…إذا أتتكَ مذمّةٌ من ناقص!
Share
إنه لمن باب الصدفة بالتمام أن تجد كلمة “نقص”، ومشتقات لها، في عنوان المقالة كما في عنوانَي الكتابين اللذين سأتطرق إلى بعض محتوياتهما في مقالي هذا.
الكتاب الأول هو “أحزاب المناقصة” لنديم محسن (إصدار دار الجديد، في طبعته الأولى عام 2000)، والذي ضمّن محسن فيه مجموعة مقالات كان قد نشرها في جريدة الديار اللبنانية أواخر تسعينيات القرن الماضي. وسواء اتفقتَ، قارئي، أو اختلفتَ مع نديم محسن في تناوله مسائل متعلقة بالأحزاب العقيدية، أو من حيث رؤيته لكيفية تعامل قيادة “الحزب” – والتعبير لنديم محسن- معه (في الفصل الأخير من الكتاب)، من ناحية القرارات التي اتخذتها القيادة آنذاك بحقه
والطريقة التي اتُّخذت فيها تلك القرارات، لا بد لك من الاعتراف بوجود خلل أو “نقص” في هذه المؤسسة، “الحزب”، وبالأخص لجهة تعاملها مع الأعضاء الذين “تجرّأوا” على توجيه انتقادات إلى من اتخذ قيادة “الحزب” مطية لتحقيق غايات فردية، لا أكثر ولا أقل.
واحدة من “جرائم” نديم محسن التي اقترفها وقتها هي أنه كتب:
“طُرِحَتْ مناقصةٌ ولا كل المناقصات، موَجَّهة إلى كل الأحزاب، أو ما تبقى منها، وأُعطيت مهلةٌ لتقديم العروض، تكون نتيجتها دخول الفائز أو الفائزين إلى البلاط، والمشاركة في قطف ثمار ما تبقى من البستان!
فتقدّم الراغبون بعروضهم المحتوية:
تفريغ أحزابهم من العقائديين الأخلاقيين،
وحشو المنضوين الجدد بكل فراغ وعدم، وإلحاقهم في تشكيلات تنظيمية تمارس العمل على الطريقة الفئوية والعشائرية والإقطاعية،
ونشر وَهْم أن العقائد والأفكار “غير واقعية” وغير عملية و”قديمة”،
وقتل روح الصراع والإنشاء والعطاء،
واستخدام “الحزب” كقطعة إضافية في فسيفساء الطوائف،
ووضع النافذين أنفسهم فوق المبادئ والقضاء،
…
والحكم على الأعضاء بصلاحهم وطلاحهم بحسب تزلّمهم لأمير “الحزب”،
واتخاذ القرارات بما تُمليه منافع الأمير السياسية، لا بما اجتمع “الحزب” وتأسس لأجل تحقيقه، …
وتغييب العدل وتثبيت القمع نهجاً داخلياً.”
لم يكن نديم محسن، يومها، الوحيد الذي رأى تلك “المناقصة”، كما ولم يكن الوحيد من بين الذين تجرّأوا على الإعلان عنها، فإلى جانبه كانت هناك مجموعة من الذين حوربوا ولوحقوا. جريمتهم الوحيدة هي التجرّؤ على مهاجمة “تشاوشيسكو” -التعبير أيضاً لنديم محسن-. ولا أخال نديم أنه فوجئ يومها حين دفع هو ضريبة “تغييب العدل وتثبيت القمع نهجاً داخلياً”. فهو رفض دخول “حزبه” بتلك المناقصات، وأغلب الظن أنه لم يعلّق كثيراً من الآمال “علِّي بقيوا”، رغم مراهنته على ما “تبقى من البستان”… ولكنه خسر الرهان. لم يكن الأوّل، وللأسف، ولن يكون الأخير ممّن خسروا الرهان.
المؤسسة التي تتخلى عن أخلاقية النظام وجوهره المتطابق مع رؤيتها “الأصيلة” ونظرتها وفلسفة فكرها وغاية وجودها، وتتمسك فقط بقشور “المسؤولية” ومزاجية الأشخاص، هي مؤسسة ساقطة وناقصة. وكل ما يصدر عنها ساقط وناقص وتافه وسخيف.
“الحزب” الذي يلقي جانباً الاهتمام بمخاطر تهدد كل مواطن في كل زاوية من كيانات الأمة، فالعراق يتفسخ، والشام تتآكل، ولبنان يئن من الفساد، وفلسطين مثقلة بدماء شهدائها، ترزح تحت أشرس قوة احتلال، وبالإضافة إلى إهمال هذا “الحزب” لكل تلك المسائل المصيرية، يغض الطرف عن معالجة قصوره وتفتته إلى تنظيمات بائسة هشة فارغة، يتقاتل مسؤولوه ويتضاربون ويطلقون النيران على بعضهم البعض… ويستقبلون محمود عباس. وسط كل هذه النيران وهذا الخراب وهذا القرف، ينشغل “الحزب” بإسكات أصوات الحق وفصل أصحابها وطردهم. هذا “الحزب” يخاف من الكلمة، يخاف من الحقيقة.
الكتاب الثاني هو “تجربة ناقصة” للأمين هنري حاماتي (سلسلة أفكار، بيروت 1999). كتب حاماتي في صفحة 90:
“هذه هي بليتنا العظمى اليوم… وأخطر ما في هذه البلية العظمى، أن أصحاب هذا النمط الانحرافي الكريه يطمحون إلى تعميم “فضائله” وشرعنة عقليته اللاأخلاقية، بواسطة فلسفة صغيرة يريد أصحابها أن يؤكدوا لك بها أن “فوز” الأشخاص بمنافعهم الخاصة و”نجاحهم” في بلوغ أهدافهم الخاصة، هو “دليل” صواب فلسفة الحسابات الخاصة! وهي، هذه، فلسفة واقعية تعتبر الحق في واقع الحال، وفي النتائج الحاصلة منه، لا في المبادئ، والعقائد، والأنظمة، والدساتير، والقيم، والأخلاق، والأغراض، والمقاصد… وما شاكل هذه المفردات “السخيفة” مما “يتسلى” به العقائديون و”ينحرون” حياتهم الشخصية من أجله.
وفي منطق هذه الفلسفة، حتى الاستشهادات البطولية تصير بضاعة صالحة للتسويق في سوق الحسابات الشخصية، فالشهداء، هؤلاء الأطهار، الذين ضحوا بأشخاصهم في سبيل حسابات المجتمع، وفق قواعد الأخلاقية الراقية التي ولدتها العقيدة القومية الاجتماعية، يتحولون إلى مجرد أسماء وأرقام بضاعية سوقية في حسابات أصحاب المصالح الخصوصية، ومشاريعهم الخاصة.”
هذا هو المصير مع النقص في التدبير، والعجز في الرؤية، والقصور في تصنيف الأولويات. هذا “الحزب” يحترق ويتفتت ويغرق ويُحرق معه أعضاءه ويفتتهم ويُغرقهم، وهو يبحث في أصل الملائكة.
“الحزب” العاجز الناقص المفلس فاقد الشرعية (أبو رخّوصة في منح رتبة الأمانة بالجملة والمفرّق – مع احترامنا لبعض الأمناء) لا يحق له أن يحكم في مسألة تعاقد القوميين مع الشارع صاحب الدعوة. هذه مسألة حقوقية في الصميم، ودستورية في الصميم، وقانونية في الصميم، وتعاقدية في الصميم. ففاقد الشيء لا يعطيه.
في تسعينيات القرن الماضي، أراد “الحزب” أن يمنع نديم محسن عن الكلام، فصوّب إليه أحكامه وقراراته. وفي العقد نفسه، دُعي الأمين هنري حاماتي لإلقاء محاضرة عن سعاده والفكر والعقيدة والمبادئ في إحدى القرى البقاعية- وهو العالم في هذه المواضيع، بشهادة الداني والقاصي-، فقامت قيامة “الحزب” ولم تقعد وأرسلت من يمنع حاماتي من الوصول إلى مكان المحاضرة، وبالتالي منعه عن الكلام، وألغيت المحاضرة بقرار “حزبي”.
الفكر والعقيدة والمبادئ والغاية لم تعد على سلم أولويات المتحكمين بمصير “الحزب”. الأولوية أصبحت “إبحثوا عمَّن يتكلم بالفكر القومي الاجتماعي وعن سعاده وفلسفته وتعاليمه واقطعوا أنفاسه وحاكموه واتهموه بأبشع التهم والصقوا به شتى أنواع الشائعات.”
من المؤسف جداً، لا بل من المحزن، أن نصل إلى زمن نعتبر فيه ما يصدر عن قيادة “حزب”، من المفترض أن تتحلى بالحكمة والأخلاق والشرف والمناقب، مذمّة من ناقص. وبالرغم من النقص والعجز والاختلال في مصدر المذمّات، وبالإذن من أبي الطيب المتنبي، فلن يعتبر متلقو الأحكام تلك المذمّات شهادات لهم بأنهم كاملون، بل سيتابعون السير بخطى ثابتة لتحقيق غاية ضحّوا في سبيلها الكثير … والقافلة تسير.