أنطون سعاده: مفكّراً.. زعيماً؟
Share
ثمة إشكالية، تبدو ملازمة للكيفية التي تتم وفقها قراءة شخصية أنطون سعاده. وهي إشكالية منهجية يعبّر عنها التساؤل التالي: هل أنطون سعاده مفكر؟ باحث؟ فيلسوف؟ أديب وصحفي؟
أم أن أنطون سعاده: سياسي وقائد؟
لاشكّ أنَّ وصف أنطون سعادة بـ «المفكّر» و«الفيلسوف»، قد أغرى العديد من مريديه وقرّائه على السواء، لما تحمل هذه الصفة من ميزات شديدة الخصوصية «نخبوية» تحديدًا. وقد تمنّى بعض منهم لو اقتصر عمل سعاده على الجانب الفكري / الفلسفي وحسب، دون أن يكون مؤسسًا لحركة وحزب! «يعبّرعلي حميّة عن هذا الاتجاه بشكل واضح في مقالته المنشورة في جريدة الأخبار يوم الأربعاء 2 تشرين الثاني 2016 والتي جاءت تحت عنوان: لو لم يؤسس سعادة حزبًا سياسيًا. حيث ينتهي للقول: يا ليت سعاده لم يؤسس حزبًا وتفرّغ للكتابة والتأليف كغيره من الفلاسفة الكبار…» وبمقدار ما يريد أصحاب هذا الاتجاه تمييز سعاده ، باعتباره مختلفًا عن مؤسسي وقادة الأحزاب السياسية الأخرى، ويريدون أيضاً «تنزيهه» عن الأخطاء التي يرتكبها حزبه أو ارتكبها خلال تاريخه، حسب رؤيتهم، فإنهم في الوقت نفسه يعيدون إنتاج سعاده على نحو استبدادي، حيث يخرجونه من تاريخه ومن ذاته ويدخلونه في مخبر معرفي ويحاصرونه في صورة تؤطّره كفيلسوف أو مفكّر، وهي صورة مأخوذة على نحو افتراضي حتمًا.
يؤدي إدخال سعاده إلى «مخبر معرفي» تحت ضغط الإشكالية المشّرحة لشخصه، إلى إنتاجه كـ «مفكّر / فيلسوف» ولكن إلى عزله عن ميزاته، صفاته الأخرى، وهي رئيسية، كما إلى نسف الواقع الذي عاشه وحكم فكره وأدواته وخياله.
منذ نشأته وبداية عمله، لم يهتم سعاده بتمييز نفسه كـ «مفكّر» أو فيلسوف أو كاتب، كان سعاده مكرّساً كل جهوده العقلية لخدمة قضية كبرى، اقتضت منه في لحظة فاصلة أن يقدم نفسه شهيدًا لها فكان ذلك فصلاً استثنائيًا لا يخصّه أو يخصّ حزبه فحسب، بل يميز تاريخنا السياسي عمومًا.
منذ أن طرح على نفسه ذلك السؤال التأسيسي: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ عندما كان يافعًا في ريعان الشباب، خلال الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، أوضح قاطعًا دون أي التباس: (وبديهي أني لم أكن أطلب الإجابة على السؤال المتقدم من أجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر. وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب هذا الويل…» ويتابع قائلاً على نحوٍ لا يقبل أي تأويل «.. وفي أثناء درسي أخذت أهمية معنى الأمة وتعقّدها في العوامل المتعددة تنمو نموها الطبيعي في ذهني، وفي هذه المسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي بالمعنى الصحيح أما أنا فأردت «حرية أمتي واستقلال شعبي في بلادي». والفرق بين هذا المعنى التعييني والمعنى السابق المطلق المبهم واضح ـ من رسالة سعادة إلى المحامي حميد فرنجية ـ المحاضرة الثالثة من المحاضرات العشر).
بهذا المعنى، لا يبدو سعاده مهتمًا بإظهار نفسه كـ «مفكّر»، بل يبدو مهتمًا بإظهار «قضية بلاده» التي هو نفسه مؤسسها وباني عمارتها العقائدية من بابها إلى محرابها، بما يعني أن صفته الرئيسية العامة هنا، كمؤسس، تتجاوز صفته الخاصة كمفكّر. هذه الصفة العامة المتعددة الأبعاد والمركّبة تعبّر عنها كلمة «الزعيم» التي اختارها سعادة نفسه، ولم تكن لقبًا شائعًا أطلق عليه بقصد المديح والتعظيم، اختارها لأنها منهجياً تحمل قدرة مركَّبة تنطوي على صفات الرجل الفرد المؤسس والتي منها: وضع العقيدة ونظامها والدعوة إليها وقيادة مؤسساتها. وستبقى هذه الصفة محصورة بـ«المؤسس» بما يمنحها موقعًا خاصًا واستثنائيًا في نسيج القضية التي أسسها، ولكن هذا الموقع نفسه جاء مقيدًا وفق النظام المؤسساتي الحقوقي الذي وضعه سعادة نفسه.
ورغم استثنائية هذا الموقع وإيحائه «الفرداني»، لم يعمد سعاده كما لا يبدو مهجوسًا بتمييز نفسه كـ«فرد»، بل كان منكّبًا على إيجاد الخصائص والحقائق التي يمكن الاستناد إليها لتمييز الخط الإبداعي السوري عبر التاريخ، والذي تشكّل النهضة السورية القومية الاجتماعية حلقته الراهنة والحديثة. إن أية إشارة من سعاده إلى سعاده، في مختلف المجالات أتت بكونه مؤسسًا للحزب، لا بكونه فردًا عبقريًا متشاوفًا على رفقائه ومريديه وشعبه. لقد جرّد «موقعه» عن «شخصه»، فكان حين يشير إلى سعاده على سبيل التخصيص أو للإشارة إلى اجتهاد أو إبداع أو للإحالة إلى مرجع، يشير بصفة «الغائب» لا بصفة المتكلم، فيقول: قال سعاده، ولا يقول: قلت وأبدعت وو….
كان همّه الأول إزالة تلك الطبقات السميكة التي تحجب الشخصية القومية، وتبيان خطها العقلي خلال التاريخ، فسعاده برهان «فرد» على حقيقة تاريخية تخص المجتمع السوري والأمة السورية.
إن المسؤولية الموكلة لـ«سعاده» باعتباره «الزعيم – المؤسس» منحته الصفة المرجعية التي مكّنته من القول مثلاً إنَّ كتاب نشوء الأمم هو أول عمل في علم الاجتماع منذ «مقدمة» ابن خلدون «1332 ـ 1406 م»، ومكّنته أيضاً من لفت نظر جورج عطية وقد كان مسؤولاً حزبيًا حينها، أن أنطون سعاده هو من أدرج عبد الرحمن الكواكبي في سياق الخط النهضوي السوري الحديث، ومكّنته أيضاً من توجيه نقد شديد لـ«سعيد عقل» الذي كان وقتها عضواً في الحزب، الذي تباهى بإبداعه الشعري في قصيدته الطويلة الملحمية «بنت يفتاح»، فيما المطلوب وفق سعادة استلهام التراث السوري لا التراث التوراتي!!
على أن هذه المرجعية ذات وظيفة نقدية واضحة، بحيث يمكن الوقوف على تراث نقدي مرموق عند سعاده خصّ به عمله وعمل حزبه. يعتبر خطاب الأول من آذار 1938 رائداً في حقل «النقد الذاتي» وهو مصطلح سيكلف خسارة فلسطين 1948 وهزيمة 1967 حتى يرى النور في الأدب السياسي الشعاراتي المدائحي الهجائي!
ووضوح الوظيفة النقدية لمرجعية سعادة جعلته وبكل ثقة يصحح موقع الحدود الشرقية للأمة معدّلاً طبعة المبادئ الأساسية للحزب عام 1946، معيداً هذا التصحيح إلى الاكتشافات البحثية العلمية التي توصّل إليها، لا لدوافع رغبوية، وهذا التصرف «غريب» على عالم الرؤساء والمؤسسين وأصحاب العقائد والقضايا الذين ما أن يتفوهوا بكلمة حتى يتم تطويبها كـ «نصّ مقدّس» غير قابل للمراجعة ولا تحت ضغط أيّة اكتشافات أو أبحاث أو رؤى جديدة؟!
[إن ثقافة الخصومات العمياء دفعت إحدى أيقونات الفكر القومي العربي ـ آنذاك ـ ساطع الحصري للنظر إلى تجاوز سعاده لذاته باعتباره عيباً فكريًا، فيما هو في الواقع ميزة استثنائية].
إنَّ الصفة المرجعية لسعاده، لا تعمل وفق آلية تفترض أن حضورها يلغي غيرها، ولا «تجبّ» دونها من الصفات أو المواقع الأخرى، بل هي تندرج في إطار نظام مؤسساتي يقيدها بصلاحيات محددة. والأمثلة كثيرة ومتعددة التي تم فيها «امتحان» هذا النظام أثناء حياة سعاده، ولعل أكثر الأمثلة وضوحًا يتمثل في الطريقة التي احترم فيها مؤسسات الحزب، وهو في المغترب بعيدًا، مع تأكده ويقينه أن القيادة الحزبية آنذاك كانت تحرف الحزب بعيدًا عن معناه وعقيدته وغايته.
سعادة، لم يكن كاتبًا، ولا مفكّرًا، ولا باحثًا، ولا فيلسوفًا.. هذه مزايا فيه كان يفعّلها عندما تحتاج القضية التي كرّس حياته لأجلها.. هذه وغيرها صفات جزئية للصفة المرجعية الأساس: الزعيم.
—————————————————————
تنويه: يشكل هذا النص جزءًا من فصل كامل من كتاب (موسيقا النقد) لمؤلفه: نزار سلّوم.