فشل الثقافة المحلية والهجرة نحو الترجمات
Share
تبدل مزاج الجيل الشاب في القراءات وأسلوب الحصول على المعلومات، فدور النشر تؤكد أن الترجمات العالمية، في مقدمة القوائم المطلوبة للقراءة حسب مبيعات الكتب في المعارض العربية. كذلك الأمر بالنسبة لمطبوعات الدور نفسها التي تتجاوز نسبة الترجمات فيها ثمانين بالمئة، بناء على طلب سوق القراء. تلك الحقيقة تشير إلى انتفاض غير معلن ضد الثقافة المحلية أو مطبوعات المؤسسات الرسمية التي تتبع معياراً مختلفاً في تبني الكتب وطباعتها على نفقتها الخاصة مع تخصيص الكاتب بمكافأة مالية متواضعة، جعل مستودعات تلك المؤسسات تمتلىء بالكتب دون أن تجد لها زبوناً، رغم أن عدد النسخ المطبوعة من تلك الكتب لا يتجاوز خمسمئة نسخة!
من النادر العثور على قارىء يشتري كتاب شعر أو قصة قصيرة، في حين تحظى أية رواية مترجمة عن الأدب العالمي بتسويق سريع لمجرد أنها وافدة من ثقافات أخرى. وكذلك الأمر بالنسبة لكتب الفلسفة والفكر، كأن القارىء المحلي نفض يده من الثقافة المحلية بسبب فشل التنوير ومعالجة حال المجتمعات وخسارة الأمة لمعظم معاركها المصيرية في الحرب والثقافة والاقتصاد. رواية واحدة لإيزابيل الليندي تحظى على اهتمام القارىء العربي بسرعة، في حين لا يقبل على كتب نقابات الكتاب إلا النذر اليسير من المهتمين إما بدافع نقدي من أجل متابعة من يصدر، أو بسبب مالي لأن أسعار تلك الكتب أرخص من غيرها بكثير.
الرهان على الترجمات من الآداب الأخرى، يدل على خلل معرفي تغفله المؤسسات الرسمية المهتمة بالثقافة. ومن المتوقع أن يتفاقم هذا الخلل إلى مراحل يؤثر بها حتى على اللغة التي أصبحت تعاني الكثير في مواكبة الحداثة ونزوع الجيل الجديد إلى استعمال المفردات الأجنبية أثناء الحديث.
ينفي أيمن غزالي، مدير دار “نينوى” للطباعة والنشر بدمشق، أن يكون الجيل الجديد غير مهتم بالقراءة أو أن ثقافته متدنية وسطحية، فالكتب الرائجة في المعارض العربية التي تشارك فيها الدار تؤكد ميل الناس خلال السنوات الماضية إلى كتب الفلسفة والفكر المتوفرة في الترجمات على نحو خاص. ويرى غزالي أن ذلك ربما يكون مؤشراً على إعادة الجيل الشاب شحذ أدواته المعرفية استناداً إلى خبرات المراحل السابقة من أجل التقاط الأنفاس والحكم بشكل مختلف على أزمات المجتمع والتعامل معها.
ظاهرة تحضر بقوة في كل معارض الكتاب التي يشارك فيها اتحاد الكتاب العرب، عندما يعلن أنه سيعرض مطبوعات قديمة تعود إلى الثمانينيات أو التسعينيات، في هذه الحالة، سينتبه المتابع إلى الزحام الكبير على تلك الكتب ليس لسعرها المخفض باعتبارها صادرة عن الاتحاد، بل لعمقها وتضمنها أسماء هامة اشتهرت في تلك المرحلة أدبياً وفكرياً، وهي ظاهرة تشير إلى هروب الناس من الهشاشة التي غرقت فيها المؤسسات الرسمية لاحقاً عبر مطبوعاتها التي تراجع مستواها بشكل كبير.
لا يجذب القارىء اليوم، اسم أي مؤلف كتب في السياسة أو الأدب، في حين يهرع مباشرة لشراء أية رواية مترجمة حديثاً عن أدب أميركا اللاتينية، حتى لو كان الكاتب جديداً لم يسمع باسمه من قبل! القضية مرتبطة أيضاً بعامل الثقة التي تدهورت كثيراً بعدما تورطت النقابات في تسويق الثقافة الهشة فترة طويلة من الزمن، إضافة إلى ظهور تلك النقابات وكأنها تحارب الإبداع الحقيقي حيث هناك الكثير من الكتاب الجيدين لم ينتسبوا للنقابة ويطبعون على حسابهم الشخصي، عدا عن معاقبة بعض الكتاب بفصلهم من النقابة بسبب آرائهم المختلفة عن السياق العام.
لم نتحدث عن رواج الكتب الدينية، التي يعتبر جمهورها الكبير دليلاً على انعدام الثقة بالمستقبل والعودة للماضي للأخذ عن السلف جميع الحلول بعدما فتك الفشل بمعظم التجارب الوطنية الحديثة في الثقافة والسياسة وغيرها. فانتشار الكتب الدينية والإقبال عليها يتطلب بحثاً خاصاً تفرضه مشاهدة المتابع لأعداد المتزاحمين الكبيرة أمام الدور الكلاسيكية الشهيرة بطباعة هذا النوع من الكتب.
من جانب آخر، يقول سامي أحمد مدير دار التكوين بدمشق، إن كتب الباحث فراس السواح تعتبر في رأس قائمة الكتب المطلوبة في المعارض العربية. وهذا أمر يؤكد ما ذهبنا إليه حول أن القارىء يمكن أن تجذبه الأسطورة وتاريخ الأديان، نظراً لغياب اللآلىء الفكرية الحالية لديه. فهي عودة للماضي والتعويل عليه بعدما أصبح الحاضر والمستقبل في مهب الضياع. الدراسة النفسية لنوعية الكتب المفضلة في كل مرحلة عند الجمهور يمكن أن تساعد في تفكيك الشخصية ومعرفة ما يعتريها من تغيرات، لكن تلك الدراسات تغيب للأسف عن المؤسسات المعنية بهذه القضايا، وربما لا نجد مؤسسات تهتم بهذا الخط البياني رغم أهميته في الكشف عن الكثير من خبايا الرأي العام وتبدل ينابيع الثقافة عند الناس.
بالتأكيد تغيرت ينابيع الثقافة بالنسبة للجيل الجديد، في ظل التكنولوجيا الحديثة وسهولة الحصول على المعلومات وإمكانية تبادل الكتب الألكترونية بشكل مجاني. حتى بالنسبة للكتاب المحليين الحاليين، فإنهم غالباً ما يفتتحون كتبهم بمقولات لكتاب أجانب، وهذا إن دل على شيء، فهو يؤكد الخواء الحالي وغياب المرجعية أو غياب رتبة “الكبير” في الأدب والسياسة والعلم.
اليوم نحن على أبواب معرض دمشق للكتاب، وما تحدثنا عنه من ظواهر يمكن تلمسه في أجنحة دور النشر مباشرة منذ اليوم الأول. وإن ما تعانيه الكتب الملتزمة بتيارات فكرية أو سياسية، يعتبر الأكثر خطورة عند الجيل الشاب. فمن قابلناهم من هواة القراءة الشباب يعزفون عن تلك الكتب بذريعة أن تياراتها لم تحقق شيئاً على الأرض، بل يكتفي متبنوها بحملها كل عام إلى المعرض ووضعها على الرفوف والعودة بها إلى المستودعات كأنها كانت في زيارة “ودية” للمعرض.
البناء الثقافي، يقع في آخر اهتمامات المؤسسات التي يمكن أن تفعل في هذا الشأن. لهذا يبدو الجيل معتمداً على نفسه في البحث عن ينابيع الثقافة التي يريدها بديلة لكل ما سبق، وسواء نجح أم فشل، فإن ذلك سيعني تغييرات كبيرة على مستوى منهج التفكير والعقل.