بين الأمين أحمد أصفهاني وبيني علاقة رفقة وصداقة وأخوّة عمرها من عمرنا، بدأت حين كنا في الجامعة وتستمر لليوم. تشاركنا في العديد من المهمات والمشاريع ولدينا كنز من الذكريات. أساس هذه العلاقة المحبة والصدق والاحترام والثقة المتبادلة. ونحن لليوم نتبادل مسودات مقالاتنا قبل نشرها، وفي بعض الأحيان يدور بيننا نقاش حام، قبل ان تستقر النسخة الأخيرة وترسل إلى النشر. بعض الملاحظات يتم الأخذ بها، ولكن ليس كلها. مسافة الاختلاف في الرأي قد تكون واسعة، ولكنها لا تؤدي إلى خلاف بيننا. فكلانا يحترم رأي الآخر وإن خالفه.
هذه المقدمة هي تمهيد لموجز نقاش دار بيننا في الأيام الأخيرة، بدأ شفهيًا مع مقالي الأخير، “سعاده … طقسا” ثم انتقل إلى نقاش مكتوب حول مقالة رفيقنا زيد قطريب، “هرهروها بالهزائم وبهدولها بالموبقات“، والتي أتحمل مسؤولية نشرها بصفتي رئيس تحرير الفينيق. هذه المقالة أغضبت الأمين أحمد وقد عبّر عن رأيه الناقد لها في مقال نشرته الفينيق تحت عنوان “قليل من التواضع رجاءً.”
الحوار الذي دار تناول عددا من المواضيع المهمة التي أرى ضرورة مشاركة القراء بها علها توسّع باب النقاش. ولكي يطمئن القارئ، فإن هذا المقال، كعادتنا، قد تم التداول في مضمونه بيننا قبل نشره.
مدرسة النقد القاسي
أنا مع مقولة الأمين أحمد الأساسية: “ولكي يُصبح الحوار مفيدًا وناجحًا، يجب أن ينطلق من قاعدة أساسية لا غنى عنها، ويُسلم بها الطرفان: الثقة بين الجانبين. الثقة بأن حاملي الرأي الخطأ وحاملي الرأي الصواب يؤمنون بالعقيدة القومية الاجتماعية، ويعملون لمصلحة الأمة والحزب، وأن كل واحد منهم أهلٌ بالثقة ولا يعمل إلا بالثقة.” السؤال هو ماذا عن الذين ضربوا الثقة عبر ممارساتهم العملية التي دفعت أعدادًا كبيرة من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي للانكفاء عن العمل النظامي، أو لخوض معارك شرسة مع الفاسدين والمفسدين في الحزب، وفي طليعة محاربي الفساد الأمين أحمد أصفهاني.
النقد القاسي، بل الشاتم يكون في بعض الأحيان أكثر من فعّال. “أفصح ما تكون القحباء حين تحاضر في العفة”، ابتكار سعيد تقي الدين، أصبحت على شفاه العامة مأثورًا شعبيا. “لبطه البغل” هي أيضا استنباط سعيد تقي الدين نتيجة ما عاناه داخل الحزب. قلّة من قوميي جيلنا، أحمد وأنا، لم تنشر عرض “كرادلة” الحزب في السبعينات، بسبب الأفشال والمآسي التي أوصلونا إليها؟ لنضع الحزب جانبًا ونقرأ أحد أروع أبيات عمر أبي ريشة في نقد التخاذل العربي بعد مؤتمر الرباط:
“خافوا على العار ان يُمحى فكان لهم على الرباط لدعم العار مؤتمر.”
على جماله، وسعة انتشاره في حينه، فإنه لم يفعل ولم يُحفظ كما فعلت أبيات مظفّر النواب وكما تُحفظ:
“أولاد القحبة
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
أن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم
لا تهتز لكم قصبه!”
المضمون هو نفسه، الفرق في الشكل، هذا سفير وذاك شاعر ساخر.
لنذهب إلى أبي العلاء:
“اثنان أهل الأرض: ذو عقــلٍ بلا ديــن وآخر ديِّنٌ لا عقل لهْ.”
أليس في هذا القول تعميم وإطلاق وحكم عام على البشرية؟ هل سنسأل أبي العلاء “من فوضّك؟ هل سنسأله إن كان قد أحصى أهل الأرض ليرى ما إذا كان كل ذي عقل بلا دين، ولنسائله كيف يهين أهل الدين ويجعلهم كلهم بلا عقل؟ طبعًا لا. يقول الرحباني في كتابه، “المسيح السوري”، ما معناه، لنا نحن السوريين أسلوب خاص في الكلام يتضمن المبالغة، والتعميم، والسخرية، والشتائم.
من أبي النواس إلى محمد الماغوط إلى دريد لحام إلى سعيد تقي الدين إلى أبي العلاء، كثيرون كتبوا في الأدب الجاد والساخر في آن معًا. فأعجب الناس بالأدب العالي، ولكن ما حفظوه كان الساخر من الأدب.
القهر والقرف
لماذا يكتب زيد كما يكتب، ولماذا كتب كل من سميناهم ما كتبوا. إنه القهر والقرف الذي يتكوّم بسبب ممارسات مجرمة يقوم بها أشخاص اغتصبوا السلطات، سواء بالاغتيال أو بالاحتيال، داخل الحزب وخارجه. وترى الناس يصفقون لهم ويفسحون لهم صدارات المجالس ليتكتكوا بسبحاتهم ويحاضروا بالعفّة – بالإذن من سعيد. إنه القهر والقرف من ممارسات أوصلت أشرف مؤسسة عرفتها بلادنا في تاريخها المعاصر إلى حيث هي اليوم، وممارسات وسياسات أوصلت بلادنا الى الفقر والقهر الذي نعانيه. بعضنا يضبط أعصابه، بعضنا الأخر صاعق التفجير لديه سريع الاشتعال، ولكنه مولد لكتابات صاخبة شارخة صادمة مولدة للنقاش، كما نفعل هنا. فهل نمنعها؟ أبدًا، فإن فعلنا أصبح أدبنا ونقدنا أدبًا يُكتب بالقفازات البيضاء بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
النقطة الأخيرة
هناك نقطة أخيرة مهمة – بل هي الأهم في رأيي – في مقال الأمين أحمد، تتضمنها العبارة التالية:
“وعند هذه النقطة أتوقع احتجاجًا من أشخاص يقولون بتهكم وسخرية: “… وأي حزب تقصد؟ هذا سؤال يتسلى بطرحه عدد متزايد من “الرفقاء”، لكنه في الواقع يخفي الكثير! فالحزب المقصود ليس فقط الوحدات الحزبية والإدارات التنظيمية التي نعرفها جميعاً، وإنما هو حالة نهضوية ذاتية تتطلب الالتزام بقيمها والعمل على نشرها في متحداتنا، بغض النظر عن الواقع المرير للأجهزة الإدارية. ونحن لا نجهل أو نتجاهل الركام الذي طمس جوهر العقيدة القومية وشوّه شخصيتنا المناقبية. إلا أن ذلك لا يمنح أحداً منا مجالاً مشرّعاً لإهانة الآخرين أو السخرية منهم والانتقاص من قدراتهم.”
لقد تداولنا، الأمين أحمد وأنا، مطولاً في هذه النقطة وهي تحتاج إلى بحث مفصل في مقال خاص بها.
2 Comments
[…] مقالي الأخير “إنه القهر يا أحمد“، ذكرت أن ثمة عبارة مهمة، بل الأهم، في مقال الأمين […]
[…] مقالي الأخير “إنه القهر يا أحمد“، ذكرت أن ثمة عبارة مهمة، بل الأهم، في مقال الأمين […]