أزمة الثقافة وآليات الحل
نحن نعيش آزمة ثقافة. أزمة هي بعض من تجليات أزمة وجودية مصيرية. وهي لا تقتصر على كيان واحد من الكيانات السورية، بل تشمل الأمة والعالم العربي… وأكاد أقول العالم أجمع.
وقد أصابت هذه الأزمة أيضاً الحزب السوري القومي الاجتماعي بكل تشعباته، بينما كان من المفترض والمتوقع أن لا تصل مفاعيلها إلى المثقفين القوميين الاجتماعيين الحاملين لمبادئ النهضة. لكنها تسللت إلى صفوفهم، فبلبلت رؤاهم وضيّعت الغالبية العظمى منهم.
إن الإشكالات الداخلية الدستورية والسياسية والمناقبية في أجنحة الحزب السوري القومي الاجتماعي لا تتحمل وحدها مسؤولية تجذر أزمة الثقافة بين القوميين الاجتماعيين. ولا جدال في أن المشاكل الحزبية الداخلية عمّقت من حدة الأزمة الثقافية، لكن هناك عوامل أخرى أسبق زمنياً وأكثر أهمية هي السبب في ضمور الانتاج الثقافي القومي الاجتماعي وتراجع أعداد ونوعيات المنتجين ثقافة وفكراً.
ونحن نلاحظ مجموعة من الظواهر المرتبطة بأزمة الثقافة:
- قلة عدد المثقفين الفعليين المقتدرين في فهم المنهج القومي الاجتماعي.
- ندرة الانتاج الفكري الثقافي الذي يساهم في عملية البناء القومي.
- التناقضات في المواقف بين أبناء العقيدة الواحدة، والتضارب في الرؤى وفي التوجهات.
- التعامل السلبي بين المثقفين القوميين الاجتماعيين فور الاختلاف في الرأي.
- طغيان النزعة الفردية على شريحة واسعة من المثقفين القوميين.
- طغيان النزعة الفردية على شريحة واسعة من المثقفين القوميين.
لكن ما هي الأسباب الحقيقية الكامنة التي أوصلتنا إلى هذه الهوة السحيقة، وتكاد تبتلعنا كما لو أنها رمال متحركة قاتلة؟
العلة الأولى والأساسية، من وجهة نظرنا، تكمن في غياب المؤسسات الإذاعية والثقافية الحاضنة لعطاءات المبدعين القوميين الاجتماعيين. يقول سعاده في مقال “معنى الأمة وصفتها” ما يلي: “أما البناء الروحي فهو (…) نتيجة لتفاعل عقول أبناء الأمة الواحدة”، (الأعمال الكاملة، الجزء الأول صفحة 453). ولذلك عمد لاحقاً إلى إنشاء مؤسسات مركزية لتكون إطاراً للحوار والتفاعل بين المثقفين والمفكرين القوميين الاجتماعيين. فمن خلال هذه العملية التفاعلية تنشأ وحدة الروح وتترسخ وحدة الاتجاه.
ولكي تؤدي المؤسسات الإذاعية والثقافية القومية دورها، يجب أن يلتزم المثقفون المشتركون فيها بعامل آخر، يُعتبر تجاهله أو تغييبه العلة الأساسية الثانية في أزمة الثقافة. ونقصد بذلك منهجية التفكير والبحث إنطلاقاً من العقيدة القومية التي تلتزم بها المؤسسة الثقافية أو الإذاعية. ففي رسالة إلى أحد الرفقاء في البرازيل سنة 1939، يوضح سعاده أهمية أن يدرس القوميون الاجتماعيون قواعد نهضتهم: “… وأن تخصص الوجهة الداخلية من هذه النهضة بعناية دراسية فتتعمق في درس الأشكال والتعابير التي يظهر بها العمل القومي، وتنظر هل هذه الأشكال والتعابير منطبقة على روح النهضة العميقة الفاعلة”. (الأعمال الكاملة، الجزء التاسع صفحة 105).
إذن نحن أمام ثنائية متلازمة: إنشاء مؤسسات حاضنة للتفاعل، والتركيز على دراسة عقيدة هي قاعدة لانطلاق الفكر. ومن المؤكد أن غياب أي ضلع من هذه الثنائية سيؤدي إلى خلل بنيوي يحد من القدرة على التعبير عن الثقافة النهضوية. ولا نقصد بـ”دراسة العقيدة” أن نترهبن في صومعة النص الحرفي، بل المطلوب هو إعمال العقل بوصفه “الشرع الأعلى” المطلق.
الذي حدث خلال العقود الماضية أننا افتقدنا المؤسسات الحاضنة، فتفرق المثقفون القوميون الاجتماعيون في متاهات الأفكار والتيارات الأخرى البعيدة كلياً أو جزئياً عن العقيدة القومية الاجتماعية. ونظراً إلى غياب الإطار التنظيمي الجامع، نمت النزعة الفردية الأنانية والمشاعر النرجيسية المقيتة على حساب التفكير الجمعي. وباتت القناعات الذاتية مقياس الحكم على الآخرين سلباً أو إيجاباً. وتمترس بعض المثقفين في خنادق المواقف الثابتة، وانعزلوا داخل فقاعات ذواتهم يقتاتون من فضلات ما حفظوه من آراء مسبقة.
إن التغييب المقصود للمؤسسات الثقافية الحاضنة أنتج شريحة من “المثقفين” القوميين المُغرقين في نزعاتهم الفردية. فأصبحوا لا يرون في العمل الفكري إلا ميدان قتال، ولا يتعاملون مع الآخر (بمن فيهم القوميون أيضاً) إلا بوصفه خصماً أو عدواً. وهكذا تتقزم القضايا الكبرى إلى مستوى المماحكات الفردية. وبدلاً من أن يسمو الصراع الفكري إلى مصاف قيم الحق والخير والجمال… تكتفي العقول الجامدة بالتلطي داخل شرانق محنطة، لتجتر القليل القليل مما تبقى في خزان الذاكرة.
نحن نعتقد بأن بناء المثقف القومي الحقيقي ليس هدفاً نهائياً بحد ذاته، وإنما هو خطوة أولى في طريق العمل لتحقيق غاية أرقى وأسمى. لكن في البداية يجب أن ينصب التركيز على إنتاج مثل هذا المثقف المعقدن، والتمييز بينه وبين أدعياء الثقافة الذين هم أساس البلبلة الفكرية والاختلاطات العقائدية. “… إذ هنالك مئات ومئات من المخرّجين من الجامعات والمثقفين الذين لو شاء كل واحد منهم أن يعتّد بنفسه وبعلمه (…) لوقعت الحركة في فوضى تقضي عليها”. (الأعمال الكاملة، الجزء التاسع صفحة 157)
طبعاً هناك علاج لهذه الحالات المرضية، وهو يبدأ بإنشاء ندوة أو مؤسسة ترعى العمل الثقافي وتحتضن المؤهلين فكرياً وثقافياً. وتلعب في الوقت نفسه دور التوجيه والإرشاد وفق القواعد النهضوية التي أرساها سعاده. وإذا جاز لنا استعمال العبارة التي تمناها الزعيم للكيان اللبناني من أن يكون “نطاق ضمان للفكر الحر”، فإن تلك الندوة أو المؤسسة هي أولاً وأخيراً “نطاق ضمان للفكر الحر”. ودليلنا في هذا المسار، ما قاله سعاده في رسالة إلى فخري معلوف بتاريخ 3 آذار سنة 1945: “إني لا أرغب في محو التنوع الفكري من تراثنا، بل أرغب في المحافظة عليه وتنميته لأني أرى أنه لازم لفلاحنا”.
بالنسبة إلينا الأزمة معروفة، ونتائجها مكشوفة… وطريق الخروج منها واضحة وممكنة. إن في تاريخنا القومي الاجتماعي تجارب ناجحة نستطيع الاستفادة منها كي نضع خططاً ونجهّز مشاريع تلبي متطلبات القرن الحادي والعشرين وما بعده.