الوحدة العراقية – الشامية الحلقة 2-حسّان يونس
تتابع الفينيق نشر سلسلة من المقالات حول الوحدة العراقية – الشامية والصعوبات التي تقوم في وجهها. إن هذا البحث الذي يعدّه زميلنا حسّان يونس، يعطي لمحة تاريخية عن المصاعب والعراقيل الداخلية والإقليمية والخارجية التي واجهت وستواجه هذه الوحدة. إن الوحدة السورية لن تحصل بمجرد الرغبة فيها. على أية جهة تريد العمل فعلا لتوحيد الوطن السوري أن تدرس هذه العقبات وإيجاد السبل للتغلب عليها. من المسائل المهمة التي تطرحها هذه الحلقة مسألة موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي، مباشرة، أو عبر من كانوا أعضاء فاعلين أو سابقين فيه، من الوحدة العراقية – الشامية. |
رأس الحربة
قام انقلاب الشيشكلي في 19 كانون الأول 1949، وكان قطبا الانقلاب، الشيشكلي والحوراني، قريبين فيما سبق من الحزب السوري القومي الاجتماعي. كما أن فضل الله أبو منصور، كان عضوا في الحزب، ورغم ذلك فقد كانوا جميعا رأس حربة في مناهضة الوحدة الشامية العراقية وفقا للظروف والمعطيات المرافقة آنذاك!
ادعى الشيشكلي والحوراني أن قائد الجيش سامي الحناوي كان يريد بيع البلاد لنوري السعيد والوصي عبد الإله، وهو ادعاء يعود بجذوره إلى قمع بريطانية لثورة رشيد عالي الكيلاني 1941، التي شارك فيها أكرم الحوراني والتي أعاد البريطانيون من بعدها الأمير عبد الإله ونوري السعيد إلى حكم العراق. منذ ذلك الوقت، أضحت كل المشاريع التي طرحتها العائلة الهاشمية لوحدة العراق والشام في العقد اللاحق موضع شك واتهام لدى الن01خب القومية، وأصبحت توصف بأنها مشاريع بريطانية. وهكذا فقد كانت هذه النخب القومية تفضّل التضحية بالوحدة العراقية – الشامية على مذبح رفضها للبريطانيين وللهاشميين المرتبطين بهم. ولم يكن هناك بين هذه النخب (إذا ما استثنينا الحركة السورية القومية الاجتماعية) من يدرك حساسية وأهمية الوحدة العراقية الشامية بغض النظر عن الشيطان المحلي أو الدولي الذي سيتوج على عرش هذه الوحدة.
على إثر انقلاب الشيشكلي سقطت حكومة علي جودت الأيوبي في العراق، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة توفيق السويدي في نيسان 1950، حيث أدخلت في منهاجها مشروع الاتحاد الفيدرالي مع سوريا. وأعلن رئيسها أن الشعبين السوري والعراقي يشعران بحاجة ماسة للوحدة. أما مصر، فأطلقت مشروعا جديدا لتثبيط جهود العراقيين ومؤيديهم من السوريين بشأن الوحدة، سمي بمشروع الضمان الجماعي، الذي من بنوده تعهد الدول العربية بعدم إبرام أي اتفاقية دولية لا تتفق مع مشروع الضمان الجماعي، بما يسمح لمصر بالاحتفاظ بالريادة كأقوى دولة عربية بمحافظتها على الوضع الراهن، من خلال احتوائها للعراق وسوريا وإعادة تأكيد مبدأ استقلال كل دولة. بقيت هذه الاتفاقية حبرا على ورق كسائر الاتفاقيات العربية ولم تشهرها مصر إلا في التصدّي لحلف بغداد 1954-1955.
التآمر على سلامة الدولة
بعد انقلاب الشيشكلي تشكلت حكومة سورية في 27 كانون الأول 1949، أعلنت في بيانها التمسك بالنظام الجمهوري والاستقلال والالتزام باتفاقية الضمان الجماعي المصرية التوجه، رغم إطلاق الكثير من الشخصيات الداعمة للوحدة مع العراق مثل حسن الحكيم ومنير العجلاني دعوات للوحدة بين البلدان المعرضة للتهديد الاسرائيلي وهي العراق وسورية ولبنان والأردن، حيث شهد عامي 1950 -1951 فوضى سياسية ومساكنة بين حزب الشعب الداعم للوحدة مع العراق وبين الجيش الرافض لها. ومن اللافت ان الرئيس شكري القوتلي (المرتبط بقوة بالسعوديين والمصريين والذي كان مبعدا إلى مصر منذ انقلاب حسني الزعيم) حاول العودة إلى المسرح أواخر عام 1950 من زاوية تقديم نفسه كضمانة في مواجهة نفوذ الهاشميين في سورية. كما أن النائب منير العجلاني عندما هاجم الجيش في البرلمان في آب 1950 تم اعتقاله خلال عودته من الأردن بتهمة التآمر على سلامة الدولة، وكان اعتقاله فرصة كي يهاجم المدعي العام مشروع سورية الكبرى معتبرا إياه جريمة قومية.
نتيجة مجمل هذه الفوضى والمساكنة والتردد والازدواج بين الوحدة مع العراق، والالتزام بالاستقلال تآكلت سلطة حزب الشعب كما تآكل الحزب نفسه بين عامي 1950 و1951، ورغم ذلك استمر رئيس الحزب والحكومة ناظم القدسي بالضغط لإيجاد صيغة اتحاد فيدرالي مع العراق فدعا الجامعة العربية في كانون الثاني 1951، للنظر فيما يمكن اتخاذه وصولا إلى هكذا اتحاد، لكن هذه الدعوة زادت التوتر مع الجيش لا أكثر.
في آذار 1951 نشب القتال بين الشام واسرائيل جنوب بحيرة الحولة، وهي منطقة منزوعة السلاح بموجب اتفاق الهدنة 1949 حاولت اسرائيل التوسّع فيها خلافا للاتفاق فاستغل حزب الشعب والمستقلون المؤيدون للعراق هذه الأحداث لتجديد المطالبة بوحدة عربية، تكون سبيلا لمواجهة التهديد الإسرائيلي. استجاب السفير العراقي في دمشق لهذه الحملة بقوله: “إن الخطوة الأولى هي جمع تلك البلدان التي ترتبط تاريخياً وجغرافياً ولها مصالح مشتركة”.
ومع تجدد الاشتباكات الشامية الإسرائيلية طلبت سورية مساعدة الجامعة العربية والعراق ومصر، لكن مصر لم ترسل أي قوات الى الشام، بينما قام نوري السعيد بإرسال قوات عراقية على الفور إلى سوريا، وصرح في 16 مايو 1951 حول ذلك بقوله: ” في هذه اللحظة التي أتحدث فيها إليكم، تكون مدفعيتنا المضادة للطائرات في طريقها إلى سوريا، لتساعدها ضد اعتداء الطيران الصهيوني، إن وحداتنا ومدفعيتنا ومحاربينا هي تحت تصرف قادة الشام ما دعت الحاجة لذلك”. ومر الجنود العراقيون في عرض عسكري في شوارع دمشق في 17 ايار 1951 ما أشاع رضى كبير بين مناصري الوحدة مع العراق بالتزامن مع قيام النائبين حسن الحكيم ومنير العجلاني بامتداح العراق الذي كان الدولة العربية الوحيدة التي أنجدت سورية. وقد أدى الموقف العراقي إلى قلق وإرباك المصريين كما انه منح حزب الشعب جرأة، سمحت له بتشديد الضغط على حكومة خالد العظم وصولا إلى إسقاطها في الشارع بفعل الإضراب الشامل، والمجيء بحكومة جديدة في 9 اب 1951 يرأسها حسن الحكيم الداعم بقوة للوحدة مع العراق والمؤيد الغرب كذلك.
ونتيجة خلافات بين حزب الشعب وحسن الحكيم حول الموقف من السياسات الدفاعية الغربية في الشرق الأوسط قدم حسن الحكيم استقالته وجاء بديلا عنه عضو حزب الشعب معروف الدواليبي وقدم تشكيلة حكومية يسيطر فيها حزب الشعب، وهو ما لم يتقبله الحاكم الفعلي للبلاد اديب الشيشكلي (الذي كان يحكم من خلف الستار باعتباره رئيسا للأركان تاركا السياسيين يؤدون أدوارهم على مسرح الحياة السياسية)، الذي وصل إلى قناعة ثابتة أن حزب الشعب ماض في طريقه لإيجاد صيغة اتحاد مع العراق ما لم يتدخل الجيش لمنعه، فكن انقلاب الشيشكلي الثاني 29 تشرين الثاني 1951. وهكذا لعب الشيشكلي في انقلابه الاول والثاني ادوارا حاسمة في منع اتمام اتحاد او علاقة وثيقة بين الشام والعراق، كلما ظهر أن هناك بوادر لهكذا اتحاد، وفي انقلابه الثاني كان الحزب السوري القومي الاجتماعي داعما من خلف الستار!
من سخرية القدر أن خطاب الشيشكلي كان يرتكز على حماية استقلال الجمهورية السورية في مواجهة الملكية الهاشمية والنفوذ البريطاني، علما انه كان يعتبر رجل الفرنسيين في سورية، وعلما أن هذا الخطاب رأيناه يتكرر لاحقا لدى بعض الفئات اللبنانية في مواجهة العلاقة الوثيقة مع سورية في التسعينات والعقد اللاحق لها (معزوفة السيادة والاستقلال) كما رأيناه يتكرر لدى الفلسطينيين خلال مفاوضات السلام مع إسرائيل في التسعينات (معزوفة القرار الوطني الفلسطيني المستقل) كما رأيناه يتكرر لدى الأردنيين دفاعا عن اتفاق وادي عربة مع إسرائيل، ومن سخرية القدر أيضا انه في كلا الانقلابين الذين قادهما الشيشكلي ضد الوحدة مع العراق كان الحزب السوري القومي الاجتماعي داعما في الظل أو العلن، وبالتالي أصبح هذا الحزب لاعبا سياسيا خارج إطار قناعاته التي بررت نشوءه والمتمحورة حول قيامة سورية الطبيعية.
النفط العراقي في مواجهة النفط السعودي والدبلوماسية المصرية
حكم الشيشكلي حتى كانون الثاني 1954 كدكتاتور، فألغى كافة جوانب الحياة السياسية وتشدق بالأمة العربية وامجادها واستعادة أمجادها، فكان ظهورا مبكرا لعبد الناصر قبل أن يطل عبد الناصر على المسرح. وللمفارقة فان كلا الدكتاتورين مارس وظيفة محددة في إزاحة سورية بعيدا عن العراق باتجاه مصر، وفي المقابل فان العراق كان على اتصال مع السياسيين المناوئين للشيشكلي ومصدر تمويل لهم وقدم الكثير من الدعم للاضطرابات التي شهدها حكم الشيشكلي في خريف 1953، حتى أن الجيش العراقي وضع خطة لغزو الشام عسكريا عام 1953 عرفت بالخطة (س) استمرت معتمدة عام 1954، وقد أيد الرئيس السابق هاشم الأتاسي تحرك العراق عسكرياً لإسقاط نظام الشيشكلي. لكن الولايات المتحدة وبريطانيا رفضتا السماح للعراق بالتدخل العسكري لتحقيق الوحدة بالقوة. وكان هذا التصاعد في وتيرة السياسة العراقية اتجاه الشام يعكس ازدياد الإنتاج العراقي من النفط أول الخمسينات بشكل كبير ما سمح للعراق الاقتراب أكثر من طموحاته الإقليمية (المشروعة تاريخيا وجغرافيا). لكن هذه الطموحات كانت تعاود التعثر بالشرخ الغير القابل للإصلاح بين النخب القومية في سورية وبين العائلة الهاشمية الحاكمة في العراق والأردن منذ ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941، ومنذ حرب فلسطين 1948. هذا بالإضافة إلى تعثرها بالنفط السعودي وبالدبلوماسية المصرية الذان دخلا في النزاع الإقليمي لمواجهة النفط العراقي ومنع أي تقارب شامي عراقي.
في كانون الثاني 1954 واكبت السياسة العراقية الاضطرابات التي واجهها حكم الشيشكلي، فوضع رئيس الوزراء العراقي خطة أمام جامعة الدول العربية لاقامة اتحاد فيدرالي عربي بالتدريج يبدا باتحاد العراق وسورية والاردن، كما قدم وزير خارجيته اقتراحا أن يقوم العراق بتمويل إنشاء جيش عربي من عائداته البترولية، لكن كلا المقترحين رفضا سعوديا ومصريا كما رفضهما الشيشكلي باعتبارهما تجسيدا لمشروع الهلال الخصيب، الذي رفضه طيلة حياته السياسية، فارتفعت حدة التوتر بين الشيشكلي وداعميه، وبين العراق الذي شجع العشائر البدوية على الحدود السورية على إثارة القلاقل في سوريا، وساعد العقيد محمد صفا بتشكيل حكومة سوريا الحرة، وأيده الكثير من اللاجئين السوريين الذين لجئوا إلى العراق وانضموا لهذه الحكومة، وأصبحت لها إذاعتها ونشاطاتها السرية، وأيضاً حث رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي (صادق البصام) رئيس الحكومة العراقية فاضل الجمالي، على طلب عقد جلسة عاجلة لجامعة الدول العربية، إبان مشكلة جبل العرب عام 1954 في الشام، باعتبار أن القضية السورية ليست مسألة داخلية، بل هي مسألة تهم كل الدول العربية، مما حذا بالحكومة السورية أن تطالب بإبعاد الملحق العسكري العراقي في 4 فبراير 1954 واتهامه بالقيام بأعمال ضد النظام منها رشوة بعض السياسيين.
شهدت هذه المرحلة تبادل الاتهامات بالعمالة للامبريالية فالشيشكلي موصوف بأنه عميل للامبريالية الفرنسية، ومشاريع العراق الوحدوية متهمة بأنها واجهة للامبريالية البريطانية وفق وصف الرئيس المصري محمد نجيب حين دعا السوريين في 6 شباط 1954 الى رص الصفوف في مواجهة “عملاء الامبريالية ومؤيديهم الانكليز القذرين”، في مقابل وصف اللوموند الفرنسية في 24 شباط 1954، “أصبح واضحا أن مؤيدي الهلال الخصيب حاولوا استغلال مشكلات سورية الداخلية كي يسقطوا الشيشكلي المعروف بأنه حامي استقلال سورية”.
في اليوم التالي 25 شباط تمردت قطاعات واسعة من الجيش في حلب ودير الزور وحوران والمنطقة الوسطى والساحل على حامي الاستقلال وفق وجهة النظر الفرنسية، ورغم أن الشيشكلي كان لا يزال يسيطر على القطعات ذات السلاح الثقيل في دمشق وجنوب البلاد، إلا انه خشي من تدخل الجيش العراق لدعم خصومه، فقبل الإنذار الموجه إليه وغادر البلاد كي لا يمنح العراقيين فرصة التدخل في سورية. فانتقل إلى لبنان ومن ثم إلى العربية السعودية، التي شكلت مذاك ملجأ للرؤساء العرب المطرودين من بلدانهم فيما دخل النزاع العراقي المصري على سورية مرحلة “حلف بغداد”.
تزامن سقوط حكم الشيشكلي مع ظهور مجموعة من العوامل الميسرة لقيام وحدة عراقية شامية، إذ ترأس وزراء العراق فاضل الجمالي وهو وحدوي متحمس (خلافا لنوري السعيد الوحدوي المتردد أو المعرقل)، كما توفي الملك السعودي عبد العزيز بن سعود 1953، ولم يكن لدى خليفته، الملك سعود، رؤية الأب أو خبرته. أما مصر فانشغلت بالصراع داخل مجموعة الضباط الأحرار (خاصة صراع عبد الناصر ومحمد نجيب)، وبالمفاوضات حول قناة السويس مع الانكليز،
إذ لم يكن قد لمع نجم عبد النصر بوصفه حامي حمى العرب وصانع انتصاراتهم. وفي الشام سقط الشيشكلي العدو الرئيس للوحدة مع العراق، وعاد حزب الشعب ليسيطر على الحكومة والبرلمان، وفي الأفق الدولي والإقليمي ظهر الصراع الشيوعي الغربي كما ظهر تبادل الموقع بين القوى الدولية الصاعدة (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) والقوى الدولية الافلة (بريطانيا وفرنسا). إن ظروف التحول الدولي هذه أفسحت في المجال أمام القوى الإقليمية النشطة والقانصة للفرص كي تترسخ وتتمدد باتجاه طموحاتها الإقليمية، وكان من هذه القوى تركيا وإسرائيل ومصر. أما العراق فلم يفلح رغم سعيه الدؤوب في التمدد ضمن محيطه الجغرافي السياسي الطبيعي وهو الهلال الخصيب رغم تكامل الظروف لصالح هذا التمدد، كان ينقص العراقيين وحلفائهم السوريين حاسة اقتناص الفرصة والانقضاض الحاسم لاقتناصها.
كان التردد والخوف من القفز في المجهول هو السمة الطاغية على جهود الوحدة العراقية الشامية كلما حانت لحظة الحقيقة واقتربت الثمرة من النضج، وهو ما بدت عليه الأوضاع بعد الإطاحة بالشيشكلي في شباط 1954، بسبب الانقلابات العسكرية المتكررة في الشام وخوف العراقيين من اللاستقرار السياسي فيها، وبسبب وقوع الطبقة السياسية الشامية في فخ المال السياسي (وهو ما تعانيه حاليا الطبقة السياسية اللبنانية) المتدفق من مصر والسعودية والعراق، بحيث أصبحت هذه الطبقة قادرة على بيع المواقف السياسية فقط. يضاف إلى ذلك غياب أي داعم دولي لمشروع الهلال الخصيب قبل ظهور حلف بغداد على الساحة، حيث وقف البريطانيون على هامش الحدث لا يدعمون مراعاة للحساسية الفرنسية ولحساسية العربية السعودية ولا يعارضون، وان كانت الدعاية المضادة التي اتهمت مشروع الهلال الخصيب بأنه بريطاني قد أسهمت بشكل بارز في إخفاقه.
كانت آخر الجهود الخائبة باتجاه الوحدة الشامية العراقية هي اجتماع سري عقد في حزيران 1954 في برمانا بلبنان شارك فيه صبري العسلي رئيس الوزراء السوري، والزعيمين العراقيين الجمالي والبابان، وبحث المجتمعون في توحيد الهلال الخصيب من خلال هجوم عسكري عراقي على الشام، ومن سخرية القدر (أو من سخرية الجيش السوري) أن حكومة العسلي أسقطت بعد هذا الاجتماع بثلاثة أيام، حيث ضغط الجيش لإسقاط الحكومة، وفي شهر حزيران كذلك اعتقل العقيد محمد صفا الذي كان ضابطا سوريا مواليا للعراق ومعارضا للشيشكلي إبان حكمه الدكتاتوري، واتهم بمحاولة الانقلاب بتحريض من العراق بعد إسقاط حكومة العسلي.
في أيلول 1954 أجريت انتخابات نيابية جاءت بأكثرية نيابية معارضة لوحدة الهلال الخصيب. وهي أكثرية إذا ما أضيفت إلى معارضة الجيش للوحدة مع العراق يكون الموقف السوري حسم كليا لصالح رفض هذه الوحدة، خاصة أن الأكثرية السياسية التي ظهرت بعد انتخابات 1954، كانت رافضة كذلك لأي تحالف أو معاهدة مع الغرب، وهو ما انعكس على الموقف من حلف بغداد الذي ظهر باعتباره حلف دفاعي غربي في مواجهة التمدد الشيوعي، وحلف سياسي عراقي بريطاني في الشرق الاوسط، وقد ظهر هذا الحلف وسط تناقض مثلث الأضلاع بين البريطانيين والأمريكيين وبين الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي وبين دول عدم الحياد وسياسة الأحلاف، وقد مثّل هذا الحلف في احد جوانبه فرصة لقيام وحدة شامية عراقية بدعم بريطاني لكن الوضع الداخلي السوري كان قد نضج باتجاه رافض تماما للوحدة مع الهاشميين وللتحالف مع الغرب، كما أعاد حلف بغداد في احد مساراته فتح النزاع العراقي المصري على الشام، فكان فرصة انتهزتها مصر عبد الناصر لتتقدم على الساحة السورية خاصة بعد إعلان التحالف التركي العراقي في شباط 1955 فتم التوقيع على حلف اذار 1955 بين سورية ومصر والسعودية لمنع سورية من التقارب مع العراق وهو أمر مشابه لما حدث في نيسان 1949 حيث استعملت مصر والسعودية سياسة مشابهة لإبعاد الشام عن النفوذ العراقي ايام حسني الزعيم.
مثل حلف بغداد حصيلة للتجاذبات المعقدة التي شهدتها الساحة الشامية بداية دخول الشام في نفق القومية العربية التي ترى في العلاقة مع مصر بوصلة دائمة وهو نفق لا تزال الشام تتخبط في ظلمائه.
يتبع –
المراجع :
– باتريك سيل، “الصراع على سوريا: دراسة للسياسة العربية 1945 – 1958″، ترجمة: سمير عبده ومحمود فلاحة، (بيروت: دار الكلمة للنشر، 1980).
– بشير فنصه، “النكبات والمغامرات: تاريخ ما أهمله التاريخ من أسرار الانقلابات العسكرية في سوريا”، (دمشق: دار يعرب، 1996).
– أكرم الحوراني، “مذكرات أكرم الحوراني”، 4 أجزاء، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2000).
– عبدالسلام العجيلي، “ذكريات أيام السياسة”، ج 2، (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 2000).
– شبلي العسيمي، “الوحدة العربية من خلال التجربة”، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1971).
– محمد حسنين هيكل، “ما الذي جرى في سوريا”، (القاهرة: دار الخيال، 1962).