكول الرئاسي، وربما متناقضة مع المواقف الرسمية المعلنة. وأخطر ما تحمله تغريدات ترامب، أو بعضها على الأقل، معلومات ثبت لاحقاً أنها تجانب الواقع والحقيقة!
لا توجد حتى الآن جهة معينة تسوس وسائط التواصل الاجتماعي وتنظم شبكاتها اللامحدودة. ومن غير المتوقع نشوء مثل هذه الجهة في المدى المنظور، حتى لو تم تفاهم حول ذلك على المستوى العالمي. وإلى أن تقوم الآليات الضابطة الحازمة، وبانتظار أن يتلاشى إنبهار “الجماهير” بهذه المشاعية الإعلامية التي أعمت البصر والبصيرة، لا يبقى أمامنا إلا التعوذ بالقوة العاقلة من “ثقافة” الأصابع الرشيقة المتهورة.