الفوضى الخلاقة للأزمات
Share
تكلم عن مصطلح الفوضى الخلاقة، على الصعيد التاريخي والمعرفي لدى الأمم والشعوب، عدد لا بأس به من الكتاب والمفكرين بمختلف خلفياتهم الثقافية والحضارية. لذا من الممكن جدًا اليوم الاطلاع على تاريخ هذا المصطلح من حيث المنشأ والتوجه والمنصات المعرفية التي تناولته، وسوف أختصر هذا السياق التاريخي للمصطلح، وأنطلق بسرد فكري بسيط عن مصطلح الفوضى الخلاقة.
كثيرا ما سمعنا عن مصطلح (الفوضى الخلاقة) الغربي المنشأ والتوجه. ولكن كيف تصبح الفوضى خلاقة؟ من الطبيعي جدا أن تكون الفوضة خلاقة بالمفهوم الغربي ولكن بماذا وإلى ماذا تكون خلاقة؟
السؤال الذي نستطيع اليوم نحن أبناء الشرق الادنى أن نجيب عليه بعدما تلمسنا وعايشنا الفوضى بكل ظروفها حيث أن الفوضى لا تنتج سوى الأزمات، فإن أردت أن تخلق أزمات في مجتمع ما، فما عليك سوى بالفوضى.
وهذا الأمر أدركه العقل السياسي العسكري الغربي بعدما تعرض هو لأزماته الأولى التي تخطاها وعلم تماما آليات ضبط الفوضى والتحكم بها وما ينتج عنها ومن خلالها، استنتج مع مرور الوقت قدرته على الاستفادة منها. فتولدت لديه قناعة بأن هناك خطة لأي فوضى (خطة)، نعم خطة، الأمر مدهش فعلا، لكي تدير الفوضى، تحتاج لخطة تخلق من خلالها فوضى لأزمات تستمر وتمتد كما تراه المصلحة التي أنشئت لأجلها الخطة.
لكي تكون الصورة أكثر وضوحا سوف نذهب معا إلى أحد مسارح الفوضى الخلاقة. لنذهب إلى منطقتنا الشرق الادنى أو مصطلح الهلال السوري الخصيب، هل يعيش المجتمع اليوم في هذه الرقعة الجغرافية استقراراً أو شكلاً من اشكال النظام القابلة للنمو والتطور؟
الجواب الفعلي (لا) لا يوجد. وهل هذا صدفة أم إنه أمر مفتعل. وأي قوة تستطيع أن تقف وتكبح جموح أمة تريد الحياة وتطمح إلى المستقبل؟ غير أن تكون هذه الأمة منهكة تعيش حالة فوضى تجعلها مشلولة ومعلولة بأزمات تقوم بانتاجها (ذاتيا) عوضا عن مكافحتها والسيطرة عليها .
فإذا آمنا بأن هناك أزمات تنهش فينا، فأي فوضى خلقت لنا والتي انتشرت منها هذه الأزمات وأي مخطط يراد لها أن تسير فيه؟ وكيف لنا أن نواجه ازماتنا و نتخطاها؟
إن الشعوب والجماعات الإنسانية والأفراد، هم محاور الصراعات بين الأمم، فكل أمة لديها شعوبها وجماعاتها وافرادها التي تعيش بهم ولأجلهم ومن هذا الإدراك على المستوى الوجودي للعقل الغربي السياسي العسكري كان لابد من قراءة الشعوب جيداً وتحليل نقاط القوة لكل أمة منفردة لمعرفة اي خطة قادرة على انشاء الفوضى (الخلاقة للأزمات) أي ضرب عناصر القوة فتكون عناصر الضعف كفيلة بإنهاء ما تبقى منها.
فإذا أخذنا نقرأ عن شعوب الهلال السوري الخصيب، إن صح التعبير، فما القيمة الحقيقية التي تميز هذه المجموعات البشرية داخل الأمة عن سواها من الأمم الأخرى؟
في الحقيقة الأمر الذي يميز هذه الأمة هي الحالة الإنسانية الحضارية الموروثة من بدايات التكوينات الاجتماعية السليمة الأولى لذلك نرى اقدم مدن العالم تاريخيا وانسانيا هي في هذه البقعة الجغرافية من العالم القديم.
السؤال الذي يفرض نفسه، ما الذي جعل هذا الإنسان يمتلك تلك القدرة الإنسانية العالية في تعاملاته الاجتماعية؟
إنه نشاط الدماغ والتقدم (الفكري) العالي لهذه المجموعات البشرية عبر نشأتها الحضارية الأولى عبر تاريخها الطويل، أي أن الفكر والمنطق الإنساني الاجتماعي لهذه الجماعات يعد نقطة انطلاق وجود هذه المجموعات البشرية في الأمة عبر التخطيط والسيطرة والقدرة في مواجهة أزماتها المتلاحقة عبر تاريخها القديم. لذلك شهد موروثنا الفكري الإنساني أعظم ما توصل اليه البشري في التعاملات الإنسانية من منطلقات فكرية وصلت إلى حد القداسة الإلهية.
أي أن هذه الأمة تعتمد فكرا اجتماعياً متطوراً مترابطاً من الصعب توجيهه أو التأثير به كونه إرثاً يومياً في التعاملات الإنسانية إضافة يحمل صفة القداسة التي تمنحه قوة اجتماعية مضاعفة فما هو الحل اذاً وأي فوضى يجب أن يخطط لها .
البداية
كانت البداية عبر (فوضى الأفكار) التي استمد الغرب خبرته بها وخصوصاً من خلال (المسألة الهندية) لضرب الفكر الإنساني الأصيل لهذا المجتمع الذي سوف يُعد و ينتج أزمات من خلال فوضى الأفكار أهمها أزمة الهوية التي سوف تنتج بذاتها أزمة الانتماء لاحقاً، فيصبح الفكر الذي يؤمن به الفرد نقمة ونقطة ضعف لديه بعدما كان هو نقطة انطلاق قوته في المجتمع وبين الأمم الأخرى من هنا نرى كيف أن الفوضى تنتج أزمات ذاتية تشبه إلى حد كبير الفيروس الذي يتم زرعه فيقوم بالمهمة بمفرده والتداعيات التي تطرأ على الجسد سوف تشكل أزمات في (المستقبل) القريب لذلك يندهش المراقبون المحللون من الأزمات الحاصلة في المجتمع وكأن الأمر منظم رغم أنهم يشاهدون فوضى تدمر المجتمعات بشكل احترافي لكنهم يفتقدون فعلياً عمر الفوضى الزمني التراكمي
للأزمات الناتجة عنها.
من هنا نرى كيف يتم دعم خطط الفوضى بشكل كبير لتكون خلاقة للأزمات لأنها تعد من أكثر الوسائل استدامة وأقلها كلفة على الغرب لأنهم يعملون على الخطة وإمكانيات تنفيذها بشكل جزئي وما تبقى من الخطة ينتقل ويتطور بشكل تلقائي وفي المقابل يكون الأمر صعباً جداً على الصعيد الداخلي وخصوصاً بعد أن يكون مر على الفوضى سنين فيكون المجتمع غارقا بأزماته نتيجة الفوضى الخلاقة فتكون مواجهة الخطط الغربية مرهقة ًجدا لأن الصراع أصبح داخليا وبدعم خارجي، وهذا يعد طرح بسيط عن مفهوم الفوضى الخلاقة التي تنتج اليوم أزمات اقتصادية اجتماعية معيشة أخلاقية…..الخ لا تتوقف، وكأنها حريق توفرت عوامل الاشتعال به بشكل ذاتي ويأتي من يتحكم باتجاه الريح عبر وسائله الخاصة فيقوم بحرق ما يشاء دون أي تماس مباشر مع النار .
يمكننا تعريف الفوضى الخلاقة على أنها الفوضى المنتجة للأزمات التي تتيح التسلل للعمق الاقتصادي الاجتماعي للأمم دون الحاجة للتدخل المباشر لتنفيذ الخطة لإنهاك الأمة بل الأزمات تنتج وتخلق من يقوم بهذه المهمة والبشكل المطلوب.
الفوضى الخلاقة خطر حقيقي
إن اهم مساعي نجاح خطة (الفوضى الخلاقة) هو العامل الزمني، أي أن تمتد هذه الفوضى عشرات ومئات السنيين لكي تتمكن من الوصول إلى بنية المجتمعات أو الجماعات لأنها قابلة مع الوقت لأن تصبح عادات ومن ثم مبادئ وصولا إلى عقائد في كثير من الأحيان وذلك يعود إلى عامل الزمن حيث الفوضى من الممكن أن تمتد لأجيال متعاقبة. فتصبح المجتمعات رقعة واسعة للاستثمار السياسي في ظل أن الرقعة تحترق وتلتهم نفسها بنفسها أي استنزاف كامل في سبيل الغايات والمصالح السياسية للدول المصنعة للفوضى.
من هنا نرى كيف أن الفوضى الخلاقة للأزمات من أهم الوسائل التي يعتمد عليها الغرب في صراعه مع الأمم وكيف أن ثقافة العولمة وأدوات التحكم البشري الحديثة (منصات الإلكترونية) هي احدى أدوات توجيه الأزمات التي انتجتها الفوضى الخلاقة، لذلك علينا أن ندرك طبيعة الصراع القائم اليوم بين الغرب والعالم حول التكنلوجيا لأنها (منصات تحكم) وهذا لا يريده الغرب نهائيا أن يفلت من قبضة احتكاره (التطور التكنلوجي) وأن يستغله وتستفيد منه أي أمة جديدة صاعدة ورائدة في مجال (التحكم التكنلوجي) الحديث ( للبشر) فيكون كما الذي يقدم طبقاً من الفضة لكل تلك الخطط التي وضعها الغرب لسنين للأمم والشعوب المستغلة التي تستثمرها طوال تلك الفترة الماضية إلى اليوم في تحقيق مصالحها وغاياتها الاقتصادية السياسية العليا.
أنطون سعاده والفوضى
كان الزعيم انطون سعاده يتطرق دائما للفوضى في مقالاته خطاباته مستشعراً بها وبخطرها منذ اللحظات الأولى، ففي خطابه الأول عام 1938 يقول: “منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتنا تجمع بين الأفكار والعواطف، وتلم شمل القوات المعرضة للتفرقة بين عوامل (الفوضى) ( القومية والسياسية ) المنتشرة في طول بيئتها وعرضها، وتكون من هذا الجمع وهذا اللم نظاماً جديداً ذا أساليب جديدة يستمد حياته من القومية الجديدة، هو نظام الحزب السوري القومي _منذ تلك الساعة انبثق الفجر من بعد الليل، وخرجت الحركة من الجمود وانطلقت من وراء (الفوضى) قوة النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنا قطعانا بشرية، وغدونا دولة تقوم على أربع دعائم الحرية، الواجب، النظام، القوة، التي ترمز إليها أربعة أطراف الزوبعة القومية الممثلة في علم الحزب السوري القومي الاجتماعي.”
فإذا تمعنا قليلا بخطاب سعادة، فقد حدد فيه نوع الفوضى وهي الفوضى (القومية والسياسية) المفتعلة واذا نظرنا في جوهر الخطاب نراه ردة فعل هجومية حضارية إنسانية على (عوامل الفوضى) التي كانت تهيئ الخطة لتكون الفوضة الخلاقة للأزمات التي ستنهك الأمة وتضعف روحها الحضارية كما يحصل اليوم. لذلك نرى بأن سعاده القومي الاجتماعي لم يكن إلا بصورة تلك الأمة العريقة الذي عبر عن روحها فعلا بأرقى المعايير الناضجة التي تعبر عن رقي السوري لحضارته وقد استخدم أحدث الاساليب العصرية في عهده وإلى يومنا هذا، وهي إدارة الجماعات عبر المؤسسات فكان لا بد له أن يعلن عن حزب يملك في ضميره فكر حضارته وعوامل قوتها التي تعد القدرة الحقيقية للتصدي لعوامل الفوضى التي يؤسَّس لها في ذلك الوقت. من هذه الرؤية يمكن أن ندرك بأي واقع نحن اليوم بالنسبة للأزمات التي نراها وماهي عوامل الفوضى التي تقف وجه بوجه أمام مشروع الحزب السوري القومي الاجتماعي في الروح والغاية.
أخيرا لابد أن نعكس الزاوية لكي نبسط الأمر بشكل أكثر.
إن كانت الفوضى الخلاقة، خلاقة (للأزمات) بالنسبة لنا في بيئتنا ومجتمعاتنا على جميع الاصعدة الاقتصادية السياسية والقومية، فهي فوضى خلاقة (للفرص) بالنسبة لهم على الصعد الاقتصادية والسياسية التي تمنح أمنهم القومي ثباتاً واستقراراً بشكل مستمر ودائم، بذلك تنعم أممهم بالرفاه والاستقرار على حساب معاناتنا نحن شعوب الإنسانية والحضارة بتداعيات الفوضى.
سوف أكتفي بهذا السرد الفكري البسيط، لأن عوامل الفوضى أصبحت متشعبة ومركبة جداً وتحتاج إلى مقالات، فمقال واحد لا يغني بالقدر المطلوب. وأتمنى لشعوبنا المغلولة بالفوضى، التملص من قبضتها لتنعم بانسانيتها الكاملة تحت سماء هذا العالم الغارق بالفوضى، بين مخطط لها وبين مقيد بها.