صراع الأضرحة- حسان يونس
Share
في العام 2003 حصل الغزو الأمريكي للعراق، وتاليا تم تدمير مؤسسات الدولة العراقية وخاصة الجيش، ومن ثم أُعدم الرئيس العراقي صدام حسين. وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ، خاطب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي الرؤساء العرب من على منبر قمة رئاسية للجامعة العربية في دمشق عام 2008 قائلا “إن الدور قادم عليكم”.
في الواقع لم يكن كلام الرئيس الليبي الراحل نبوءة بقدر ما هو معرفة. ذلك انه بعد الغزو الأمريكي للعراق بات واضحا أن كيانات سايكس بيكو أصبحت منتهية الصلاحية وأن منظومة جغرافية سياسية جديدة آخذة في التشكل وستأخذ في طريقها الكثير من الرؤوس، وستولد فراغ ريثما تكتمل عملية ملء الفراغ.
وإذا كان الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي على دراية بما هو قادم، فان القوى الإقليمية كإيران وتركيا، كانت هي الأخرى على دراية وتعاملت مع الأمر وفق مقتضاه. فاتجهت كلا القوتين إلى التحضير لملء الفراغ، ومواجهة التحديات المقبلة وتحويلها إلى فرص، وبدأت بالزحف الناعم ريثما تحين لحظة الزحف المسلح. والزحف الناعم هو كناية عن استعمال القوة الناعمة وفي سبيله استعارت كلا القوتين حكاية مسمار جحا وعملت على زرع عدة مسامير في الجغرافية والفضاء الثقافي والسياسي والاجتماعي السوري كي تعلق عليها مصالحها عند الحاجة.
من الجانب التركي:
اعتمد الأتراك على مسامير ذات طابع قومي تعود بالذاكرة إلى الإرث العثماني حيث يطلق التركمان السوريون على ميليشياتهم المسلحة أسماء السلاطين العثمانيين مثل ألوية السلطان مراد والسلطان سليمان شاه، والسلطان عثمان، فرقة السلطان مراد، فرقة محمد الفاتح، فرقة المنتصر بالله.
وفي 24/8/ 2016 أطلقت تركيا عملية “درع الفرات” داخل أراضي شمال سوريا، بالتزامن مع ذكرى معركة «مرج دابق» التي انتصر فيها العثمانيون على المماليك عام 1516 وظهر المقاتلون التركمان في هذه المعركة يضعون ربطات يد زرقاء ترمز إلى علمهم الإثني، في حين يضع المقاتلون العرب ربطات يد حمراء.
ومن الأمور ذات الرمزية العالية في التحضير “للدور التركي المقبل” أن يعاد عام 2004 تأهيل ثلاثة أضرحة لطيارين أتراك قضوا في تحطم طائرتين عثمانيتين لأسباب تقنية خلال رحلتين بين اسطنبول والقاهرة عام 1914، ومركزها، حاليا، إلى جوار ضريح “صلاح الدين”. وكانت الأعلام التركية ترفرف فوقها حتى العام 2011، وحيث يتم التعريف بهؤلاء الجنود من قبل موظفي ضريح صلاح الدين على أنهم شهداء. وهناك أيضا الإشكالية المتعلقة بضريح سليمان شاه جد العثمانيين المدفون في الأراضي السورية والذي نصت اتفاقية لوزان في بند خاص على حق تركيا في حراسته مباشرة، إذ يعتبر الأتراك أن قطعة الأرض التي يقع عليها الضريح هي ملكية تركية، وقد قاموا بناءً على ذلك بنقله عام 2015 إلى داخل تركيا لحمايته وفي 2018 جرت إعادته إلى مكانه القديم في سورية ليكون كبقية الأضرحة شهادة طابو على الملكيات التركية في سورية. وهناك أيضا التكية السليمانية التي شهدت عام 2016 اهتماما غريبا ولافتا خارج السياق العام ففي أوج الحصار الاقتصادي والسياسي وانقطاع الخدمات الأساسية عن مناطق وشرائح واسعة من البلاد جرى توقيع عقد بقيمة مليار ليرة لترميمها في وقت تتعرض فيه مدن أثرية سورية ذات قيمة ثقافية عالمية للإهمال التام ومحاولات تغيير المعالم وهو حدث يؤكد ان نفوذ العائلات ذات الأصول التركية لا زال فاعلا بقوة في الحياة السياسية والاقتصادية السورية وان جميل مردم بك لم يمت بعد إذ لا تزال بقايا النخب العثمانية فاعلة في الفضاء السوري. (للتوسع أكثر في هذه المسالة يمكن مراجعة كتاب “اعيان الشام” لصقر ابو فخر.)
إلى جانب ذلك ارتدى الأتراك القميص الإخواني مع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم واستعملوا في سورية التنظيمات الإسلامية الإخوانية والقاعدية كجبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام لاحقا، لكن علاقة تركيا مع هذه التنظيمات بقيت علاقة وظيفية أداتية، وليست علاقة عضوية كما هو الحال في علاقة إيران مع التنظيمات الإسلامية الشيعية التابعة لها.
من الجانب الإيراني:
إذا كان الأتراك زرعوا مجموعة مسامير جحا على شكل أضرحة ومباني تراثية ذات طابع قومي تؤكد على الإرث العثماني في سورية، فان الإيرانيين اتجهوا إلى مسار آخر. لقد زرعوا مسامير جِحَاهم على شكل رموز وأضرحة دينية تنتمي إلى الإرث الشيعي في سورية. وهي أضرحة جرى إحياؤها ضمن ما يسمى في العرف الشيعي بالـ “مراقد” لربطها بطقوس “الزيارة إلى المراقد”، حيث تمت إعادة بناء مقام الصحابي عمار بن ياسر، واويس القرني في مدينة الرقة وتدشينه في عام 2004 باهتمام خاص من الحكومة الإيرانية بعدما كان مقاما عاديا. والأمر ذاته ينطبق على مقام السيدة زينب في ريف دمشق، والذي تحول بغطاء وتمويل رسمي إيراني إلى “مرقد يستوجب الزيارة” ومركز مهم للقوة الناعمة الإيرانية منذ سبعينيات القرن الماضي. والأمر ذاته ينطبق على مقام السيدة رقية في دمشق القديمة ومقام السيدة سكينة في داريا ومشهد الحسين في مدينة حلب ومقام حجر بن عدي في ريف دمشق.
اللافت في كل هذه الأضرحة، أن الإيرانيين أنفقوا الكثير لجعلها آيات في الفن المعماري، وللإشراف على إدارتها مباشرة دون تبعية لوزارة الأوقاف السورية، وأي زائر يستطيع تبيّن الفرق بين الجامع الأموي ومقام السيدة رقية الذي يقع إلى جواره من حيث فخامة البناء وإدارة المكان، إلى جانب ذلك تشهد الساحة السورية حضورا كثيفا للرموز الشيعية من خلال إطلاق أسماء دينية على التنظيمات الشيعية التي حشدتها وتحشدها إيران في سورية مثل حزب الله ولواء أبي الفضل العباس ولواء سيد الشهداء وحركة النجباء العراقية وكتاب حزب الله العراق وفرقة الفاطميون وفرقة الزينبيون وغيرها.
ومع اشتعال الصراع المسلح على الأرض السورية وانخراط الأتراك والإيرانيين في هذا الصراع وجدنا كلا الطرفين يعمل على اقتلاع مسامير الطرف الآخر وكل طرف يتدخل أو يهدد بالتدخل لحماية مساميره. فكان أن تعرض مقامي عمار بن ياسر وحجر بن عدي للتفجير والتدمير الكامل من قبل جبهة النصرة، وكان أن تدخل حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية (حسب الخطاب المعلن لهذه الجماعات) لحماية مقام السيدة زينب والسيدة سكينة وكذلك تدخل الجيش التركي لحماية مقام سليمان شاه قبل أن ينكشف المستور ويعلن كل طرفه عن مصالحه جهارا نهارا بحيث فقدت هذه الرموز، والتلطّي بها أهميته نسبيا، اللهم إلا على مستوى الحشد والتعبئة.