المدينة والعمران: توليد الهوية-نجيب نصير
Share
لغوياً، بما يعني تاريخياً إلى حد ما، في العُربة حيث نشأت اللغة في حضن مناخ وتضاريس أرضية خاصة، لم تكن المدينة / القرية / البلدة / المملكة وقتئذ أكثر من مضارب من أبنية ثابتة تجتمع حول الماء.وكانت تنسب إلى صاحبها الذي كثف هويتها في شخصه، جامعاً تحت كنفه الخدمات الروحية والمادية كملك، حيث تطورت علاقات تبادلية، هي بين التجارة والحرب، صنعت تمايزاً بين “المدن”. واستمرت في التطور لتصبح حضراً يؤمن الخدمات المادية والروحية لأهل العُربة، حيث لا معمار محدداً أو متمايزاً يحدد العلاقات المدينية، إلا في استثناء وحيد هو مكة المكرمة، نظراً إلى تمايز المعبد فيها عن باقي البنية المعمارية، حيث تشاركت القبائل والبطون في قيادتها، في دمج غير متمايز بين السلطة والعبادة والتجارة، كممارسة خصوصية متمايزة للمكان البيئي / الجغرافي الذي يفترض ويفرض ثقافة اجتماعية تقوم على الأصالة والتأصيل لخبرات العيش في العُربة (الصحراء الرملية)
.
فالمدينة تاريخياً في العالم القديم تقوم على ثلاثة أسس، هي المعبد والقصر والسوق، حيث اجتمع حول معمارها المركزي السكان في خضوع لنوعية العلاقات الحقوقية التي تفرزها هاتيك الأسس. ومع تطور الإنتاج المديني، بما يعني توسع السوق والمصالح، توسعت المدينة لتصبح عاصمة لإقليم أو أكثر فارضةً ومخضعة البلدان لعلاقات قانونية تناسب مصالحها، لتتحول إلى مركز سلطوي بقوة الإنتاج الذي يحتاج إليه السوق والقصر، ما أزاح المعبد الذي لا يعبأ بالإنتاج ليتحول إلى قيمة فولكلورية تبعث على الفخر والمتعة، ليحل محله المجلس التشريعي القادر على تنظيم العلاقات الدنيوية في البلدة ليحولها إلى مدينة (city) . ومن ثم، ومع تعاظم حاجة الإنتاج إلى المعرفة، أضحت المدينة منتجة لتمايزها (هويتها) بالتطابق مع الإنجاز المعرفي الذي يضع هندسة للعيش فيها، مقدماً تصاميم حياتية تقوم بدورها التربوي في خدمة الإنتاج.
اليوم لا يمكن الكلام عن المدينة والمدينية تاريخياً، خصوصاً في بلدان الناطقين بالعربية. فعصر الأنوار صنع قطعاً معرفياً بين المدينة التاريخية والمدينة الحديثة، ليس بالشكل المعماري الوظيفي فقط بل بفلسفة العلاقات المجتمعية التي تحكم السلوك والأداء، بحيث لا يمكن الحديث عن مدينة “عربية” حقيقية ومعاصرة من دون فحص ذلك التطابق بين الوظيفة وثقافتها. فالسيارة (على سبيل المثال) لا تنفصل عن قانون السير والمرور، ولا عن وجود الطرقات والشوارع وصيانتها، ولا عن الضرائب التي تجمع لتحسينها، ولا عن الذوق والأخلاق المرافقة لحسن قيادة السيارة، وكلها تطبيقات مدينية تشارك وتسهل الإنتاج الذي يفرز الهوية. فالهوية المدينية المعاصرة هي وليدة منتجاتها (صناعةً وغلالاً وفكراً) المختلفة عن ومع تلك المنتجات المتقادمة، بما يعني أن الهوية شأن متحرك إرتقائياً يعبّر عن إرتقاء السلوك الناتج عن المعرفة التي تحفزها المدينة وتذكيها.
لما تزل “المدينة” العربية تقف متحفزة، ولكنها حائرة ومترددة بصدد تبني المدينية كثقافة تفرز سلوكاً يلبي المصالح الفردية للمجموع العام، حيث لا تبدو أنها خاضعة ثقافياً لشروط عقد إجتماعي واضح ومعلن يولد سلوكات إنتاجية مدينية، بل هي أقرب إلى نماذج هجينة ناتجة عن تلاقحات غير تفاعلية بين تقاليدية تراثية وبين إستحقاقات عمرانية محدثة تنتج أزمات متوالية ومتضخمة. وكلها ناتجة عن تقصير ثقافي إنتاجي عبر الحفاظ على ثقافة لا تجرؤ على خرق التقاليدية التراثوية لخدمة العيش المديني، بل يسايرها خضوعاً أو تقية أو تكتيكاً ليقع في المطب الكارثي في إيجاده حلولاً للأزمات التي نتجت عن تلك الهجانة. هي عبارة عن إدارة لتلك الأزمات ريثما تحل ثقافة الماضي الواعدة بالحلول، على الرغم من أن ثقافة الماضي ليست مدينية ولم تقم على أساسها “المدن”، ولا تستطيع أن تغيّر من إستحقاقات المدينية شيئاً. فالأزمات الاجتماعية المعيشية والحياتية ما تزال تتبلور وتتصلب واقفة على تضاد مع الهندسة المعرفية المعمول بها في المدن المدينية.
ليست الريفية (الفلاحية أو البدوية) هي الأنموذج المعاكس للمدينية، بل التقاليدية التراثية خصوصاً مع إعتبار أن العقد الاجتماعي يطال جميع أفراد الدولة. فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات كثقافة مساواتية، تجمع ولا تفرق، توحد ولا تقسم. فعشوائيات المدن العربية ليست سكناً ريفياً معمارياً، ولكنها تعبير عن نقصان حاد بالتنمية البشرية. فالسكن في هذه الشروط المنقوصة هو ممارسة لمعرفة منقوصة، واستمرارها هو استمرار للجهالة التي لا تفضي إلى إنتاج. والجهالة هنا ليست فقط بعدم التحصل على المعرفة المدينية المعاصرة، بل بالعمل ضد هذه المعرفة التي عليها هندسة تسديد إستحقاقات المدينية المعاصرة. فالمدينة المعاصرة ليست مجرد خدمات تسهيلية تقع على عاتق التكنولوجيات، وإنما تعتمد إعتماداً تأسيسياً على الذهنية المناسبة لتلك الخدمات التكنولوجية. فالتمدنية لا تتحقق في ظل ذهنية أو ذهنيات مقاومة للمعرفة عبر ممارسة إنتقائية لها. والتكنولوجيات كمعرفة (مثالاً) ليست واقعاً تراثياً مشابهاً ومعدلاً. فالسيارة ليست حصاناً أو جملاً حديدياً، والسكن الطابقي ليس إستبدالاً بين الأفقي والعمودي فقط، بل هو ذهنية مجتمعية تجددت فيها السلوكيات بتجدد الثقافة المنتجة لها لمجرد الإنتقال للعيش في المستوطنة المدينية. فلا عيش مدينياً (ناهيك عن الحياة) دون ذهنية مدينية، فتساوي الرجل والمرأة حقوقياً بشكل معلن وحقيقي وممارس (كمثال) لا تقوم للمدينية قائمة من دونه، وبالتالي فإن أي تطلب مديني مشروط بممارسة الذهنية التعاقدية المدينية المعاصرة، وإلا من العبث المطالبة بخدمات مدينية كاملة دون ممارسة ذهنية مدينية كاملة.
إن الوجه الأساسي للمدينة هو العمران بما يعنيه من بنى تخدم بعضها بعضاً وتدعم بعضها بعضاً بواسطة الأفراد قاطني المدينة. فالميترو كوسيلة مواصلات مدينية لا يسعى إلى تسهيل حركة التنقل فقط كمصلحة، بل يسعى إلى تيسير الإنتاج أيضاً عبر وصول المنتجين إلى مراكز إنتاجهم بأقل عناء ممكن، وبجاهزية أقرب الى الإكتمال. وهكذا يقوم الإنسان المديني بتصميم العمران وإنتاجه (بناءً وصيانة) وتطويره بما لديه من إمكانيات معرفية. ويقوم التصميم بإعادة إنتاج الإنسان مرة أخرى، إذ أن التصميم نفسه يعود ويقوم بتصميم الإنسان أيضاً، طالباً منه الإرتقاء إلى تصميم جديد في حركة دورانية مرتقية.
يتحطم الأداء المديني المولد للهوية بسبب ثقافة الجهالة المنتجة للسلوك التخريبي لهندسة المدينة. وثقافة الجهالة هي تلك المعرفة التقليدية والتقاليدية طقسياً، والعرفية حقوقياً والناتجة عن نفس أساليب التفكير لإنتاج ثقافة المعرفة. ولكنها تفترق عنها بإعدام المساواة أو ترويضها عبر إستبدالها بالعدالة العرفية، مفرزة من لدنها كل أشكال الخراب المديني (الفساد، الرشوة، العنف المموه ، إستباحة الأملاك العامة، المخالفات المعمارية، قذارة المكان المديني، التحايل على الضرائب، الثأر، جرائم الشرف، التكتلات الطائفية والمذهبية والقبلية والإتنية إلخ). يقابل هذا الأداء وينجدل معه شكوى دائمة ونقيق ومطالبات وشعور بالمظلومية، يرافقه شعور برفعة المحتد السلالي، ومقارنات مع مدن أخرى خصوصاً الغربية منها. هذه كلها وغيرها كثير تشغل الفضاء المديني وتقوده إلى الحنق والفرقة والعنف والضوضاء وإختلال التنظيم العام، وهي عوامل معاكسة للإجتماع البشري القائم على التسالم والتفاهم والتراضي ومن ثم التعاقد الضامن لسيرورة المدينة حتى إعلان أعضائها لهويتهم الجامعة. وهو أمر يحدث بالإرادة التي تقترحها ثقافة المعرفة، بعكس الهويات المتناحرة التي تحدث بالإسالة التوارثية (الأصالية) التي تفرضها ثقافة الجهالة. والفارق هنا هو مبادرة الفرد ومشاركته في تبني وتفعيل ثقافة المعرفة وممارستها، الأمر الذي يبيح له المطالبة بالخدمات المدينية وتكنولوجياتها المركبة. فالخارج عن ثقافة المعرفة والرافض لها سيعمل على جعل المدينة مكاناً هلامياً بلا ملامح متميزة تفضي إلى هوية واضحة ومعلنة، بل سوف يتم تقاسم فضاءات المدينة التفاعلية بين “هويات” هلامية متناحرة تخر صريعة أمام أي تحد معرفي.
ربما من المفيد هنا التعريج على ثقافة المشافهة (قد يحتاج الموضوع إلى ورقة منفصلة)، أو الثقافة الشفهية المنبرية، وهي ثقافة لغوية (من لغو) جهالية بامتياز. وهي من أشرس أعداء التمدن والمدينية سطوة، وتقابل اللغة الشفاهية وتعاكسها اللغة التعاقدية المسؤولياتية التي تحمل ممارسها مسؤولية التعامل بها قانونياً وليس عرفياً. فالمنبريون وأصحاب التعليمات الشفهية داخل الإدارات والأجهزة، وكذلك دعاة الأخلاق التقاليدية المشرفة، ومبشرو التراث المأثور والمبجل، يصبحون غير مسؤولين عن نتائج تداول الثقافة الشفاهية، ليس من ناحية الحفاظ على الأمية إن كانت ثقافية أو لغوية فقط، بل عن الكوارث السلوكية والجرمية التي تحصل في حق الهوية المدينية المطالبة دوماً بالإرتقاء. ومثالنا على ذلك هو عندما استدعي المحرض على قتل نجيب محفوظ للتحقيق، فاستطاع التملص بسهولة من مسؤوليته إذ قال: “أنا لم أحرض أحداً فقط كنت أقوم بتفسير آية قرآنية ففهمها المعتديان على محفوظ بهذه الطريقة، ولا شيء يثبت أنني طلبت منهما ذلك”. ليبدو هذا المثال متطابقاً مع جل السلوكيات الناتجة عن هذه الثقافة، إذ لا مسؤول محدداً وواضحاً، ولا إرادة واضحة، ولا منظومة حقوقية واضحة ومعلنة تنظم العيش المديني “العربي” في ظل هكذا ثقافة حمالة أوجه وغير واضحة المقاصد.
الفضاء العمراني المديني هو فضاء فعال ومنتج وإبداعي أيضاً، هو بحاجة دائمة للمنتوج غير المسبوق، أو تطوير ما سبق وتم إنجازه. وهو فضاء مقونن تبيح قوننته بالتجاوز الإيجابي لها، في عملية جدلية تفاعلية بين الإبداع والقانون، للدخول في عملية تربوية تؤدي إلى رعاية الإبداع وإنتاجه، ليصبح قانونياً بعد ضمان أخلاقيته ومنفعته للمجموع، لتبدو الفضائل كمنتجات إنسانية حياتية بحتة، قادرة على بناء وإنجاز هوية مميزة منسجمة مع حقوق الحياة المشروطة بالكرامة الإنسانية.
مقال مهم جدا،لأنه يسلط الضؤ علي التقليد ،دون الإنتاج وتطوير ما نصل أليه فكريا وعمليا ، وضعنا الحالي هو نتيجة الإدارة السيئة للمواطن ، التي تجعله يعتقد انه بتقليده للغرب يتطور بطريقة اسرع (السيارة،التلفون المحمولــ ،الاوتستراد السريع…)، .
كنت منتظر ان تلقي الضؤ علي اين كنا وأين اصبحنا، وماذا علي مؤسستانا أن تفعل حتي لا نكون سوي مقليدين كالببغاء دون تنظيم وتخطيط، شكرا علي هذا المفال