ملف الندوة: مكيال العلم وميزانه- الأمين إيلي عون
Share
نص الكلمة التي ألقاها الأمين إيلي عون في الندوة التي عقدت في دارته بضهور الشوير، لمناقشة كتاب شحادي الغاوي: “الاسباب والعوامل الحزبية الداخلية في تاريخ استشهاد سعاده…”
أيها الحضور الكريم،
يقول الكاتب “…إن هدف هذا الكتاب ليس البحث والتفتيش عن اخطاء الأشخاص وابرازها والنيل منهم، بل اننا نبحث عن الأخطاء الكبرى التي أثرت في تاريخ الحزب وعن الانحراف عن نهج سعاده وقضيته القومية الاجتماعية بغض النظر عن الأشخاص وأسمائهم. عندما نفعل ذلك يغيب عن ناظرنا الأسماء ولا يبقى امامنا الا الحدث ونتائجه والعبرة الواجب تعلمها منه..” انتهى قول الكاتب.
مكيال رجل العلم الموضوعي المجرد الذي لا يساوم ولا يهادن ويقوّم الأشياء بالقسط، ويشهد للحق ولو على نفسه انه يزن الخطأ بميزان واحد بصرف النظر عن مصدره كحسناء ترفل بجيدها المياس وقدها الممشوق وسحرها الذي يكاد يضيء في الظلام ولو لم يمسسه نور. وهذا هو الفرق بين رجل العلم وبين رجل الاشاعات والتهم والأضاليل.
محصلة هذا البحث العميق تنزل على اذن القارئ المتعبّد الذي تبلّد حسه المنطقي وفقد ذائقته وقدرته على ان يميز الخبيث من الطيب والصحة من الرطانة فلا يتأتى هذا التمييز الا بعد المجاهدة والمكابرة وبدوام العراك مع الوثائق والمنشورات والتحقيقات والاشتباك المتصل مع أصولها ومنابعها، وليس بإطلاق ما رثّ وهان من النعوت والأوصاف لتقزيم الكاتب وتجريحه وتجريمه.
ليس هذا الكتاب فوق النقد وليس مهمًّا ان يكون قد توصل الى حقائق دامغة في كل ما عرض او تطرق اليه. ففيه الكثير من القمح والقليل من الزؤان وفيه ما بين ذلك مما يفتح الأبواب لحوارات واستكمالات وتدقيقات تأكيدًا او نقضًا وفيه من الصفاء والبلورية ما لا ينكره إلا كل مكابر. النهضة القومية الاجتماعية هي نهضة العقل ونهضة العلم ونهضة الثقة وهي ممارسة تاريخية جغرافية لها زمانها ولها مكانها، لها انتصاراتها ولها انكساراتها وإحدى انتصاراتها هي قدرتها على نقد ذاتها بعلمية قاسية ولكن بدون حقد وتشف، وبنزاهة أخلاقية ولكن بدون مداجاة او محاباة. يقول سعاده، “نحن فخورون بجراحاتنا لأنها جراحات أعزاء لا جراحات أذلاء”.
اتبع الكاتب في بحثه المرهق والمضني نهج العرض الدقيق ثم الانتقال الى التحليل فالنقد. ولما كانت أدوات الأدلة بعضها مخفي وبعضها يشوبه التشويش وبعضه متناثر، فقد عمد الى أسلوب ناجع وفعّال وهو المقارنات بين الأقوال والوثائق والمذكرات فضلا عن المجريات التاريخية على الأرض. فلم يأل جهدا في بحثه المعمق بدءا من القريب القريب من موضوع الحدث الى البعيد البعيد عنه، حتى يأتي بالدرّ المفيد ليثبت استنتاجا او يخلص الى تأكيد حقيقة ما. فأن يقرأ اربعة او خمسة آلاف صفحة من مذكرات أكرم الحوراني، على سبيل المثال، ليؤكد حادثة او قولا، ويقرأ آلاف الصفحات الأخرى وعشرات الكتب الأخرى ويدقق في مروياتها بمقارنته الناجحة مع العديد الآخر من الكتب والوثائق حتى يشبع الواقعة إحاطة ومحاصرة، وبعدها يقوم بعملية إسقاطها على الواقع السياسي الذي اكتنف سيرها ليرى مدى تطابقها معه، فاذا حكم او استنتج جاء حكمه او استنتاجه سديدًا عادلًا.
بعد مؤامرة اغتيال سعاده جاءت معظم الكتب من عام 49 حتى اليوم لتدلل على الاسباب الموضوعية من اجتماعات مع أركان العدو الصهيوني الى تلك بين أركان السفير البريطاني وعبيد الداخل، الى الجنرال ميد في السفارة الأميركية الى الزنيم حسني وصحبه والى باقي أذناب الاستعمار. نذكر منها على سبيل المثال كتاب الرفيق جان دايه وكتاب الراحل الدكتور انطوان بطرس وكتاب الأمين الراحل سامي خوري والأمين الراحل بشير موصلي والأمين الدكتور مطانيوس خوري وكتاب الأمين سليم سعدو سالم. غير ان هذا الكتاب بالذات عَنِي بالأسباب الذاتية التي أدّت أو ساهمت أو سهّلت أو في أقل الايمان لم تُحِل دون قتل سعاده بهذا الاستخفاف. ما أصعب هذه المهمة وما أعقد تفاصيلها وما أقل وثائقها. برأيي المتواضع، نجح الكاتب في مهمته في مواضيع كثيرة، وفي مواضيع أخرى، حيث كان المسار صعبا، عمل كمحقق في جريمة آثارها ضئيلة وشهودها أغلبهم قد ووري الثرى، فما كان منه الا ان جمع كل ما تيسر له من بقايا آثار، ليقوم كالعالم في مخبره بإعادة تركيب احجار اللوحة ويبعث المشهد حيا في زمانه ومكانه. أهمية البحث حين يتعذر وجود الأدلة المفحمة والتي تعلو على أي ريب هي تمكنه من توجيه بوصلة البحث في الاتجاه الصحيح وطرحه لأسئلة شرعية منطقية او ما يسمى بالإنكليزية: Logical and legitimate question.
طروحات هذا الكتاب لما اتسمت به من موضوعية وأناة، تفتح الباب على مزيد من الأبحاث والتحليلات التي من شأنها استكمال ما بقي غامضا او ناقصا او ما يلزمه تأكيد، وكل ذلك يصب في خدمة النهضة وتعزيز أواصرها.
“الحق يحرر” والباطل يستعبد. والحق ينتصر بالحرية المسؤولة وبالصراع. أن نفقأ الدمل مهما كانت الآلام المصاحبة لذلك، خير لنا من أن نختم الجراح على اعتمالات وزغل. ولا يسعني إلا الاشارة الى الذين قاموا بالهجوم على الكتاب وبعضهم دون ان يطلع عليه، أن معظم ما جاء في هذا الكتاب، ان لم أقل كله، هو موجود في مذكرات أو رسائل مدونه أو وثائق سفارات. لم يقم المؤلف باختراع تلك المذكرات أو تلك الرسائل انما استند اليها بأسلوبه الناجع في المقابلات والمطابقات بعضها مع بعض، ليتمكن من الوصول الى الاستنتاج الأكثر عقلانية ومنطقية.
وأضيف، أن حزبنا سبق ان قام بنقد لمسيرته، خاصة مرحلة الخمسينات، وأدان كثيرا من مواقفه السياسية وهذا يحسب له لا عليه، ومن منكم بلا خطيئة فليرمنا بحجر. الحركات الحية لا تخاف على نفسها من النقد الذاتي. فالدول والأنظمة التي يكتب لها النجاح تحصن نفسها وتقوي ركائزها بمبدأ الحرية والنقد الهادف البنّاء. وكما يقول الزعيم، “حق الصراع هو حق التقدم..” والصراع الفكري والنقد والتحليل المسؤول هو عصب الحرية وعصب التقدم.
غير انه لا بد لي من القول إني لا اوافق الكاتب على مقاربته واستنتاجاته في موضوع انقلاب 61-62. فللنجاح ألف اب أما الفشل فيتيم كما يقول المثل. وبعد مضي ما يناهز العقود الستة على تاريخ الانقلاب وما شاهدناه وما خبره الشعب في لبنان من تفتت اجتماعي واحتراب طائفي ومذهبي، وبعد ان افترس غول الطائفية الدولة برمتها وبعد أن نهب الفاسدون البلد وبعد ان ابتلعت امواج البحر ملايين الشباب كفرا بظروف العيش وبعد هذا السقوط المريع في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاخلاقية والقيمية نقول كم نتمنى لو نجح ذلك الانقلاب. ويكفي حزبنا فخرا وشرفا أن الذين قاموا به رفقاء مدنيون من عامة الشعب وأن النظام عجز أن يثبت ضلوع أية دولة اجنبية او اقليمية بدوافع الانقلاب لدرجة ان الرئيس صائب سلام ذكر في مقابلة معه في اواخر الستينات ان الرئيس شهاب أسرّ اليه بان المكتب الثاني قام وزج ببعض العملات الأجنبية بحقيبة الدكتور عبدالله سعاده من اجل الصاق تهمة التعامل مع دولة اجنبية. أما قول الكاتب ان أعين السفارات كانت على الحزب فهي شهادة له لا عليه. روحية المقاربة كان يجب ان تكون روحية اعتزاز لا روحية استنكار.
اختم بالقول على لسان الكاتب، “المطلوب هو استعادة حزب سعاده استعادة جذرية فاعلة وعدم التعايش مع الانقسام والانشقاق والفساد بل اجتثاثه ومعاقبة مرتكبيه، ثم الاعتذار من الشعب للتأخر في استعادة حزب سعاده لأصحابه الحقيقيين.”
ولتحي سورية وليحي إسعاده