العوامل الخفية في إدارة المؤسسات – الجزء الثالث
Share
المستقبل الغائب
تمهيد
نصل إلى ختام هذا البحث الذي يطال عملية التغيير الجذرية التي توخاها سعاده حين أطلق نهضته ووضع لها إطارا مؤسساتيا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي. في الجزء الأول من هذا البحث، عرضنا لنظرية البروفسور “جون فان مانن” عن مناظير دراسة المؤسسات، وفي الجزء الثاني، عرضنا لتفاصيل عملية التغيير والاسس التي اعتمدها سعاده. في هذا الجزء سوف نعرض لأبرز ما تعرض له الحزب في ثلاث مراحل من تاريخه هي 1938-1932، وغياب سعاده في مغتربه القسري بين السنوات 1947-1938، وما بعد استشهاده. ولمساعدتنا في هذا البحث سوف نضع العبارة التالية من محاضرة “فان مانن” نصب أعيننا لتساعدنا في فهم ما حدث.
“من الطبيعي ان يجري العمل على أفضل ما يرام في حالة التناغم التام بين الاستراتيجية والسياسة والثقافة. ولكن هذا نادرا ما يحدث. إنه يحدث عادة مع المؤسِّس في مرحلة التأسيس. إنه يقوم بوضع خطة استراتيجية ويشيد بنيانها ومراكز القوة فيها استنادا الى هذه الخطة. ولكن بعد فترة تنشأ ثقافات جزئية (Sub-Cultures)، وهذه الثقافات الجزئية تقرر هي من سيكون في مركز القوة، وهؤلاء، عندها، يقومون بوضع الخطط الاستراتيجية بما يؤمن مصلحتهم واستمرارهم في مراكز القوة هذه. في مثل هذه الحالة، ليس من الضروري ان تكون القرارات “عقلانية”. يكفي ان تتخذ مراكز القوى ما تراه مناسبا من القرارات، ثم تضفي عليها “عقلانية” عبر اختيار استنسابي للبيانات المفيدة لها.”
في الجزء الثاني من البحث، رأينا أن ما وصفه “فان مانن” عن حالة التناغم التام بين الاستراتيجية والسياسة والثقافة ينطبق على قيادة سعاده لحزبه لغاية سنة 1938. فماذا عن بقية العبارة؟ هل نشأت ثقافات جزئية (Sub-Cultures)، وهل قررت هذه الثقافات الجزئية من سيكون في مركز القوة؟ وهل وضعت من الخطط الاستراتيجية ما يؤمن مصلحتها واستمرارها في مراكز القوة هذه؟. هل كانت قراراتها “عقلانية” أم أنها أضفت “عقلانية” من عندها عبر اختيار استنسابي للبيانات المفيدة لها؟
الثقافات الجزئية: 1932-1938
الانتهازية: المآرب الخصوصية
من أين نبدأ؟ لنبدأ من خطاب أول آذار سنة 1938، والذي يعتبر بحق خطاب التقييم الأول لمسار الحزب والصعوبات التي تعرض لها منذ تأسيسه. في هذا الخطاب، كما يأتي سعاده على ذكر أول اثنين حاولا استخدام الحزب وهو في مرحلة جنينية لبلوغ أغراض خاصة فيقول:
“فمن أربعة اشخاص يجتمعون إلى صاحب الفكرة القومية كان اثنان يعتقدان أنّ القضية القومية ليست سوى وسيلة سياسية لبلوغ أغراض في نفسيهما، ويجيزان لنفسيهما احتقار إخلاص رفيقيهما وسلامة طويتهما ويظنان أنّ المناقب والأخلاق ليست إلا صوراً شعرية، وهكذا ترون الفائدة العملية الكبيرة من القاعدة التي وضعتها واعتمدتها لتوليد النهضة القومية ومن العمل بموجبها، فإنني لو تركت الفساد يستمر مندمجاً مع الصلاح والجدارة لما كان نمو الحزب سوى تضخم لا يلبث أن ينتهي إلى التفسخ والتفكك. إنّ عملية تنقية الحزب السوري القومي من العناصر الفاسدة غير الصالحة لحمل الرسالة القومية المجددة ابتدأت مع ابتداء الحزب، ويجب أن تستمر ليكون الحزب متيناً جديراً بحمل أعباء النهضة القومية.”
إن لهذه العبارة أهمية كبرى لناحية حماية المستقبل والتركيز على ان الاخلاق والمناقب هما في صميم العمل التأسيسي الدائم، وأن ترك هذه القاعدة، إضافة إلى قاعدة التنقية الدائمة، تؤدي إلى تفسخ الحزب.
كذلك، يرد في الخطاب الفقرة التالية، “إنّ أكثر الذين طُردوا من الحزب السوري القومي كانوا انتهازيين تأتي مطامعهم قبل القضية القومية. وبقاؤهم في الحزب بعد ظهور غاياتهم وخياناتهم كان يجعل قضية الحزب في خطر دائم.” هذه الفقرة لا تتعلق بالاثنين المذكورين أعلاه، بل بأول حادث طرد قانوني صريح بحق عدد من الأشخاص. يفصل الزعيم حادثة الطرد هذه في مقالة في صحيفة الزوبعة بعنوان نظرة الحزب السوري القومي الاجتماعي في أوربة (الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942).
كان ذلك الحادث الأول هاماً جداً من الوجهة المعنوية، على أنه لم يكن من الخطورة السياسية في مكان خطورة أول حادث طرد قانوني صريح وهو حادث طرد المدعو شارل سعد وأخيه فكتور سعد والزمرة التي تمكنا من تأليفها وبينها محامٍ من عائلة حبيش ومهندس اسمه بطرس سماحة. وخطورة هذا الحادث كانت في أنّ هؤلاء الأشخاص كانوا قد تقربوا إلى الزعيم وتظاهروا بالاهتمام والغيرة على القضية والحركة، وفي أنّ الزعيم كان قد عيّن شارل سعد، ولم يمضِ على دخوله الحزب سوى بضعة أشهر منفذاً عاماً لمنفذية بيروت التي كانت في ذلك الوقت، تضم ما يقارب الألف من القوميين الاجتماعيين. فهذه الوظيفة الخطيرة الشأن، خصوصاً في مدينة بيروت التي هي مركز إدارة الحركة السورية القومية الاجتماعية أكسبت المدعو شارل سعد أهمية وجعلته على صلة مع مئات الأعضاء.
ثم يستطرد في شرح ذلك في رسالة الى غسان تويني تاريخها 9/7/1946
“ويمكننا أن نذكر حوادث مؤامرة الخائن شارل سعد الذي كان منفّذاً عامًّا لمنفذية بيروت، وإساءة تصرّف فؤاد يعقوب مفرج بمشروع إنشاء “الشركة السورية التجارية” وتلاعبه بالأموال المجيبة لها، وإساءة تصرّف صلاح لبكي في المهمات والوظائف التي انتدب لها حتى أنه حين كان يشغل وظيفة “رئيس المكتب السياسي” كان “يلعب على الحبلين” لأنه كانت له مآرب نفعية خصوصية. وتبعه في هذا السبيل إميل خوري الذي عيّن مدة لعمدة الإذاعة، وتآمر ودسائس جورج حداد الذي شغل الحزب في عدة قضايا من دسائسه.”
هل يمكننا ان نطلق على هذه الاحداث المتفرقة وصف “الثقافات الجزئية كما يسميها “فان مانن”؟ نعم. بل إن سعاده يحذر منها إبان فترة الاعتقال الثاني، في رسالة غير مؤرخة منه إلى فخري معلوف، سنة 1936.
“عزيز فخري!
إني مرسل كتاباً إلى رئيس المجلس الأعلى بواسطتك، فيجب أخذ نسخة عنه قبل تسليمه، ويجب حفظه بين أعمال المجلس.
ترى من الكتاب والمرسوم الذي برفقته أني غير مرتاح إلى حالة الحزب السياسية والإدارية. ولم يكن في التدابير التي اتخذت أثناء سجني الماضي ما يشجعني. فأريد أن لا تنقطع عن الاجتماع، وأن ترى أن لا يكون هنالك تحيّز شخصي، وأن تحارب روح الــ «Clique» بكل قواك، وأن تسهّل دخول عناصر جديدة صالحة إلى ميدان العمل. أريد أيضاً أن تتصل بي رأساً بواسطة المحامين.
لست كثير التألم من الأغلاط التي حدثت وجرّتني إلى السجن وأوقفت مجرى التنظيم، فيجب علينا أن نكون دائماً مستعدين لتحمل نتائج الأغلاط، ولكن يجب علينا أن لا ندع الأغلاط تهدد القضية.
عسى أن تكون والعائلة بخير وطمأنينة. قدِّم احترامي للأمة المحترمة وسلامي لك وللأصحاب.”
إنها مدرسة واحدة، أنتجت في فترات متفرقة أفرادا ومجموعات تعمل لترسيخ ثقافتها. هذه المدرسة هي المدرسة الانتهازية، والتي سوف نراها تطل برأسها تحت قناع أو آخر، كلما سنحت لها الفرصة.
الثقافات الجزئية: 1938-1947
النظرة الدينية، الواقع اللبناني والنظرة الفردية
هناك عدد كبير من الرسائل كتبها سعاده إلى كل من فخري معلوف وغسان تويني ونعمه ثابت وأسد الأشقر بين شهري فبراير، وديسمبر من سنة 1946 يعالج فيها سعاده عددا من “الثقافات الجزئية” التي حاولت السيطرة ليس فقط على الحزب، بل على الزعيم أيضا. لن ندخل في تفاصيل هذه الثقافات بل نكتفي بعرض سريع لها تاركين للمهتمين متابعتها من مصدرها الأساس، رسائل سعاده، وهو خير مصدر.
فخري معلوف حاول إقناع سعاده بسيادة الكنيسة الكاثوليكية المطلقة ليس فقط في مسائل الايمان بل في جميع شؤون الحياة، ما اقتضى طرده من الحزب. وفي رسالة من سعاده إلى رئيس المجلس الأعلى آنذاك، نعمه ثابت، وتاريخها 1946-09-05 (الخامس من أيلول)، يتضح لنا ان الزعيم لاحظ صراعا بين عدد من “الثقافات الجزئية” يمكن لها ان تقسم الحزب:
“إنّ اهتمامي بهذه المظاهر الفكرية – الروحية الجديدة كبُر على نسبة ما رأيت من التوافق في بعض التعابير أو الآراء الذي يحتمل أن يقسم الحزب مع الأيام إلى “أصحاب النظرة الجديدة” و”أصحاب النظرة القديمة” فعدا عن تصريحات العميد صايغ وآراء الرفيق التويني في “تشديد الحزب سابقاً، المتطرف على العقيدة وتحجّره الأكاديمي. إلى أن “تحلّى بالمرونة مؤخرا…”
“…أما قضية غرض الحزب الأخير فأمر مفروغ منه واختلاف الأشكال الكلامية لا يمكن أن يغيّر شيئاً من حقيقته فقولك: إنّ الغاية من الحزب هي إصلاح حياة الشعب السوري الاجتماعية والاقتصادية والسياسية” لا يختلف عن قول أكثرية أعضاء المجلس الأعلى الموقر “إنّ الغاية من الحزب هي تثبيت القومية السورية” بل هو يكمله وما رأيته من خلاف فهو في اللفظ وفي جزئية المعنى لا في المعنى كله لأنّ قولك “إصلاح حياة للشعب السوري” يفترض وجود “للشعب السوري” ووعيه لوجوده الذي هو في الحقيقة “تثبيت القومية السورية”. ثم قلت:
“وأما باقي عبارة كلامك للمجلس الأعلى الموقر “سواء تثبت القومية السورية أم لم تثبت” فخطأ كبير نظريًّا وعملة ومن المناقضات التي لا تدل على صحة نظر في المسائل الأساسية الحقوقية.”
من هذه المدارس كانت النظرة الفردية التي نادى بها فايز صايغ، والواقع اللبناني الذي نادى به نعمه ثابت وأسد الأشقر وسواه والتي عالجها سعاده بعد عودته بطرد عدد من كبار المسؤولين، ودفعته إلى إعطاء المحاضرات العشر التي توخى منها إعادة الحزب إلى الغرض الأساس من تأسيسه.
ولكن هل كانت هذه المدارس مدارس فكرية بحتة يمكن لها ان تنتهي في صراع فكري تكون فيه الغلبة للأفكار الحقة؟ ليس تماما. إن كل هذه العناوين كانت تخفي تحتها صراعا على السلطة الحزبية مرتبط مشاريع سياسية لها علاقة بصراع القوى الخارجية المادية منها والنفسية.
الثقافات الجزئية: 1949 – حتى اليوم
إن عملية تطهير الحزب التي قام بها سعاده بعد عودته لم تكن كافية. فهناك أكثر من طرف “دارى جنابه” كما يقال بالعامية، وانحنى امام عاصفة التطهير ليعود ويتابع معركة الصراع على السلطة تحت عنوان جذاب أو آخر. وهنا أيضا لن ندخل في تفاصيل هذه المدارس التي هي عمليا استمرار لمدرسة الانتهازية المتلبسة إما بالتمسك الحرفي بالعقيدة، او بالمرونة السياسة. وتحتها ظهرت حركات دعم اليمين في الخمسينات، فاليسار في الستينات، ومنظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان في السبعينات ومطلع الثمانينات، فالنظام الشامي والآن حزب الله وإيران.
الغائب الثابت
الغائب الثابت في كل هذا هو “المستقبل”. هو النظرة الاستراتيجية العليا التي بنى سعاده حزبه عليها كما ثبتها في عبارته الخالدة، “طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى”، أو في غاية الحزب، التي وصفها انها المثال الأعلى.
ماذا حدث لكل من عاملي السياسة والثقافة في ظل “الثقافات الجزئية” هذه؟
مع غياب المستقبل، أي رفع مستوى الحياة بكل نواحيها، وهو الغاية العليا التي تشد معظم المقبلين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، أصبح لا بد لأصحاب الغايات الخصوصية من التعويض عن هذا النقص عبر عاملين، تثبيت مراكز القوى داخل المؤسسة وذلك عبر صراع مرير على السلطة تحوّل دمويا في أكثر من مرحلة، وتثبيت ثقافة هجينة مبنية على عقلية انتهازية تعود إلى ما قبل إطلاق سعاده لنهضته. علام يقوم هذا التعويض؟ إنه يقوم على إضافة نوع من “العقلانية” على قرارات سيئة. شارل سعد تحت عنوان “محاربة الديكتاتورية”، نعمه ثابت “الواقعية” أسد الأشقر “المرونة” مضافا إليها، “سواء ثبتت القومية السورية أم لم تثبت”، غسان تويني، “عدم التعصب لقيم الحق والخير والجمال”، سعيد تقي الدين في تبريره محاولة الانقلاب سنة 1956 وتعاونه مع الحكومة الملكية في العراق، “إنهم أبناء شعبنا”. وبعد انقلاب 1961، وتحول الحزب إلى اليسار، مئات الصفحات لتبرير هذا التحول، ومحاولة تزويج الحزب على الشيوعية والاشتراكية والعروبة.
أما الثقافة، فهي ثقافة الارتجال والمحسوبية والفساد والإقصاء والتهميش وصولا إلى القتل.
لم يقسم الحزب إلى قسمين كما خشي سعاده، إنه اليوم ثلاثة يمكن لنا ربط كل واحد منها بمدرسة من المدارس الثقافية الجزئية: التحجر العقيدي، والانتهازية والكيانية. أما الجسم السوري القومي الاجتماعي فهو في حالة تبدد حذر منها سعاده في عبارته الرؤيوية: “كل عقيدة تضع على عاتق اتباعها المهمة الأساسية الأولى التي هي تحقيق غايتها. كل ما دون ذلك باطل. وكل عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمة تزول ويتبدد اتباعها“
إن واقع الحال اليوم يفرض علينا الاعتراف ان بلادنا تحتضر بين أيدينا من جراء الاحتلال والفساد والتلوث، وكذلك الحزب السوري القومي الاجتماعي من جراء الصنمية والفساد والانحراف. وأنه لا خلاص لسورية ما لم يتم إنقاذ الحزب من المهيمنين عليه.
هل من مخرج من كل هذا؟ نعتقد أن نعم. والمخرج يبدأ من تركيز كل سوري قومي اجتماعي نظره في نقطة البداية التي وضعها سعاده لدى تأسيسه الحزب: المستقبل، النظرة والغاية. ثم يسأل نفسه هل ان الشكل السياسي – بمعنى الإداري – يصلح لخدمة المستقبل؟ وهل ان الثقافة السائدة تفيد؟ فإذا كان الجواب كلا لأي من هذه الاشكال، عليه ان يرفض المؤسسات القائمة عليها بغض النظر عن الزي الذي تتزيّ به، أو الأقنعة التي تختبئ وراءها، ويبحث عمن هم مثله لتشكيل كتلة قومية متراصة تنهل من مدرسة سعاده الفكرية والعملية وتضع الخطط لإنقاذ الحزب.
وإن لم يحصل هذا؟
تزول عقيدتنا ونتبدد.
هل ان الشكل السياسي – بمعنى الإداري – يصلح لخدمة المستقبل؟ وهل ان الثقافة السائدة تفيد؟
هذه اسئلة ممتازة
نعم للبحث : عمن هم مثله لتشكيل كتلة قومية متراصة تنهل من مدرسة سعاده الفكرية والعملية وتضع الخطط لإنقاذ الحزب.
فلتبدأ حضرة الرفيق أسامة في الطرح المفصل لهذه الفكرة ، فقد يكون فيها خلاص حزبنا و أمتنا .
الحياة لسوريا و الخلود لسعادة .
ن . م