تأثير أساطير منطقة الهلال الخصيب- إليسار حاجوج
تأثير أساطير منطقة الهلال الخصيب في الأعمال الغرافيكية
في القرنين التاسع عشر والعشرين
(أمثلة مختارة)
يشكل هذا البحث موجزا لأطروحة ماجستير تقدمت بها الطالبة إليسار حاجوج إلى قسم الغرافيك (الحفر والطّباعة) في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ونالت عليها شهادة الماجستير. يمكن لمن يرغب بالحصول على نسخة الأطروحة كاملة ان يحمّلها من صفحة “كتب الفينيق”. |
الفينيق
بدأ الإنسان مسيرته الحضارية، منذ أن وجد نفسه في صراعٍ مع البيئة المحيطة به لإثبات نفسه كجنسٍ متميّز. ففي بداية الأمر شرع في محاولة كشف حقيقة العالم والحياة والبدايات. كذلك شغلته النهايات والغايات، رغبة منه في السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لرغباته ومصالحه. قد كانت الأسطورة، كظاهرة من أهم ظواهر الثقافة الإنسانية، وسيلته إلى فهم هذه المسائل، فنكاد لا نجد شعباً إلا ولديه أسطورة في الخلق والتكوين وأصول الأشياء.
بدأ الإنسان في إنتاج إنجازاته الفكرية والمادية التي أبدع فيها فنّاً وأدباً وعلماً والتي تراكمت في تطوّر مستمر حتى يومنا هذا، حيث خاض ميادين العلوم المختلفة كالفلسفة والفنون، وامتهن الحرف والصناعات المختلفة، فتكوّنت أولى مظاهر الثقافات الإنسانية التي ميّزَت شعباً عن سواه، في التقاليد وأسلوب المعيشة واللباس والمعتقدات والقيم.
وتمتّعت منطقة الهلال الخصيب بميّزات أهلتها لاحتضان أولى الحضارات الإنسانية التي عرفها العالم و توالت الحضارات فيها دون انقطاع إلى يومنا هذا، فباتت رقعةً حضارية واحدة ذات وِحدة ثقافية تتمتع بالانسجام والتكامل. لقد كانت أساطير هذه المنطقة المحور الأساسي الذي دارت حوله أساطير الثقافات الأخرى، حيث انتشرت هذه الأساطير بمنظوماتها الرمزية المبتكرة في الاتجاهات الأربعة. فالحضارة الأوروبية الحديثة ذات ملامح ومعالم موروثة من حضارة بلاد الإغريق الذين وصلتهم المعارف كنتاج حضاري من محطات التبادل مع منطقة الهلال الخصيب.
وقد رافق الفن مسيرة الإنسان الحضارية هذه، ليس فقط لتحقيق المنفعة الملموسة في الحياة المعيشية، إنما ليحفظ اتساق كيان الإنسان الداخلي، ويميّزه عن باقي مخلوقات الأرض. فكان فن الغرافيك (الرسم والطباعة) أحد أهم الفنون التي حفظت التراث الحضاري للإنسان بتقاناته المختلفة، وكانت الأختام التي ظهرت لأول مرة في منطقة الهلال الخصيب أرومته الأولى، ثم جاء فن الحفر والطباعة كإحدى أبرز الأحداث الهامة في مجريات تطور تاريخ الفن في العالم، والذي وجد أساس تقاناته عند اختراع الورق.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، ظهرت مفردات المنظومة الرمزية لأساطير منطقة الهلال الخصيب في ثنايا الأعمال الفنية عموماً وأعمال فن الغرافيك (الرسم والطباعة) خصوصاً. فمن خلال رسوخ هذه الأساطير في اللاوعي الفردي والجمعي، وتسربها في نفوس وعقول الشعوب تباعاً، ينتهي بها المطاف متجسدة في أعمال فناني الغرافيك، حيث أنها ترسّخت في حضارات الشعوب وانتقلت بالتوازي مع تطورهم الفكري والثقافي، ثم نفذت إلى سطح الوعي المعرفي لتتجلى في أعمال فن الغرافيك الذي لعب الدور الأكبر في إيصال العقلية الرمزية لمنطقة الهلال الخصيب وأساطيرها إلينا، عارضأ وموّثقاً ما مرّت به من تغييرات أثناء مسيرتها عبر حضارات أخرى كالإغريقية والرومانية، من خلال نسخ الأعمال الفنية ونشرها.
تعرض الباحثة في هذه الدراسة تأثير أساطير منطقة الهلال الخصيب ومنظومتها الرمزية في أعمال الغرافيك (الرسم والطباعة) من خلال تلك الآلية التي سمحت لفناني القرنين التاسع عشر والعشرين باستمرار استخدام رموز هذه الأساطير وتصوير موضوعاتها التي مازالت تحمل معانيها وقيمها. يقع البحث في أربعة أبواب بالإضافة إلى تجربة الباحث.
الباب الأول: الأساطير في منطقة الهلال الخصيب
وفي هذا الباب تتطرّق الباحثة إلى تحديد مفهوم الأسطورة وتعريفها لغوياً واصطلاحياً لتمييزها عن سواها من الأجناس الأدبية كالخرافة والحكايات الشعبية وغيرها. فالأسطورة أبطالها آلهة أو أنصاف آلهة، وموضوعاتها شمولية وجدّية كالتكوين والموت ومعنى الحياة، تُسرد في قالب شعري ضمن طقوس نظام ديني محدد. وكذلك تعرض الباحثة أهم مظاهر نشوء الأسطورة وأهميتها في الفكر والثقافة الإنسانيين وعلاقتها بالحضارات الحديثة والعلوم البحتة، ومسيرتها مع الفلسفة والديانات في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث هوت ثم تحررت ليظهر علم الميثولوجيا كواحد من أهم فروع العلم والمعرفة.
وفي الفصل الثاني من هذا الباب تعرض الباحثة لمحة عن منطقة الهلال الخصيب وحضاراتها، من النواحي الاستراتيجية والتاريخية والجغرافية، وتسليط الضوء على العوامل التي جعلت من هذه المنطقة مهد الحضارات الأولى للإنسان كالحضارة السومرية والبابلية والأكادية والكنعانية وغيرها، والإنجازات الحضارية لتلك الشعوب التي سطرت أولى صفحات الحضارة الإنسانية. وتتبعها الباحثة بسرد أحداث أهم أساطير هذه الشعوب وبيان آلهتهم الرئيسية، كأساطير الخلق وأصول الأشياء، وأسطورة الطوفان وملحمة جلجامش التي باتت رمزاً من رموز المشكِّل الإنساني، وكذلك قدموس واختطاف أوروبا التي أعطت اسمها لقارة لم تكن حينئذ تحمل اسماً. وأسطورة تموز وهبوط عشتار إلى العالم السفلي التي تحمل معاني البعث الإلهي والانتصار على الموت لتتم دورة الحياة في تعاقب فصول السنة.
الباب الثاني: آلية تأثير الأسطورة في الفن والحضارة من خلال الرموز
تحدد الباحثة في هذا الباب مفهوم الرمز وتعرّفه كمكوّن أساسي في الأسطورة. وتحدد أهميته في الحضارات الإنسانية حيث أنه يحمل القيم الإيجابية التي تتعمم على أبناء المجتمع والأجيال اللاحقة، من خلال طاقته الإيحائية. تلك الرموز، التي تتجلى كمفردات لأي عمل فني عموماً وغرافيكي خصوصاً، هي لغة لاختزال الأفكار والتعبير في الفن. وكذلك توضح الباحثة آلية تأثير الأسطورة في الفن والحضارة عموماً من خلال نفاذ الرموز من رواسب اللاوعي الفردي والجمعي إلى سطح الوعي المعرفي. فبنية العقل الإنساني سمحت للأسطورة للظهور بمفرداتها الرمزية وموضوعاتها وأجوائها ورسائلها في ساحة النتاج الفني الحديث.
أما الفصل الثاني من هذا الباب، فتخصصه الباحثة لتسليط الضوء على أثر النتاج الأسطوري والحضاري لمنطقة الهلال الخصيب في الحضارة الإغريقية والرومانية وبالتالي الحضارة الأوروبية الحديثة، في دراسة تاريخية موجزة لتلك الحضارات، والحديث عن المسيرة التي خاضتها الحضارة من منطقة بلاد الهلال الخصيب إلى أوروبا مروراً بالحضارة الإغريقية والرومانية. وكذلك تذكر الباحثة كمثال لذلك التأثير بعضأ من شخصيات منطقة الهلال الخصيب الذين كان لهم الدور الأكبر في تشييد الحضارة الإغريقية وتطويرها إذ أنهم نهلوا العلم والمعرفة من النتاج العلمي والثقافي لمنطقة الهلال الخصيب واستقروا في بلاد الإغريق، كـ (تالس)، و(فيثاغورث)، و(أرسطو)، و(هيرودت)، وأيضاً تبرز الباحثة صدى أساطير منطقة الهلال الخصيب في الأساطير الإغريقية التي استمدّت الأخيرة مضامينها وموضوعاتها منها، حيث تدين الأسطورة الإغريقية بولادتها لأساطير منطقة الهلال الخصيب التي شكّلت نقطة انطلاق الفلسفة.
الباب الثالث: أهم الرموز في أساطير منطقة الهلال الخصيب، واستخداماتها في الأعمال الغرافيكية (الحفر والطباعة) في القرنين التاسع عشر والعشرين.
تحدد الباحثة التعريف اللغوي والاصطلاحي لفن الغرافيك (الحفر والطباعة)، حيث أنه فن التخطيط على أي سطح من السطوح يمكنه أن يصبح محفوراً ومطبوعاً، وهنا تكمن الصلة الوثيقة بين فن الحفر والطباعة وفن الغرافيك. فجوهر العمل الفني المطبوع هو الخاصية التكرارية للعمل الفني يدوياً أو آلياً بإشراف الفنان. وهذه الخاصية تميّز فن الحفر والطباعة عن باقي الفنون التشكيلية الأخرى. فمصطلح (الحفر والطباعة-الغرافيك) يتضمن في داخله جميع طرق وأساليب الحفر اليدوية على الخشب والمعدن، أو السطوح الحجرية من أجل طباعة الرسوم أو الصور وبشكل مطابق تماماً لهذه الرسوم. ففن الحفر والطباعة يهدف إلى تحويل الأثر المرسوم إلى أثر مطبوع، باستخدام (الكليشة)، التي تعطي أعداداً كبيرة من النسخ المطبوعة، وبذلك يكون لهذا الفن الأثر الأهم في نشر المعرفة في كل الأرجاء.
ثم تعرض الباحثة موجزاً عن تاريخ فن الغرافيك (الحفر والطباعة)، ابتداءً من صفحاته الأولى في الكهوف والمغاور وخصوصا في منطقة الهلال الخصيب، مروراً باختراع الأختام والتي ظهرت أول مرة عند السومريين، في منطقة الهلال الخصيب، التي كانت مهد اختراع الأبجدية والكتابة.
وتعرض الباحثة أيضاً موجزا لتاريخ فن الحفر والطباعة الذي ولد مع اختراع الورق، وما قدّم هذا الفن من خدمات ذات أهمية عالية للمعرفة الإنسانية، من خلال نشر المعلومات والكتب، وكذلك إنتاج اللوحات الفنية التي تعرض الباحثة أبرز تقانات إبداعها، كالطباعة البارزة والغائرة والحجرية وأهم محطات تطور فن الحفر والطباعة وصولاً إلى القرنين التاسع عشر والعشرين.
وفي الفصل الثاني من هذا الباب، تقدّم الباحثة أهم نماذج المنظومة الرمزية في أساطير منطقة الهلال الخصيب، وخصائصها والمعاني المحملة فيها، كالأفعى والأسد المجنح والعنقاء (طائر الفينيق) والثور والحصان المجنحان، وأثرهم في فن الغرافيك في القرنين التاسع عشر والعشرين. تعرض الباحثة لاستخدام هذه الرموز في صناعة الشعارات (اللوغو) بوصفه فنّاً غرافيكياً رئيساً، حيث اعتمدت كثير من الشركات العالمية في ذلك القرنين، عند وضع شعارات لها، أشكالاً اخترعتها شعوب بلاد الهلال الخصيب. وصلت هذه من الرموز والأشكال من خلال الحضارات المتلاحقة عبر الزمن. وقد بقيت الكثير من المعاني والقيم المحمّلة في تلك الأشكال راسخة فيها، ولذلك استخدمتها تلك الشركات، التماساً منها إنجاحَ أعمالها، حيث أن الشبه الكبير يتجلّى بين عدد كبير من الأشكال الرمزية في المنحوتات والرسوم القديمة من بلاد الهلال الخصيب، مع مثيلات لها ما تزال مستخدمة على نطاق عالمي. فالتشذيب والتعديل على تلك الأشكال لم يقطع الصلة بينها في شكلها الحالي المعدّل والشكل النقي الصرف القديم الذي أبدعته حضارات منطقة الهلال الخصيب وضمنته خفاياها وأسرارها.
الباب الرابع: موضوعات أساطير منطقة الهلال الخصيب وفناني الغرافيك في القرنين التاسع عشر والعشرين،
توّضح الباحثة أن منطقة الهلال الخصيب التي هي أول منصة للإنتاج الفكري والثقافي الإنساني، والتي نضجت فيها أولى الأساطير، فكانت حضاراتها الرحم الأول لمفردات الفنون عبر العصور. فقد صوّرت هذه الفنون موضوعات مختلفة من أساطير هذه البلاد، وتأثرت عن قصد أو غير قصد بمفاهيمها وقيمها، وتهافتت على تصوير أجوائها الساحرة وبناء ما تشتهيه فوق أساساتها الموروثة. من هنا تشغل الموضوعات الأسطورية لمنطقة الهلال الخصيب كثيراً من الأعمال الغرافيكية، المطبوعة وغير المطبوعة، في القرن التاسع عشر والعشرين، حيث كانت هذه الأساطير مادّة خصبة وجذابة لكثير من الفنانين، أغوتهم وحركت خيالاتهم، فأنتج الفنانون المحليون والعالميون في هذين القرنين، أعمالاً فنية وتشكيلية كثيرة عموماً وغرافيكية (رسم وطباعة) خصوصاً، منها ما تناولت موضوعات أساطير منطقة الهلال الخصيب بشكل مباشر، فصوّرت محطات من أحداثها ومجرياتها أو شخصياتها، ومنها ما احتوت على مفردات مستوحاة من تلك الأساطير، مستفيدة من منظومتها الرمزية والدلالية، ومن أجوائها المتخيلة، ومثال ذلك ملحمة جلجامش التي بلغت حد الخلود، والطوفان، وأعمال تصوّر اختطاف أوروبا تلك الأميرة الكنعانية، التي تحكي قصة اسم القارة الأوروبية، والإلهة عشتار والإله مردوخ، وكذلك الأسد المجنح والعنقاء المعروف بـ (طائر الفينيق).