المصور المغترب بهجت إسكندر: الصورة ذاكرة الأمة ووثيقتها التي لا تفنى
Share
شام قطريب
غادر منذ ستينيات القرن الماضي إلى المجر، فحصل على دبلوم في الهندسة والتدريس في الجامعات المجرية، لكن اختصاصه الأكاديمي لم يمنعه عن شغفه بالتصوير الضوئي، فقد زاول هذا الفن منذ بدايته في المغترب، ومع الوقت تحولت صوره إلى وثيقة تحتفي بها وسائل الإعلام والمثقفون والكتاب، نظرًا لحرفيتها وواقعيتها في تصوير الحياة هناك، إلى جانب توثيق الشخصيات المؤثرة في المجتمع، فنال الكثير من الجوائز وشارك في العديد من المعارض داخل المجر وفي أنحاء العالم. أعماله مقتناة في الكثير من المراكز الثقافية الأوروبية والعربية. زار سوريا عدة مرات وشارك في مهرجاناتها ووثّق العديد من معالمها في حلب وتدمر وجبلة القديمة، لكنه لم يحقق جميع ما كان يحلم به على صعيد تصوير معالم الوطن كي ينقله إلى الأجيال القادمة بأمانة، لأن التصوير ذاكرة الأمة كما يقول. حول فن التصوير الضوئي في ظل التطور التكنولوجي، وما أنجزه خلال مسيرته الطويلة، كان للفينيق هذا اللقاء مع المصور الضوئي المغترب بهجت إسكندر:
- يقول البعض، إن الناس لم تعد تهتم بصور البورتريه التي كانوا يحبون بروظتها وتعليقها على الجدران، بعدما صار التصوير متاحًا بشكل كبير على أجهزة الموبايل، هل يمكن أن يدخل الإنسان عصرًا جديدًا تختلف فيه علاقته مع الصورة لتصبح إلكترونية فقط؟
من ناحية البورتريه والنظرة إليه، يمكن أن أختلف معكم، لأن البورتريه على اختلاف أنواعه، يعتبر مفتاح التصوير ولا يمكن أن يفقد سحره وضرورته مع تبدل الوقت. البورتريه معادلة صعبة يجب الاستعداد لها ومعرفة الكثير عن الموديل أو الشخص المراد تصويره والدخول إلى أعماقه وانتقاء اللحظة المناسبة للتصوير. باستطاعة المصور أن يرى غير المرئي، ويمكنه توقع ما قد يجري بعد لحظات والتمييز بين التمثيل والواقع، بين الحقيقة والخيال. فاذا كان البورتريه لا يحمل ملامح وصفات الموديل، فقراءته ورسالته تصبح خاطئة. البورتريه الجيد الأصلي والأوريجينال، قيمة لا تقدر بثمن لمن يفهمها.
لقد حصل انقلاب، بل ثورة هائلة في مجال تكنولوجيا التصوير، بعدما انتشر عالم الديجيتال. فلغة التصوير التي كانت سائدة قبل ربع قرن من الآن، أصبحت تراثية وغير مفهومة بالنسبة لمصوري اليوم، خاصة ما يتعلق بأفلام الأبيض والأسود، وتحميض الأفلام وطولها وكيفية التعامل معها. لكن هذا كله لا يمكن أن يلغي مفهوم الصورة الجيدة وأهميتها في توثيق الزمن والأحداث.
كانت عملية نقل الاستوديو إلى مكان العمل، تتطلب حضور ورشة من ذوي الاختصاص من أجل التجهيز وإعداد المكان والخلفيات المناسبة، حتى لو كان المراد تصويره لقطة واحدة. اليوم كل ذلك يتم عبر الكمبيوتر بينما المصور مسترخٍ بكل هدوء خلف الشاشة.
كنا نشتري ماكينة التصوير، ثم يرثها أولادنا ويستعملها أحفادنا، والآن كل المعدات موجودة ومتوفرة لدى الجميع بدءًا من آلات التصوير إلى البرامج والطابعات. لقد أصبحت معدات التصوير والكاميرات منتشرة بين يديّ الأم والرضيع والعامل والطبيب وجميع فئات الناس.
يجب على المصور أن يحسن الاختيار قبل أن يلتقط الصورة. فالسهولة وكثرة الإنتاج تصبح مشكلة إذا لم يتم تنفيذ الأمر كما يجب. اليوم مع وجود الموبايل، تحول الجميع إلى مصورين متصلين مع وكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي التي تتولى نشر الصور بالسرعة القصوى، وهذا الأمر له سلبياته وإيجابياته، فمهما تطورت الأدوات لابد من وجوج الإنسان المحترف والموهوب الذي يتعامل بعقلية الفنان أثناء التصوير.
الصورة تحتاج لمن يجيد قراءتها بمفرداتها المكونة من الزمان والمكان، فهي الشاهد الحقيقي على مرور الوقت، كما أنها تحمل في بصماتها معلومات وشواهد دقيقة وحقيقية تصور حياة الناس من خلال لباسهم ومعداتهم وأسلوب حياتهم. إن الصورة تعتبر وثيقة تاريخية يمكن أن يلجأ إليها العلماء لأنها تقدم معلومات هامة للباحثين وعلماء المجتمع.
- سنوات طويلة قضيتها في المهجر، وقد صورت معالم الحياة هناك ونلت جوائز كثيرة في التصوير الضوئي. كيف كانت البداية وكيف تمكنت من ترك بصمة في المشهد الفني المجري؟
عندما وصلت أرض المجر، فكرت كثيرًا، كإنسان سوري، كيف وماذا يمكن القيام به كي أوصل للعالم وللبشرية الحقيقة؟ كيف أستطيع الظهور في بيئة لا أعرفها ولا تعرفني؟ إنها بيئة تتضمن مشاكل معرفة اللغة والتاريخ وحتى الجغرافيا لهذا البلد المضيف. كان ذلك تقريبًا في منتصف الستينيات من القرن الماضي، عندما قررت استخدام لغة العصر، اللغة التي يفهمها جميع من في الكون من دون تفريق بين الشعوب والأديان واللغات. وكما أن أرض أجدادنا أعطت أول أبجدية للعالم، اعتبرت أن التصوير الضوئي هو أيضًا لغة وحروف عالمية يمكن فك تشفيرها وقراءتها بدون مشاكل لغوية. هذه الرسالة يمكن أن تصل الى قلوب وعقول الملايين بالتزام ومسؤولية وصدق وأخلاق عالية. وهكذا منذ البداية وضعت أسسًا وقواعد لأعمالي ونظرتي للحياة، وقد قررت منذ البداية بأن التصوير والتعبير الفني لم ولن يكون مصدر دخل لي وخاصة كطالب مهندس طموح.
منذ البداية كان همي التعرف عن قرب إلى المجتمع المجري الطيب، وقررت ان أدخل من باب الريف المجري والتعرف على معيشة الناس وأحوالهم عن قرب، حيث شعرت بكثير من السعادة والمحبة وكنت من خلال ذلك أجري مقارنة مع ريفنا في سوريا والبلاد العربية. كان الانسان ووضعه وحياته العائلية وعمله ومصدر رزقه هدف مواضيعي الفنية، فنالت أعمالي ترحيبًا كبيرًا لدى الكتاب والشعراء والمفكرين المجريين وعامة الشعب. أعمالي كانت بريئة وصادقة وأخذت الصحف والمجلات بنشرها كعناوين لها برفقة كتابة تعريف عن المصور حيث إن أحدهم كتب “لا يمكن ان يكون صاحب ومخرج هذه الصور غير مجري، لأن هذ الفهم العميق للمجتمع المجري لا يمكن أن يراه ويفهمه من هو خارج هذه البيئة.”
خلال دراستي، كنت أحضر وأستمع الى جميع الندوات الأدبية التي تعقد في المدينة، على الرغم من أنني لم أكن أفهمها جيدًا بسبب صعوبة اللغة. في هذه الأثناء كنت طالبًا، وأصبحت عضوًا مشاركًا وفاعلاً في نادي التصوير للمدينة، وقد لفتت أعمالي كبار أدباء ومفكري المجر، فنشأت صداقات شخصية وزيارات متبادلة وتلقيت منهم كل الدعم والتشجيع. كنت أفكر كيف أربط الينابيع لتصبح نهرًا، فقررت القيام بعمل كبير جدًا ويحتاج لوقت وتخطيط وسفر ومراجعات وبرمجة. قررت تصوير أشهر أدباء المجر في عصرهم، وفتحت لي معارض كثيرة بعنوان “أصدقائي الكتاب” على أمل الربط بين الثقافات من أجل فهمها بعضها لبعض حيث أقيمت معارضي في المتاحف وصالات العرض الراقية في الكثير من أنحاء العالم.
أعتقد بأن سر نجاحي الكبير في هنغاريا هو أنني نظرت إلى هذا البلد كشعب متماسك رغم وجود أكثر من 13 أقلية عرقية، وأكثر من عشر ديانات. فمنذ ما يقرب الستين عامًا، وأنا ـسكن هذا الوطن، ولم أستطع التمييز بين المجريين باستثناء الطبقة الغجرية والنوَر المحافظين على لباسهم وعاداتهم وتقاليدهم بشكل يومي ولهم كل الاحترام والتقدير.
- لو أتيح لك الآن أن تلتقط صورة لمشهد ما من الوطن، فماذا تختار أن تصور؟
كنت أرغب في توثيق دمشق القديمة كما أراها، لكن للأسف لم يحالفني الحظ في تنفيذ ما أريد. من المناسبات الرائعة التي قضيتها في سوريا، كانت مشاركتي في مهرجانات جبلة الثقافية، حيث التقيت الكثير من الأدباء والشعراء والمفكرين السوريين والعرب، في تلك المرحلة تمكنت من توثيق مدينة جبلة القديمة وهو إنجاز سبب لي الكثير من الارتياح والسعادة.
كما كنت محظوظًا في مرافقتي لأعضاء جمعية التراث الشعبي الهنغاري للغناء والرقص الذين زاروا سوريا للمشاركة في مهرجان بصرى الشام. في تلك الأثناء زرنا تدمر وأفاميا وقلعة الحصن وصلاح الدين، وصورت المدينة القديمة في حلب. للأسف هناك الكثير من المعالم التي صورتها قد دُمرت في الحرب، وهذا ما جعلني أتأكد بأن التوثيق أمر ضروري دائمًا. كان لديّ الكثير من الأحلام على صعيد تصوير المعالم والأمكنة السورية في مختلف المناطق، لكن الحرب دمرت هذه المشاريع، وأتى وباء كورونا كي يزيد الطين بلة.
- كيف تختار صورك؟ وهل هناك معاناة واجهتها أثناء مسيرتك الطويلة في هذا الفن؟
منذ البداية، وضعت مسارًا رئيسيًا لأهدافي وعملي الفني. لقد اخترت التوثيق وصور البورتريه لأشخاص مرموقين ومعروفين. في هذا العمل لابد أن تكون الصورة واقعية من دون استخدام للبرامج والأدوات التي تغير في الصورة الحقيقية، لأن الصورة مسؤولية توثيقية، وكما ذكرنا فهي ستأخذ دورها في البحث وقد تتحول إلى مصدر معلومات لدى الباحثين، لذلك لابد أن تكون حقيقية وصادقة.
قبل تغيير النظام الاشتراكي في هنغاريا ودول أوروبا الشرقية، كُتبت عن الريف المجري آلاف الصفحات وأخرجت آلاف الصور، لكن حسب الأكاديمية المجرية، من الصعب وجود صور مطابقة للواقع تمامًا، وذلك لأن وكالة الانباء المجرية كانت تخبر الفلاحين والناس بالمواعيد التي يجري فيها التصوير عادة، فكان الناس يحضّرون الطقوس والملابس المناسبة، وهو ما يفقدها الكثير من واقعيتها.
لقد استشهدوا بصوري، لأنني انطلقت في عملي من دافع ذاتي، فلم يرسلني أحد من أجل التقاط الصور، لا رئيس تحرير ولا مسؤول، ولم أتلق أجرة لقاء عملي، بل كان كل ذلك على نفقتي وبدافع شغفي بالتصوير. لذلك كانت معارضي محببة من قبل الاعلام والجمهور المجري وأغلبهم من الطبقة المثقفة. الآن، وأنا في هذا السنّ المتقدم أعاني من مشكلة تتعلق بكيفية الحفاظ على هذا الإرث الثقافي الموجود لديّ، هناك نتاج لأكثر من ثلاثين عامًا من العمل على شكل افلام متنوعة المقاسات والكثير من أقراص “الديابوزيتيف” وخزائن وصناديق مليئة بالأعمال الفنية، ويستغرق العمل من أجل وضعها بالديجيتال عدة سنوات. إن ذلك يتطلب عملاً جديًا بدون توقف اضافة الى تكاليف أدوات الحفظ والكومبيوتر وكاشف الصور/سكنر/ مع أدوات تحميل وحفظ بعدة نسخ عالية الجودة. هذا يفوق كل الامكانيات لديّ. علمًا أنه وقبل عشر سنوات كانت هناك فكرة لإنشاء “دار اسكندر للثقافة” في مدينة “كشكميت” في المجر، لكن مع الاسف هذا الحلم أصبح بعيد المنال، حيث تغيرت الامور كثيرًا في هذا المجال وفي هذه الاوقات الصعبة مع تقدمي بالعمر.
- الصور اليوم جزء من ذاكرة الأمم، ما هي أهمية وجود الأراشيف الوطنية التي تؤرّخ للأشخاص والأحداث والأماكن؟
الأرشيف هو المستقبل الحي للفرد والعائلة والوطن، هو بمثابة الهوية الشخصية، لذلك يجب ان يأخذ أولوية للحفاظ عليه سواء كان ورقيًا على شكل مطبوعات، أم بلغة العصر على شكل صور وأفلام ديجيتال، ليتاح البحث الآمن والنزيه للمكاتب والمتاحف ومؤسسات البحث العلمي والمؤرخين وحتى الأفراد والطلاب. فهو مهم بالنسبة لدائرة المحفوظات في المحافظات والمدن، ويجب أن يكون بأيد أمينة مختصة ومهنية مسؤولة، بحيث يتوفر بعدة نسخ وعدة أمكنة للحفاظ عليه من التلف.
كم أتمنى أن يقوم أثرياء وطني الأم، بتشجيع ودعم الفنانين والأدباء بشكل مستمر ودائم من أجل الحصول على إنجازات مبدعة تغذي ذاكرة الوطن وتظل زوادة للأجيال القادمة. هناك الكثير من المشاريع التي تتطلب جهدًا مؤسساتيًا ودعمًا كبيرًا حتى يتم إنجازها بالشكل الصحيح، وهذا بالطبع لا يملكه الأفراد، بل لابد من تضافر جهود الجميع، كل حسب اختصاصه، من أجل الوصول إلى الإنتاج الراقي الذي يعتز به الوطن.
- هل من نصيحة تقدمها لفناني التصوير الضوئي الشباب في الوطن حول تقنيات العمل وتخزين الأعمال وأرشفتها وما إلى ذلك؟
كل ما أريده وأطلبه من الشابات والشباب المصورين، أن يكونوا واعين ومستوعبين لعملهم، وأن يحددوا صفة العمل وهدفه قبل البدء. عليهم أن يحددوا هل هم مصورون أم فنانون أو مصلّحو أدوات تصوير أم هواة في استخدام التقنيات؟
إن منطقتنا خزان ومستودع كبير للتصوير، ولابد للشباب أن يعملوا بجدّ لأن الزمن لا يرحم والأمكنة لا تثبت على حالها. عليهم العمل بصدق وشغف لأن عملهم سيكون جزءًا من الذاكرة الوطنية التي ستنتقل إلى الأجيال ولابد أن تكون واقعية أمينة كي تعطي الدروس والعبر وحتى تستحق أن نسميها بالوثيقة التاريخية.