“الحل النهائي” The Final Solution
تسترجعُ عبارة “الحل النهائي” بعضاً من تعقيدات التاريخ الأوروبي في الربع الأول من القرن الماضي، وخلال فترة الحرب العالمية الثانية. ويربطها المؤرخون الغربيون تحديداً بصعود الحركة النازية في ألمانيا، والتي اصطدمت مع بعض القوى الاجتماعية والسياسية المعادية داخلياً، وفي مقدمها الرأسماليون اليهود والليبراليون واليساريون. وقد وصل منظرو الحركة النازية آنذاك إلى قناعة تامة بأنه لا مجال للتعايش مع تلك التيارات، وأنه لا يمكن الوصول بذلك الصدام إلى خاتمته المرتجاة إلا بـ”الحل النهائي”، أي التخلص من كل من يقف في طريق صعود الحركة النازية. ولذلك فإن دول الحلفاء المنتصرة في الحرب ترى أن نهج “الحل النهائي” هو المسؤول عن “المحرقة النازية” التي ذهب ضحيتها اليهود والغجر وبعض الأقليات الدينية والعرقية الأخرى.
لم يكن نهج “الحل النهائي” حكراً على مرحلة صعود الحركة النازية في ألمانيا بعد الهزيمة الساحقة التي مُنيت بها البلاد في الحرب العالمية الأولى، بغض النظر عن استمرار دول الحلفاء بحملاتهم الإعلامية لربط هذا النهج بجرائم النظام النازي حتى اليوم. فإذا عدنا إلى تاريخ المكتشفات الغربية الكبرى خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، سنجد أن الدول الأوروبية جميعها طبّقت “الحل النهائي” بصورة أو بأخرى في القارة الأميركية وأستراليا ونيوزيلندا وجزر الكاريبي… إضافة طبعاً إلى نظام العبودية من أفريقيا إلى “العوالم الجديدة” التي أبيد سكانها الأصليون.
ماذا يعني “الحل النهائي” في سياق الفكر السياسي والاجتماعي المعاصر؟
ولماذا نُعيد طرحه في هذا الوقت بالذات؟
يتم اللجوء إلى نهج “الحل النهائي”، داخلياً أو خارجياً، عندما تبلغ عوامل الخلاف حد الصدام المفتوح، فلا يعود هناك أي مجال لتسويته أو معالجته بالحوار. كما أن أبواب العثور على صيغ توفيقية تكون قد أغلقت تماماً، وبات كل طرف أسير مواقفه المبدأية التي تلغي الطرف الآخر. وعند الوصول إلى هذه الحالة المستعصية، يصبح “الحل النهائي” المخرج الوحيد المتاح للخروج من المأزق المصيري. وبالتالي يكون الانتصار الحاسم الخطوة التمهيدية الضرورية لبناء مجتمع ذي هوية واضحة، ويحمل نظرة موحدة إلى القضايا الداخلية والخارجية.
عمليات إبادة الآخرين هي من أدوات “الحل النهائي” الأساسية، غير أنها ليست الأداة الوحيدة المستعملة. ربما كانت هي الوسيلة الأولى خلال القرون الوسطى وصولاً إلى زمن التوسع الاستعماري الأوروبي. ولا داعي هنا للتذكير بسياسات الإبادة المرعبة التي ارتكبها الاستعماريون في انحاء العالم، فهي معروفة لدى كل من يهتم بالتاريخ المعاصر. أما في زمننا الراهن، فيبدو لنا أن “الحل النهائي” بدأ يتخذ أشكالاً جديدة، تؤدي تقريباً إلى النتائج نفسها، وإن كانت تتمظهر بطرق مختلفة تتناغم مع الأنماط الديبلوماسية المعهودة.
والآن نصل إلى السؤال الثاني: لماذا نُعيد طرح نهج “الحل النهائي” في هذا الوقت بالذات؟
الجواب ببساطة هو أننا نلحظ عودة قوية إلى استخدام هذا النهج في معالجة عدد من المسائل الخلافية في أنحاء متفرقة من العالم. والخطير في هذا الأمر أن المجتمع الدولي بات متقبلاً لكل ما يمكن أن يحمله “الحل النهائي” من ارتكابات مناقضة لحقوق الإنسان، بما فيها الإبادة والتطهير العرقي… وغيرهما. فمن وجهة النظر الحقوقية، هناك تراجع فاضح عن مبادئ القانون الدولي. وهناك أيضاً عجز عن التدخل لوقف الانتهاكات بما يشبه التواطؤ غير المباشر. لكن من وجهة نظر المصالح الوطنية، فإن “الحل النهائي” يوفر نوعاً من الاستقرار الداخلي لمجتمعات تفتقد التوجه الموحد في بيئة فسيفسائية متناقضة.
“الحل النهائي” في ميانمار (بورما) تمثل بتهجير مئات الألوف من أقلية الروهينجا المسلمة التي تشكل ما نسبته 4 في المائة من أصل 54 مليوناً هم عدد السكان الكلي. لسنا هنا في معرض تبيان الأسباب التي أدت إلى هذا الإجراء الجذري، لكن من الواضح أن سلطات ميانمار اتخذت قرارها على أعلى المستويات بتهجير الروهينجا إلى بنغلاديش المجاورة، تاركة المجتمع الدولي يتخبط في كيفية التعاطي مع هذه الأزمة الإنسانية. المهم بالنسبة إلى ميانمار أنها “حلت نهائياً” مشكلة الوجود الإسلامي غير المرغوب فيه في مجتمع تدين غالبيته العظمى بالبوذية. أما الروهينجا المهجّرون فأصبحوا مشكلة خاصة بمنظمات الأمم المتحدة الإنسانية… وبنغلاديش!
من ناحية أخرى، يمكننا النظر إلى “صفقة القرن” الأميركية لمعالجة “أزمة الشرق الأوسط” على أنها نموذج جديد من نهج “الحل النهائي”. كلنا نعرف أن إحدى أهم العقبات التي كانت تعترض المساعي الديبلوماسية الدولية لحل هذه الأزمة تمثلت بـ”حق العودة للاجئين الفلسطينيين”، بالإضافة طبعاً إلى الأراضي المحتلة سنة 1967 ووضع مدينة القدس. ومع كل جولة مباحثات، كان الوسطاء المفاوضون يتأكدون من أن معضلة “حق العودة” لن تجد حلاً مرضياً لأي من الجانبين المعنيين وفق الصيغ المطروحة على طاولة المفاوضات. وهكذا بات على الولايات المتحدة الأميركية، بعد احتكارها الوساطة خلال السنوات القليلة الماضية، أن تجترح معجزة ما!
“صفقة القرن”، المجهولة التفاصيل الحقيقية حتى الآن، هي المعجزة التي تتوقع لها الإدارة الأميركية النجاح حيث فشل الآخرون. لكن ما تسرّب عن لسان بعض المسؤولين الأميركيين المنخرطين في الاتصالات التمهيدية يكشف لنا أن واشنطن قررت اللجوء إلى “الحل النهائي” هذه المرّة، بمعنى إلغاء العنصر الأساسي في المعادلة الصعبة: أي الشعب الفلسطيني سواء تحت الاحتلال أو في الشتات. إن “صفقة القرن” هي “الحل النهائي” الذي تطرحه أميركا بمسمى مختلف، وغايتها تحويل الشعب الفلسطيني إلى حالة اقتصادية آنية لا وطن لها… بينما يذهب الوطن الفلسطيني كله إلى “المستعمرين” الجدد.
ماينمار وفلسطين ليستا النموذجين الوحيدين لنهج “الحل النهائي” المتجدد. فهناك مؤشرات متعددة في كثير من دول العالم: من الصين إلى الهند، ومن هنغاريا إلى إيطاليا (مسألة المهاجرين)، ومن الولايات المتحدة الأميركية إلى أستراليا (نزعة تفوّق العرق الأبيض). بعضها دخل حيز التنفيذ، وبعضها الآخر مكتمل العناصر بانتظار الظرف المناسب… وما أكثر المناسبات في عالم يعيش على حافة الهاوية.