القطاع العام السوري يعاني الترهل وغياب الرؤية والفساد
Share
خبير تنموي: الزراعة في تراجع مستمر وانخفاض مساهمتها في الدخل الوطني إلى 5% فقط
باحثة اقتصادية: القطاع العام لايزال ينظر لنفسه على أنه تاجر.. والمفترض أن يكون داعماً للفقراء بربح بسيط
ميليا اسبر – دمشق – خاص الفينيق
كل دول العالم تضع ثقلها في القطاع العام لأنه يحمل اقتصادها أيام الرخاء وفي الأزمات مهما عصفت بها الرياح، لكن القطاع العام في سورية بمعظم مؤسساته تاريخياً يشهد الكثير من الترهل والتراجع ما يجعل الفرصة مهيأة دائما أمام القطاع الخاص للنهوض والتحكم باقتصاد البلد وفق شروطه ومصالحه، لذلك نحصد اليوم ما آل إليه القطاع العام من نتائج غير مرضية ولا تلبي طموح المواطن السوري .
لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي سببته الحرب في ترهل القطاع العام، لكن بالمقابل من غير المنطقي أن نلقي بالأخطاء على الحرب فقط، ونجعل منها شماعة نعلق عليها فشل القائمين على هذا القطاع في تحقيق أي مشروع!
مثلا قطاع الزراعة كان سابقا يساهم بحوالي 50% من الدخل القومي لسورية، بينما اليوم لا تتجاوز مساهمته 5% فقط، كما أنّ القطاع الصناعي ليس بأفضل حال فكثير من مؤسساته خسرت ومنها أغلقت في سنوات الحرب الأولى بعد تدميرها من قبل العصابات الارهابية مثل الشركة العامة للصناعات المعدنية (بردى) وفقدان معظم خطوط انتاجها وعمالها.
يقول الباحثون الاقتصاديون إنّ ترهل القطاع العام في سورية يعود إلى غياب الرؤية والتطبيق لتنشيط الاقتصاد العام، حيث لا يوجد خطة وإن وجدت لا يتم تنفيذها، إضافة إلى عراقيل البيروقراطية التي تمنع أي مبادر مخلص بالقطاع العام من انجاز تحسين بالأداء..
تدمير شبه كامل
تحدث القائمون على بعض المؤسسات الصناعية عن ظروف العمل داخل المؤسسة وكيف أن الحرب تسببت في انهيار وتدمير الشركة وتراجع كبير جدا في انتاجها.
المهندس بسام سعد الدين معاون مدير عام الشركة العامة للصناعات المعدنية (بردى) يقول إنها شركة عريقة تأسست عام 1966، بمساحة تبلغ 143 ألف م2وكانت من أهم شركات القطاع العام في سورية تتميز بجودة منتجاتها، إلا أن خسائرها خلال الحرب ربما تقدر بعشرات المليارات، كما خسرت جزءاً كبيراً من عمالها، فسابقاً كان عدد العمال 1200 عامل من كافة الاختصاصات، بينما حاليا لا يتجاوزون 110 عمال فقط، علماً أن شركة بردى كانت تمتلك خطوط انتاج للبرادات والغسالات والافران لكن مقرها الأساسي كان في منطقة السبينة الصغرى (العسالة) حيث سيطرت العصابات المسلحة على المنطقة آنذاك، فاضطرت الشركة لمغادرة المكان قسرياً، وتوقفت عن العمل بشكل كامل حوالي سنتين من عام 2012- 2014 مع فقدان كامل لخطوط الانتاج والبنى التحتية.
انتاجها 10% فقط
تراجع انتاج الشركة العامة للصناعات المعدنية (بردى) بشكل كبير حيث لا يتجاوز 10% عما كان عليه قبل الحرب. سابقاً كانت الشركة تنتج 200- 2
50 براد يومياً، وفي إحدى السنوات وصل الانتاج إلى 125 ألف براد، لكن في الوقت الراهن تعمل الشركة حسب الامكانيات المادية، مشيراً إلى أنّ الشركة طالبت بدعمها من قبل الجهات الوصائية مادياً وأيضاً رفدها بكوادر فنيية وعمال من أجل اعادة الاقلاع والبدء بإنتاج خطوط للبرادات ومن ثم للغسالات، وفي حال تم ذلك ستعود الشركة خلال سنوات قليلة إلى ألقها وازدهارها .
أثبت وجوده
بدوره مدير عام شركة الأحذية شريف الحسن يقول إن القطاع الصناعي أثبت وجوده خلال الحرب، حيث يتبع للشركة أربعة معامل متواجدة في درعا –السويداء- النبك ، مصياف، معمل درعا تم تدميره من قبل المجموعات الإرهابية، كذلك معمل النبك تم سرقة الآلات الموجودة فيه منذ سنوات، أما المعملان الأساسيان اللذان يعملان بطاقة انتاجية كاملة فهما في مصياف والسويداء، وهما ينتجان كافة أنواع الأحذية الاحذية المهنية والعادية.
وأوضح الحسن أنه تم تعديل خطوط انتاج لحوالي 35 آلة جديدة، وحالياً يوجد إعلان عن 16 مكنة حديثة، لكن بكل أسف لم يتقدم أحد من الموردين حتى اللحظة بسبب الغلاء وعدم استقرار سعر الصرف، لافتاً أنه خلال فترة الحرب بين عامي 2013- 2016 تأثرت الشركة وهذا طبيعي لاسيما مع خروج معملين عن الخدمة إضافة إلى خسارة جزء كبير من اليد العاملة، وحالياً في كل المعامل الأربعة لا يتجاوز العدد 500 عامل، لافتاً أن انتاج الشركة الحالي يتراوح بين 1500-2000 زوج حذاء يومياً، علماً أن الأنواع المصنعة جيدة، وأنّ معظم المواد الاولية داخلية، وهناك بعض المواد مستوردة مثل مادة الحبيبات البلاستكية المصنعة وبعض اللاصقات.
وختم الحسن بالقول: إن أرباح الشركة هذا العام لحد الآن هو مليار ليرة، بينما وصل اجمالي أرباحها العام الماضي مليار و800 مليون ليرة، رغم تأثيرات الحرب عليها والظروف الصعبة التي مرت بها.
القطاع الزراعي
القطاع الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي يعد من أهم القطاعات في الاقتصاد السوري، لأن سورية بلد زراعي أولا وأخيراً، إلا أن هذا القطاع شهد ما يشبه الانهيار من ناحية تأمين سلته الغذائية من الانتاج النباتي، إضافة إلى خسارة نصف الثروة الحيوانية خلال سنوات الحرب.
مرتبط بالعرض والطلب
مدير مؤسسة الدواجن المهندس سراج خضر ذكر أنّ قطاع الدواجن سلسلة متواصلة بدءاً من استيراد العلف، مروراً بالحظائر والمسالخ إلى توضيب الفروج إلى مبيع الجملة والمفرق … ولكن أسعار المنتجات (بيض وفروج) مرتبطة بالعرض والطلب وبعيدة كل البعد عن القوانين الاقتصادية المعروفة، كما تحكم القطاع مزاجية التربية، ففي حال ارتفع سعر الفروج يسارع المربون إلى التربية والعكس صحيح، لافتا إلى أنه في ظل الحصار هناك متغيران أساسيان هما سعر الصرف، وارتفاع أسعار المواد العلفية والادوية البيطرية، مضيفاً أنّ الخسائر التي لحقت بالمربين أخرجتهم قسرياً عن الخدمة لذلك خسرنا انتاجهم، ناهيك عن تدمير المنشآت بشكل ممنهج وكذلك الجوائح المرضية كل هذه الامور مجتمعة تحدد سعر البيض والفروج!
مشكلة تاريخية
يضيف المهندس سراج خضر مدير مؤسسة الدواجن: مشكلة الدواجن مستمرة منذ أربعة عقود عندما بدأت مهنة تربية الدواجن، حيث تمر بفترات انتعاش وأخرى انحدار، فهي عبارة عن منحني بياني لا يستقر بشكل كامل، كما تحكمه العشوائية، لذلك يحتاج إلى الى تنظيم، وإلى مؤسسة تسويقية ذات رأسمال مال قوي يكون لها سلطة على المربين بحيث يكون العرض متوازن دون حدوث تذبذبات بهدف المحافظة على الاستقرار، حيث إن الأهم هو استقرار سعر العلف (الذرة والصويا) لأنهما السبب الأساسي في ارتفاع وانخفاض الكلفة، وغيرها من مستلزمات الانتاج.
المؤسسة من كبار المربين
يقول خضر إن مؤسسة الدواجن هي ضمن كبار المربين حالياً، مؤكداً أن انتاج 10 آلاف فرخة بياضة تكلف 200 مليون ليرة، لافتاً أن انتاج المؤسسة هذا العام حتى نهاية الشهر التاسع 75 – 80 مليون بيضة، وخطة المؤسسة لنهاية العام هو انتاج 100 مليون بيضة، تم تنفيذ 90% من الخطة، بينما خطة العام القادم انتاج 161 مليون بيضة، كذلك تم زيادة عدد القطعان إلى مليون و100 فرخة، بينما كان العام الماضي 600 الف فرخة، في حين بلغ إنتاج الفروج 600 طن لغاية الآن من العام الحالي، بينما صوص التربية وصل إلى 2 مليون صوص تربية، منوهاً أن المؤسسة تسعى لزيادة الانتاج على أن أمل أن تتحسن الظروف!
تشكل ثقلاً هاماً
للخبراء بالثروة الحيوانية رأيهم أيضاً في هذا الموضوع، فما هي مشاكل الثروة الحيوانية وكيفة تحسينها؟
الخبير في شؤون الثروة الحيوانية المهندس عبد الرحمن قرنفلة أشار إلى أن الثروة الحيوانية السورية تشكل ثقلاً هاماً في بنية الاقتصاد السوري وتشير البيانات الإحصائية إلى أنّ مساهمتها وصلت الى 45% من اجمالي الناتج الزراعي، مشيراً إلى وجود تبدل انتاج انواع الثروة الحيوانية من اللحوم والحليب وبيض المائدة للفترة من عام 1961 وحتى 2019 . حيث لوحظ وجود نمو ايجابي بالاتجاه العام خلال الفترة المدروسة وحتى بداية الازمة السورية 2011، وبعدها بدأت المؤشرات الانتاجية بالتراجع تحت تأثير الأزمة التي عصفت بالقطر والتي دفعت جهود تنمية الثروة الحيوانية سنوات عدة إلى الوراء، و قلبت أمور تنميتها رأسا على عقب وعكست مسارات خطط تطويرها، مضيفاً أن ذلك أدى إلى تأثر قطاع الأبقار والأغنام والماعز بشكل حاد نتيجة ذبح عدد كبير من الإناث، وتهريب أعداد باقية إلى الدول المجاورة، وانخفاض عدد القطيع المنتج والنامي بحدود تراوحت بين 25 و 40%، وانعدام إمكانية الانتقال إلى المراعي الطبيعية، إضافة إلى خروج مصانع المواد العلفية من الخدمة، وأيضاً إعاقة مراكز مؤسسة الاعلاف الحكومية عن توزيع المقننات العلفية.. مما ولد آثاراً خطيرة تمثلت بارتفاع أسعار المواد العلفية وانتشار نوعيات رديئة من الأعلاف أسهمت في خفض مستويات الإنتاج، وتراجع إنتاج أنثى الأغنام 70% وارتفاع نسب إجهاض إناث الحيوانات الحوامل فسجلت الأغنام نسب نفوق تجاوزت 18% في حالات كثيرة وهذا يفوق المعدل الطبيعي بنحو 6 مرات فضلاً عن ظهور مشاكل صحية مكلفة.
اجراءات
يقول قرنفلة إن من أهم الإجراءات اللازمة للنهوض بالثروة الحيوانية السورية، منح قروض دون فوائد لمربي الثروة الحيوانية لإعادة ترميم القطعان، وأيضاً تأمين كميات كافية من الاعلاف لتغطية العجز بالموارد العلفية المحلية، كذلك وضع برامج تطبيقية لتنمية المراعي الطبيعية، وتحديث انماط الانتاج الحيواني في البلاد، مبيناً أنه لا يوجد رقم احصائي دقيق لعدم انجاز أي احصاء بعد الأزمة، إلا أن التقديرات تشير إلى خسارة 35% من قطيع الاغنام وحوالي 25% من الأبقار، وحوالي 60% من الدواجن.
انهيار يشهده القطاع الزراعي
أما الخبير التنموي أكرم عفيف يتحدث عن قطاع الزراعة بشكل عام. يقول إن تاريخ سورية مرتبط بالإنتاج الزراعي منذ 7 آلاف عام، ولم يشهد هذا الانتاج انهياراً كما يشهده اليوم، وذلك بسبب غلاء التكاليف والخسائر، علماً أن قطاع الانتاج الزراعي عبر التاريخ وصل إلى حدود 50% من إجمالي الدخل القومي في سورية ومن ثم انخفض إلى 37% وبعدها تراجع إلى 27%، ليصل إلى 15%، وحالياً لا تتجاوز مساهمته 5- 6% فقط، مشيرا إلىً أنّ التدهور الذي يحصل ليس فقط نتيجة خروج أراض زراعية من الخدمة كما حصل في محافظة الحسكة وغيرها، بل إن السبب الأهم ارتفاع تكاليف الزراعة، فمثلا سعر ليتر المازوت هو 500 ليرة، لكن في حقيقة الأمر يشتريه الفلاح بسعر 4000 ليرة، وهذا يعني أن البئر الارتوازي يحتاج كل ساعة إلى حوالي 15ليتراً، أي ما يعادل 60 الف ليرة كل ساعة! وتالياً الفلاح يحتاج يومياً 200 ليتر، يعني 800 ألف ليرة، فمن الفلاح الذي يقدر على تمويل أرضه يوميا بهذا المبلغ، اضافة إلى ارتفاع أسعار السماد، كل تلك الأمور أدت إلى توقف الكثير من الفلاحين عن الزراعة.
التوجه للمشاريع الأسرية
وأوضح عفيف أن الحل الأمثل هو التوجه للمشاريع الأسرية، ففي سورية هناك حوالي 5 مليون أسرة منها 4 مليون تعاني العوز، حيث إن الفقر بالنسبة للاقتصادي كارثة أما بالنسبة للتنموي فهو فرصة للعمل، بحيث يجب أن يتم توجيه هؤلاء للعمل والانتاج، وتقسيمهم إلى ورشات عمل، وفي حال أنتجت كل ورشة أنواعاً مثل: برغل – مخللات – دبس فليفة – بندورة، إضافة الى تربية الدجاج، فهذا يعني تأمين السلة الغذائية، والوصول إلى إنتاج منافس على المستوى العالمي.. وأكد عفيف أن الشعب السوري يحتاج فقط إلى إدارة تفكر بطريقة مختلفة عن الحالية، كاشفاً أن سورية قادرة خلال ثلاثة أشهر على تأمين أمنها الغذائي لأنها زراعي، لاسيما أنّ معظم محاصيلها تغطي خلال أقل من 3 أشهر، لكن حالياً لا يوجد اكتفاء ذاتي وإنما هناك تدمير للمنتجين.
يعاني الترهل
من جهتا الباحثة الاقتصادية الدكتورة نسرين زريق ترى أن القطاع العام بسورية يعاني الترهل والتراجع وسبب ذلك يعود إلى غياب الرؤية والتطبيق لتنشيط الاقتصاد العام، لا يوجد خطة وإن وجدت فلا يتم تنفيذها، بالإضافة إلى عراقيل البيروقراطية التي تمنع أي مبادر مخلص في القطاع العام من انجاز تحسين في الأداء بسبب الفساد الذي أصبح فساداً باهظ الثمن فمن يأخذ رشاوى بالملايين او حتى بعشرات الآلاف لن يتوقف عن ذلك مهما ارتفع راتبه.
وأشارت زريق أن المشكلة في حال فشل القطاع العام الانتاجي والذي هو أشد الضرورات أهمية بالقطاع العام ككل خاصة لتحجيم الاحتكار وضبط الأسعار في الاسواق بالمنافسة يبقى القطاع العام بحال ذلك خدماتيا هزيلا، مشيرة إلى أنّ تنشيط القطاع العام الانتاجي مع تدعيم المنتجات بجودة عالية وأسعار منخفضة توازي الكلفة الحقيقية مع ربح بسيط لا يتجاوز عشرة بالمئة سيكون عادلاً لكل الأطراف، فالقطاع العام ليس موجوداً ليحقق ثروات ربحية من منتجاته بل هو موجود إنتاجياً لدعم الفقراء حتى يستطيعوا شراء ما يحتاجونه بسعر أقل من أسعار الماركات المتوفرة في الأسواق وجودة مقبولة نوعاً ما، لكن ما يحدث أن القطاع العام يقدم منتجاته بأسعار عالية و جودة متوسطة، حيث مازال هذا القطاع ينظر الى نفسه على أنه تاجر، بينما المفترض أن يكون داعماً بربح شديد البساطة، علماً أنه مع كل المعطيات مازالت الميزانية تصدر بعدد كبير من شرائح القطاع العام على أنها خاسرة!
وأضافت زريق أن القطاع العام لم يكن انتاجياً ولا خدمياً على المستوى المطلوب، لكن الحاجة إليه بلغت أقصاها في هذه الازمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، لذلك فإن المطلوب من الحكومة أن تعود للإنتاج لكن بسعر داعم للمواطن وليسب بسعر أقل من الاسواق بقليل. البلاد في أزمة غير مسبوقة من ارتفاع معدل التضخم وتتطلب دعماً للمواطنين غير مسبوق أيضاً عبر تأمين مختلف البضائع بسعر يقارب نصف أسعار السوق على الاقل، طالما أنه لا يوجد أمل أو قدرة على ضبط أسعار السوق في ظل هذا الفساد المتكدس!