الواقع المستعار-نجيب نصير
لربما احتجنا، نحن القوميين الاجتماعيين بكافة أنواعنا وأصنافنا، وكذلك بكافة أنواع مهاراتنا واختصاصاتنا، إلى وقفة… ليس مع الذات هذه المرة، فقد وقفنا كثيراً وطويلاً مع الذات، وخرجنا من تلك الوقفات برضىً شبه كامل عن هذه “الذات”، ناسخين من دربنا الواقع كمجال تطبيقي للرسالة، ومتجاوزين كل الأسئلة التي تطرق أبوابنا بعد أن كففنا نحن أنفسنا عن السؤال الذي هو مبتدأ قناعتنا وخبر إستمرارها. السؤال الحياتي الحيوي الذي يبدأ من (من نحن؟) و (من جلب على شعبي هذا الويل؟) لينفتح السؤال على التطبيقي الممارساتي للكائن السعادي كدعوة للمشاركة المستمرة في أطروحة (المجتمع معرفة والمعرفة قوة). تلك الأطروحة الاسترشادية التي ينضوي تحتها كتاب القومية الاجتماعية الأول والوحيد “نشوء الأمم”. وهي أيضاً جزء لا يتجزأ من التعاقد الانتمائي الذي يسبق التعاقد الحزبي، والذي لا يحصر كتلة القوميين الاجتماعيين بكتلة الجسم الحزبي، إنه تعاقد معرفي حضاري يجتمع تحت خيمته كل المقتنعين بالرؤية السعادية لأمور المجتمع والأمة.
وهي أيضاً (أي الأطروحة) إشارة إلى إستمرارية إنتاج المعرفة والإرتقاء بوسائل إكتشافها وصنعها. فالسعادية ليست خاتمة المنتجات الفكرية السورية، وأيضاً ليست مكتملة معرفياً كدستور ماورائي لا يأتيه الباطل من حدب. إنها تأسيس لمعرفة تختص في خدمة المصالح القومية، خصوصاً بعد التطبيقات المعرفية الهائلة خلال السبعين عاماً التي تلت إستشهاد سعاده.
لا أريد في هذه المداخلة المتواضعة أن أعيد مناقشة الفكر السعادي، ولا أن أتوقف عند مفاصل معينة ممتدحاً ومثبتاً مرة أخرى صوابية هذا الفكر وراهنيته، فهذا أمر متوافر كثيراً. كما أني لا أريد إعادة تفسيره أو تأويله حسب مقتضيات زمننا الراهن، فهذه مسألة تقليدية تفترض أميّة في الآخرين لم تعد مجدية في ظلال ثورة الاتصالات التي نعيشها الآن. ما أريده هو التساؤل عن مستحقات الإنتماء المعاصرة، بمعنى إلقاء بعض الأضواء على تلك التطورات الإنجازية لفكر تم إقتراحه والدعوة إلى تبنيه كممارسة حياتية ليس من المستحيل تطبيقها، وقد راقبنا أمماً وشعوباً مارستها وارتقت إلى مصاف الأمم المنافسة على المكانة. ما أريده مرة أخرى هو الإضاءة على بعض التحديات المعرفية المنافساتية عبر السؤال في مفاصل إلتزامنا المعرفي أو الحزبي بها، مستخدماً ما تعلمته من السعادية حول الأسئلة والإجابات.
في الثامن من تموز 1949 توقفت الماكينة الإنتاجية عند سعاده الزعيم والمفكر والإنسان، توقفت تماماً كتطبيق معرفي في الواقع. فثقافة الجهالة أوقفت ماكينة إنتاج المعرفة عن الإنتاج، وكان التعويل على الإلتزام المعرفي لدى المتنورين السعاديين من حزبيين وتيار مرافق. وللحقيقة والتاريخ كان الإخلاص لهذه المدرسة التنويرية مثالاً يحتذى. واستمرت السعادية بفرعيها الحزبي والتياري بتصاعد فعّال لفترة من الزمن، ثم بدأت بالتراجع معرفياً كتطبيق في الواقع إلى يومنا هذا.
منذ إستشهاد سعاده وحتى يومنا هذا جرت مياه معرفية هائلة تحت الجسر، إن كان على مستوى العالم أو على مستوى إقليمنا السوري وما جاوره، منها مياه معرفية آسنة وجهولة، ومنها مياه علومية تنويرية مرتقية. ولكن القومية الاجتماعية ثبتت واستمرت حسب إمكانات معتنقيها، منتشية بروعة الفكرة السعادية من دون الولوج في مغامرات (وليس مقامرات) تفكيرية من مستوى فكرتها التأسيسية التي فتحت هي نفسها الأبواب أمام الأسئلة المستجدة مهما كانت، والتي لم تكن السعادية في وارد طرحها في ذلك الزمان. فالإرتقاءات المعرفية الكونية والإنجازات التكنولوجية التي بنى سعاده على أسسها التفكيرية وإنجازاتها الفلسفية والاجتماعية نظريته المجتمعية الفريدة، أضحت بغيابه شبه عاجزة عن التفاعل مع هذه الإرتقاءات المعرفية العالمية وإنعكاساتها المحلية، حيث اكتفت النخبة التفكيرية بنشوة راهنية سعاده، آخذة منها الفخر والاعتزاز وليس العمل ومتابعة الإنجاز. فاتسمت إعادة إكتشافها بالتفسير وتكرار تأويل السعادية كشروح في العقيدة على طريقة رجال الدين، مستعرضين بين الفينة والأخرى جملاً وكلمات سعادية تثبت إطلاعهم الدائم على ما أتى به سعاده المؤسس.
نعم السعادية معرفة بالراهن، ولكن أي راهن هذا؟ هل بقاء الأمة على حالها واستمرار سؤال (من نحن ؟)، (ومن جلب على شعبي هذا الويل ؟) يعتبر راهناً؟
إن الفترة الزمنية المنقضية منذ العام 1932 وحتى العام 2017 والأمة على حال هو أسوأ بكثير مما كانت عليه العام 1932، تتطابق بالضرورة مع نظرة سعاده الصانع. وليست الراهنية إكتشافاً يدعو للفخر الذي ينقضي بانفضاض الاحتفالات، دون إنجاز معرفي يذكر، ولا هو إكتشاف يشير إلى خوارق الذكاء القومي الاجتماعي. إنه عرض واستعراض للزهو بالفشل على حساب نجاح تأويلي يراوح في مكانه معرفياً. نعم لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وهذا لا يغيّر في حقيقة الإبداع السعادي، ولكنه يغيّر بشدة ممارسة السعادية في الحياة وعلى أرض الواقع المعاش. ومع هذا نحن هنا لا نتكلم عن سيرة فشل بل عن إطلاق العنان للأسئلة التي استجدت بعد توقف المعمل السعادي عن إنتاج المعرفة، والتي يجب علينا أن نكمل مسيرة الإنتاج هاتيك. وأقصد هنا كل الجسم القومي الاجتماعي، بمعنى الحركة القومية الاجتماعية، حزبيين كانوا أم من غير الحزبيين.
انطلقت بعيد الحرب العالمية الثانية ورشة معرفية كونية أثبتت أن المجتمع المصنوع بالإرادة هو البنية الوحيدة القابلة لرد الويل وهزيمته من جهة. وهو كذلك البنية الوحيدة التي يمكن بناء أية تطورات معرفية لاحقة عليها، وهو ما كان سعاده قد اكتشفه وأثبته (لم يتنبأ به). كما أنه عاينه وقايسه على حدود الأمة الجغرافية والحيوية، وعلى الإمكانات الإنتاجية المتوافرة والمتوقعة، حيث يظهر أن الأمة في المعرفة السعادية هي المجتمع الدنيوي المنتج والمنافس الذي على أساسه تتأسس الهوية وتعلن. وهذا ما يقودنا فوراً إلى مثال تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي كماكينة تضع إستحقاقات توليد المجتمع/الأمة موضع التنفيذ العملي. ولهذا الفعل تمظهرات وأشكال علنية مثل المؤسسات والأفعال والإنجازات، إذ لا معنى لكل تعاقد أو إعتناق إيجابي خارج العلانية، ولا خارج الإنجاز. وعند هذه النقطة، الإنجاز، يمكننا التوقف والتأمل، وربما المحاسبة إذا اعتبرنا أن المؤسسة الحزبية التي أنجزها الشارع هي مؤسسة ديموقراطية بالفعل. فجوهر الديموقراطية كما فهمتها سعادياً هو المسؤولية المحاسب عليها. هذه الورشة المعرفية الكونية المذكورة أعلاه أنتجت غلالاً معرفية وافرة بناء على التجربة المجتمعية والتي قادت فيما قادت إليه حرب كونية كارثية، تحتاج من بعدها إلى التأمل والتفكير وإنتاج المعرفة اللازمة لإنجاز الشبع والمنعة. فأرست قواعد ممارساتية للمجتمع الحديث، منها إعادة إنتاج الدولة الحديثة إنطلاقاً من منظومات فكرية مناسبة لمجتمعاتها التي تشكلت تعاقدياً وارتقت معرفياً منذ بدايات عصر التنوير ولم تتوقف إلى يومنا هذا، إذ لم تتأثر حركتها لا بموت كانط ولا بوفاة هيغل بل استندت إلى منجزاتهم المعرفية لتبني عليها منجزات واضحة للعيان. والوضوح للعيان هنا هو إعلان الهوية المحمية بالشبع والمنعة.
نحن لا نتكلم هنا عن حزب صغير ولا عن حركة سياسية عابرة ، بل نتكلم عن تجمع معرفي كانت له مكانة مرهوبة الجانب من جميع النواحي. ولم يكن توجيهها نحو الإنتاج المعرفي المعاصر (صناعة وغلالاً وفكراً) بالأمر المعجز، مع الاعتراف بجميع المؤامرات التي مر بها هذا التجمع منذ نشأته. فالتطبيقات العملية للمنجزات المعرفية لم تكن ولم تعد خافية على أحد. فمراكز الأبحاث (مثالاً) كانت وما زالت ضرورة قصوى لأي مؤسسة أو جهاز أو حزب، ومع هذا لم يقارب القوميون أحزاباً أو تياراً مرافقاً هذه المسألة البسيطة من مجمل مسائل إداءات الإلتزام المعرفي أو الحزبي. وأكرر أن موضوع مركز الأبحاث هذا أتى كمثال من بين أمثلة كثيرة جداً، ولا أقصد منه التهويل أو أن أجعل منه حكاية كبرى. ما أريد قوله أنه في حال إستمرار العقل في إنتاج المعرفة، وهوما نحن مطالبون به، فإن التطبيقات والإجراءات والخطوات واضحة ولا تحتاج إلى كل هذا الموات المعرفي. فها نحن بلا أي نوع من أنواع المؤسسات المجتمعية المؤثرة والتي عليها، على الأقل، إستيعاب الإمكانات المعرفية المتواجدة والإستمرار فيها على طريق بناء المجتمع السوري.
بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تتوقف المجتمعات المهزومة أو المنتصرة عن تشغيل العقل واستثماره. كما أنها كمجتمعات لم تتوقف عن بناء ذاتها إرتقائياً عبر مشاريع ومؤسسات مؤثرة في بنيتها الاجتماعية وفي المعرفة الكونية أيضاً. ودخلت وسائل المواصلات والتوصيل على خط الإرتقاء هذا، ولم تتوقف الدول عن التأثير والتأثر الإيجابي بالإنجاز المعرفي. والسؤال هنا يطرح نفسه وإن كان بمرارة، ونحن كمؤسسة حداثية علينا مجاراة هذا الإرتقاء الكوني وأن لا ننعزل عنه بحجج مثل الراهنية والمؤامرات والسياسات التكتيكية والتحالفات الاختلافية. فقضيتنا هي تأسيس المجتمع على سلوكيات متولدة من ثقافة إيجابية معاصرة ودنيوية، وهو ما يحتاج إلى مؤسسات حداثية قادرة على صنع الفارق بينها وبين ما هو متداول من ثقافة قادرة على إنتاج سلوكيات طائفية وانعزالية وطبقية، وهو الأمر الذي آلت إليه الأمور في جميع كيانات الأمة بوجود القومية الاجتماعية حزباً وجمهوراً، فمن المسؤول؟
لم تتطرق القومية الاجتماعية (حزباً وجمهوراً) وعلى العكس من تصرفات سعاده في حياته، إلى أي من المسائل المعرفية الحداثية بصورة فعالة، ولم تقارب أوجاع شعبها بطريقة علمية حديثة، ولم تلفت النظر إليها بموقف استراتيجي أو مصيري. فجميع الأسئلة الحياتية كانت خارج منظومة الفعل، (ربما كانت الأقوال والخطابات تعطي بعضاً من براءة ذمة أمام التاريخ). وكان القوميون الاجتماعيون يبررون هذه اللا أفعال بالظروف. ولكن لم يسمع أحد سؤالاً قومياً اجتماعياً عن الإستبداد الذي انتهى عند شعوب الأرض التي اعتمدت المعرفة وإنتاجها طريقاً للبقاء، أو عن الحرية التي هي عار علينا إذا لم نتحصل عليها، أو عن الشبع أو المنعة، ولا حتى عن الطائفية التي نخرت متحداتنا وسرطنتها، ونرنو إلى صورتها الآن بكل تردد. وعن الطائفية هذه التي سرت فينا كصحوة بترودولارية مباركة يمكننا قول الكثير، من قبيل أين كنا عندما تأججت؟ وليس هناك من يقف في وجهها غيرنا، فأين كنا؟ على صعيد التطبيقات المجتمعية لم نقم بأشياء مؤثرة حقيقة. وليس هناك من لزوم لسرد الأمثلة، يكفينا منها قانون الزواج المدني الاختياري وقانون الأحزاب. وأنا هنا أتكلم عن كيانات الأمة كلها وليس عن لبنان فقط.
هناك مسافة بين المعرفة وتطبيقاتها الحياتية. وتقطع هذه المسافة بالإلتزام المعرفي أو ما يمكن تسميته بالنضال، أي بممارسة الحرية والمسؤولية (الواجب) والنظام مجتمعين لإنتاج القوة الكافية للتغيير والتصويب. لهذا تم إنتاج الحزب كمثال للإنتظام في بنى معرفية تطبيقية مثمرة تستطيع مجاراة الإرتقاءات المعرفية المعاصرة في العالم. واليوم نرى بأم أعيننا تأثير المنظمات غير الحكومية (NGO) كمبادرات معرفية تطبيقية إثبتت إمكانية المداخلات المعرفية حتى من الخارج (طبعاً لا ننسى في هذا السياق منظمات البترودولار الصحراوي غير الحكومية وتأثيرها الفظ في البنية الثقافية لمتحدات المجتمع السوري). لم يكن للجماعة القومية الاجتماعية أي من هذه المؤسسات الفعالة والمستمرة والعلانية، على الرغم من كل التضحيات التي قدمتها، وعلى الرغم من كل النضال السياسي الذي مارسته القيادات والقاعدة الحزبية، وعلى الرغم من كل الإضطهادات والعذابات. ولكن المعرفة القومية الاجتماعية لم تجد طريقها للممارسة والتفعيل كمعرفة دنيوية معاصرة في أي من مفاصل الحياة القومية، وظلت المسافة بين المعرفة وممارستها توغل في الإتساع حتى يومنا هذا.
لقد أرسى سعاده معرفياًُ مفهوم المؤسسات، ولكن ممارستها مرهونة بتمثل هذه المعرفة بكل إخلاص وعزيمة صادقة من جهة، وبالزمن الذي يكشف جدوى هذه الممارسة من جهة أخرى. وهما عاملان كفيلان بكشف أعطاب (وليس أخطاء أو خطايا) الممارسة. وهنا لا أريد القول أن الخطأ في التطبيق وليس في النظرية، ولكني أريد أن أشير إلى أن الثبات والتوقف في الإرتقاء بالعمليات المعرفية وتكنولوجيتها المجارية للعصر هما إنكماش للمعرفة ذاتها. فممارسة المؤسسات يجب أن تصدر عنه نتائج متوقعة وقابلة للمقايسة والمحاسبة والتصويب، حسب الاستهدافات التي تلبي طموحات المتحدات. وهنا أتوقف عند الطائفية مرة أخرى، حيث أنها لا تشكل طموحاً لشعبنا مع أنه غارق بها حتى أذنيه. وهذا ما يشكل هزيمة نكراء لكل ما تمثله القومية الاجتماعية رغم إمتلاكها العلم، ولكنها لم تنجح في تمثله معرفياً وتطبيقياً، أي أنها لم تستطع إيجاد الخطط ولا المؤسسات القادرة على التعامل مع هذا الشأن الكارثي، لا بل جارته وسايرته وحالفته، من دون إيجاد مؤسسات موازية ومقابلة تعنى بهذا الشأن، مؤسسات تعطي للنضال فرصة معقولة للنجاح. لقد استمرت الجماعة القومية الاجتماعية (حزباً وتياراً) كأنموذج للممارسة المعرفية تعود الى خمسينات القرن الماضي، تاركة لثقافات الجهالة حرية الفعل في إجتياح البنى المعرفية التقليدية والسيطرة عليها وتوجيهها والتحكم بها، عبر مؤسسات واضحة وذات تكنولوجيات معاصرة (الإعلام مثالاً هنا)، محولة أكثر الأفكار ظلماً وبشاعة وشراً إلى واقع ملموس يمارس على الأرض ببداهة وثقة معرفية عز نظيرها. لسنا بحاجة، لا كقوميين إجتماعيين ولا كشعب سوري، إلى نظرية جديدة غير القومية الاجتماعية. ولكننا بحاجة إلى وضعها موضع التطبيق والممارسة، وهو ما يجعلها في مختبر دائم الإنتاج والإرتقاء، تحافظ فيه على معاصرتها الضرورية للتنافس التفاعلي (وليس العداوة)، التنافس الضروري للبقاء، والضروري لإعلان الهوية وممارستها. فالنظرية القومية الاجتماعية لم تأت من عنديات سعاده، بل من منتجات مواهبه الفائقة بالتفاعل مع المعرفة الكونية في زمانه. وحيث أن العالم لم يتوقف عن إنتاج المعرفة بعد إستشهاده، لنبدو اليوم أننا في أشد الحاجة إلى إكمال مسيرته التفكيرية/ المعرفية، وتطوير الفهم عبر مقاربة المنجزات التفكيرية الأحدث، ليس بمناسبة مقاومة الإنغلاق التفكيري فقط، بل أيضاً لمجارات المشكلات المستحدثة الناتجة عن التطورات السياسية والتكنولوجية والتربوية المعاصرة، وأيضاً من أجل التواجد في الواقع الذي يحتاج إلى تغيير مستمر، تغيير إرتقائي، وإلا سوف يتغّير عشوائياً أو بنظام جهالي متخلف. إنها عملية تكاملية بين المبدع الأصلي (وهنا لا أقصد الأصيل) وبين الملتزمين بمعارفه، بعملية تفاعلية إرتقائية تحتاج إلى مبدعين أصليين أيضاً وبالضرورة، وإلا لسوف تتحول هذه العملية التكاملية الإرتقائية إلى عمليات من الشرح والتأويل والتأسي والإستزادة وما ينتج عنها من قطيعية قبلية ليس إلا. وكل هذا سيكون غير ذي فائدة إذا لم يكن له تمثلات في الواقع على شكل مبادرات تغييرية على الأرض، بواسطة المؤسسات المشروطة بالعلانية التي توفر المعايرة والمقايسة والمحاسبة والإنفتاح. فالسرانية في هكذا مؤسسات تؤدي إلى العنف والإستبداد الذي تتميز به الشركات السياسية التي أتى سعاده على ذكرها كبديل وهمي للأحزاب بمعناها العصري.
في أية دعاوة إلى منتجات معرفية تقصد التغيير هناك مسألة التأثير أولاً. والتأثير بشكل عام هو لفت الإنتباه إلى تحقيق مصلحة من خلال الإلتزام المعرفي بهذه الدعاوة. ولكن للوصول إلى التأثير، هناك عمليات معرفية موازية يجب القيام بها وبنجاح. ولا تقتصر هذه العمليات على الدعاية والإعلان على أهميتها، بل بمقدرتها على خلق برامج حيوية قابلة للتطبيق والممارسة والإستشراف والوصول إلى نتائج. لم تعد الجهود المبذولة من أجل التأثير مبادرات إحتفالية أو إعلانية فردية أو جماعية على طريقة تبلغوا وبلغوا، بل أصبحت معالجة للواقع اليومي للعيش في المتحد. وهنا لا أريد الولوج إلى الأمثلة المترامية في كل حدب صوب، ولكني سوف أشير إلى مثال واحد وكمثال معزول فقط، ألا وهو مسألة البيئة التي أضحت في الآونة الأخيرة مشكلة كبرى لكل فرد من أفراد المتحدات يعاني منها شخصياً، ويدفع ثمن معاناته غالياً. وهو أي الفرد المسؤول الحقيقي عن خرابها هذا نظراً إلى عدم إلتزامه المعرفي، الناتج عن عدم التأثير فيه من قبل جهة لديها دعاوة معرفية لائقة وموثوق بها. ففي الطريق إلى التأثير، وكذلك عند حصوله، ومن بعده نتائجه، هي الممارسة الحقيقية للنضال الذي هو الإلتزام المعرفي المستمر والعلاني، حيث تبدو هذه العملية كالإلتحام النظري بالعملي. وهي ليست بمستحيلة ولا هي بمعجزة، فالتأثير لم يعد عملية بث معلومات فقط بل ممارسة حياتية استطاع الجهاليون تثميرها خراباً وكوارث (وأيضاً كمثال).
أطرح مسألة التأثير هذه للفت النظر إلى محدودية نمو الجماعة القومية الاجتماعية كماً ونوعاً (حزباً وتياراً) ما يؤشر إلى ضعف التأثير المعرفي بالمقارنة إلى الأسئلة والمعاناة التي يتكبدها الشعب، والتي هي شأن معرفي بامتياز، والتي لا يمكن قياسها فقط بكمية الإحباط والإكتئاب والإنسحاب الاجتماعي والهجرة عند القوميين الاجتماعيين وحدهم، بل بالأثمان القومية الكارثية التي دُفعت ولما تزل تدفع يومياً وأمام أعيننا من وجود الأمة نفسه، في ظل إفتقاد التأثير ولو في حدوده الدنيا، وربما تجاوز الأمر إلى التأثير السلبي أيضاً. وللأسف لا يمكننا ومن خلال مقايسة الإنجاز على أرض الواقع إحتساب تلك الإنتصارات وتلك البطولات والتضحيات التي قدمتها الجماعة القومية، ونضمها إلى حسابات الإقتراب من الإنتصار أو تحقيق هدف ما وجدت الجماعة القومية الاجتماعية من أجله، لنعيد نفس سؤال المؤسس: ما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟ ولكن بصيغة أكثر مرارة ليصبح: ما الذي جلب على جماعتي (حزباً وتياراً) هذا الويل؟ إنه فقدان التأثير المعرفي بسبب فقدان آليات التأثير الناتجة عن فقدان التفاعل مع المعرفة المعاصرة، مما يجعل السعادية نفسها مهددة بالبقاء كعلم ومعزولة عن ممارستها كمعرفة لها تطبيقاتها في الحياة والكون والفن. وهكذا مع فقدان التأثير، تنفقد المكانة، ومعها ينفقد الدور.
ربما علينا هنا الإلتفات بانتباه شديد إلى الثنائية السعادية المتعلقة بالبقاء والفناء، حيث يبدو واضحاً في جميع طروحاتها أن النهضة هي السبيل الوحيد للبقاء والإستمرار وإلا الفناء أو العيش في الكوارث والمهانة. وهذا الأمر منوط بمعرفة الواقع ومجرياته، وعدم تمويهه وتهوينه وتأجيله. فالقضية القومية قضية كلية لا ينفع معها مواربة هنا وتفسير تكتيكي هناك، ولا ينفع معها تأجيل أو أولوية. فواقع الأمة ليس نظرياً مستعاراً بل هو خراب ودماء وكوارث لم تأت من الفضاء ولا من المؤامرات ولا من الجشع الغربي، بل هي أخطاء وخطايا أستمر في إرتكابها أهل هذه البلاد الذين لم يولدوا من لدنهم مجتمعاً معاصراً على الرغم من وجود المعرفة السعادية بين ظهرانيهم.
لا أرى مانعاً أن يكون القوميون الإجتماعيون شهوداً على الفناء (بالنظر إلى ثنائية النهضة والفناء). لكن وعلى الأقل أن يكونوا شهوداً شرفاء مخلصين في إلتزامهم المعرفي، ممن بذلوا أقصى ما يستطيعون بذله في ممارسة معرفة إلتزموا بها لتأسيس مجتمع حر منافس ومنتج، وممن ينظرون إلى حقائق الواقع المزرية بعين الصدق والصراحة والمسؤولية، ويتدبرون بأمرها دراسة وإستشرافاً وفضحاً وحلولاً ومشاريع وحراكات. المجتمعات تدفع ثمن أخطائها وخطاياها عاجلاً أم آجلاً. ولا يفيدنا إمتداح الواقع بشيء، ولا تفسيره بتكتيكات سياسية وتحالفات موضعية سوى إنتظار الكوارث، إنها من سجايا الواقع المستعار.